تراث المتصوّفة من الأندلس حتى خراسان في كتاب مرجعيّ

تراث المتصوّفة من الأندلس حتى خراسان في كتاب مرجعيّ

لعبة الغرب في سورية تتكرر في أوكرانيا.. صور وفيديوهات مزيفة لحجب الحقائق
عبدالرزاق جرنه : “أمي كانت تعيش في مزرعة بإفريقيا”، أحدث قصة للفائز بجائزة نوبل للأدب
الدراما السورية: "حَكَم الهوا" على "اهل الغرام"

من ضخامة المتن الصوفي وقوته في زمن أتى فيه وقد انحطّ الأدب، شعراً ونثراً، تُعْتَبَرُ كل منتخبات منه تجد طريقها إلى النشر حدثاً ثقافياً عربياً مميَّزاً. كتاب «شمال والكأس فيها يمين» لمحي الدين محجوب (*)، الذي ننشر منه مقتطفات وافية، يكاد يكون الأشمل في موضوعه، ليس فقط باختياره 54 عَلَماً صوفياً، بل أيضاً لامتداد الرقعة الجغرافية لمادة اشتغاله من الأندلس غرباً حتى خراسان شرقاً.

في كتابه الرائد «التصوف: الثورة الروحية في الإسلام»، يورد أبو العلا عفيفي أصولاً تاريخية واشتقاقية لكلمتي «تصوّف» و«صوفي»، يمكن إجمالها في ما يلي: الكلمتان مستحدَثان بغداديَّان في الإسلام. وأوَّلُ من تَسمَّى بالـ«صوفي» كان جابر بن حيان، وفي الكوفة تحديداً. أما كأصل لغوي للكلمة، فتضاربَت الأقوال بين «ص/و/ ف» و«ص/ف/ و»، و«ص/ف/ف»، فنسبُوها إلى الصوف (كان مَلْبَساً لهم)، وإلى الصفاء (اتصفت به قلوبهم وبصيرتهم)، وإلى الصف، (حيث سيكونون في مقدمته مع النبي، بين يَدَيِ الله)، وإلى الصُّفة (صُفَّة مسجد النبي في المدينة، حيث أوى أهل الصُّفَّة، وهم جماعة من فقراء المهاجرين أُخرِجوا من
ديارهم)، وإلى الصِّفة، فصفات الله مِن أسس ما تكلموا به، وإلى الصوفانة (نبتة تَنبُت في الصحراء)، وإلى الكلمة اليونانية «صوفيا» (حكمة). التصوف، كنظرة روحية إلى الوجود وثورية إلى المجتمع، غيرُ التَّزَهُّد. فكثير من المتصوفة كانوا أبعدَ ما يكون عن حياة الزهد والتقشف والورع (كالشيخ الأكبر ابن عربي الذي كثيراً ما اتُّهِمَ بميول ارستقراطية طغت عليه كمثقف مبتعِد عن العوام). ورغم هذه الفروق، إلَّا أن ثمة ما يجمع كل المتصوفة قاطبةً تحت مسمَّى عِلْمِ العشقِ، عشق الذات الإلهية ومحاولة الفناء فيها حدَّ التَّوَحُّدِ معها. لذلك كثيراً ما يتم اتهامهم عبر نعتهم بالمتزندِقة وفق مذهب الحلول ووحدة الوجود الذي يقول بأن كل الكائنات والموجودات فاضت عن الذات الإلهية وكل رغبتها تتمثَّل في السعي إلى الحلول فيها من جديد. ومثلما تمّ التكالب من السلطان وفقهائه على عقلانية الكلام الاعتزالي في إعلائها شأن العقل على النقل، وعلى الرشدية في تنوّرها وفصلها العقيدة عن التفكير، وعلى أهم تبلور لِغُنُوصِ الإسماعيلية (إخوان الصفا) كتفكير نقدي موسوعي، تمَّ التنكيل بأعلام كُثرٍ من المتصوفة، بسبب إعلائهم للطريقة في وجه الشريعة، وجعل الاعتقاد أمراً شخصياً لا يحتاج إلى وساطة الفقهاء ولا تفسيراتهم الأحادية المجحِفة («ديني لنفسي ودين الناس للناس» ـ الحلاج)، بل حَرَّضوا الناس على الخروج عن السلطان (يؤكدُ هادي العلوي أنّ الحلاج كان على علاقة سرية بحركة القرامطة). وبلغ هذا التنكيل ذروته، حتى صارت تغلِبُ بعض الصفات على الأسماء: فثمة المصلوب (الحلاج)، والمقتول (السهروردي)، والمسلوخ (نسيمي)، وشهيدة العشق الإلهي (رابعة العدوية).

أمَّا في السياق الثقافي (الشعري)، فقد أنقذ المتصوفة القصيدة العربية من انحطاطها، غارفين من غَرَضَيِ الخمريات والغزل، لكن عبر تحويل رمزية معجمهما نحو منحى أكثر روحانية وبلاغة (الخمرة، الكأس، الدِّنّ، الخَرَابَة، الخمارة، الجديلة، الشعر، العينان، البلبل، الوردة، البستان، البدن…). كما أسّسوا، بشكل من الأشكال، لفلسفة الاختلاف ونفي الأنا من خلال مخاطبة الله بِنِدِّيَّةٍ تلتبس فيها الربوبية بالناسوتية، وتنفتح فيها أنا المتصوفة على أكثر من أنا.

يتحسَّسُ الفرس كثيراً من مصطلح «تصوف»، الذي وضّحنا أعلاه مدى التباسه وتعدد تفاسيره؛ ويفضلون عليه مصطلح «عرفان»، باعتباره معرفة قلبية تَتَكَشَّفُ للمتصوف، إزاء البرهان كمعرفة عقلية يبرهن عليها العقلاني، والبيان كمعرفة تستند إلى استقراء المتن الديني كلاماً وفقهاً.

ما زالت المكتبة العربية بحاجة إلى رفدها بمنتخبات حسب الأسماء والطبقات والجغرافيات والألسن، إذ لا نزال نجهل الكثير، مثلاً، عن التصوف الفارسي (دبَّت الشيخوخة في ترجماته القديمة، التي تعتريها الكثير من الركاكة؛ وكثير من ترجماته الحديثة التي حاولت الترجمة نظمها يعتريها الحشو والافتعال) والعثماني والناطق بالأوردو وباقي لغات الشرق الأقصى. بل نحن أيضاً بحاجة إلى تصوف باقي المِلَل غير الإسلامية (ابن ميمون، بولعافية، القديس يوحنا الصليب، تيريزا الأفيلاوية، التَّاو الصيني والزِّن الياباني…) ترجمةً ودراسةً.

مقتطفات من كتاب «شمال والكأس فيها يمين» لمحي الدين محجوب، صادر عن دار تانيت للنشر والدراسات، المغرب.
1. إبراهيم بن أدهم: قطّعتني في الحبّ (**)
تركتُ الخلق طرّا في رضاكا · وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ إرباً · لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

2. إبراهيم الجعبري: عينا حبّي
أرى غرامًا وتعذيبًا وفرط جوى · وحرقةً في الهوى تعلو على سقر
ولست أدري بمن وجدي ولا نظرتْ · عيناي حبّي في بدوٍ وفي حضر
فهل رأيتم النّاس أعجب من · حالي وقطّ سمعتم مثل ذا الخبر
أذوب شوقا إلى من لستُ أعرفه · ولا المحبّ خيالاَ منه في عمري

3. إبراهيم الخوّاص: جوارحهم محجّبة
معطّلةٌ أجسامهم لا عيونهم · ترى ما عليهم من قضاياه قد يجري
جوارحهم عن كلّ لهوٍ وزينةٍ · محجّبةٌ ما إنْ تمرّ إلى أمرِ

4. إبراهيم الدّسوقي: عينُ الذّات
تجلّى لي المحبوب في كلّ وجهةِ · فشاهدته في كلّ معنى وصورةِ
وخاطبني منّي بكشف سرائر · تعالتْ عن الأغيار لطفًا وجلّتِ
وانظر في مرآة ذاتي مشاهدًا · لذاتي بذاتي وهي غاية ذاتي
وما شهدتْ عيني سوى عين ذاتها · لأنّ سواها لا يلمُّ بفكرتي
فأغدو وأمري بين أمرين واقفٌ · علومي تمحوني ووجدي مثبتي

5. ابن أبي المطيع: لجامُ صمتٍ
لسانُ المرء ليثٌ في كمينٍ · إذا خلى عليه له إغاره
فصنه عن الخنا بلجام صمتٍ · يكن لك من بليّاتٍ ستاره

6. ابن العطّار: احتجبتُ عن الحجاب
رفعتْ مقاماتُ الوصول حجابي · حتى احتجبتُ بكم عن الحجابِ
ولزمتُ محرابي لزوم مجمعٍ · فرأيتُ وجه الحقّ في المحراب
وقتلتُ من نفسي غلامًا قَتْلُهُ · سببُ النّجاة وأعظم الأسباب
وخرقتُ لوح سفينتي لأعيبها · فنجوتُ من ملكٍ لها غصّاب
وكشفتُ عن قلبي جدار حجابه · عن كنزه الباقي بغير ذهاب
ورقيتُ في السّبع السّموات العلى · حتى دنوتُ فكنتُ مثل القاب

7. ابن عطاء الله الإسكندري: المعنى
لي فيك معنى ما تبدّى سرّه · إلاّ ثنى طرفي ومدّ عناني

8. ابن المرحّل السّبتي: بين أضلعي
ومن عجبٍ أنّي أحنّ إليهم · واسأل شوقًا عنهم وهم معي
وتبكيهم عيني وهم بسوادها · ويشكو النّوى قلبي وهم بين أضلعي

9. أبو بكر الشّبلي: تحوّلات
والهجر لو سكن الجنان تحوّلتْ · نعم الجنان على العبيد جحيما
والوصل لو سكن الجحيم تحوّلتْ · حرّ السّعير على العباد نعيما

10. أبو الحسن الجوسقي: كلّها بكلّها
روحي إليك بكلّها قد أجمعتْ · لو أنّ فيك هلاكها ما أقلعتْ
تبكي عليك في كلّها بكلّها · حتى يقال من البكاء تقطّعتْ
فانظر إليها نظرة بمودّةٍ · فلربّما منعتها فتمنّعتْ

11. أبو الحسن الصّباغ: لهبُ الشّربِ
وردنا على أنّ الهوى مشربٌ عذبُ · وحطّ به للسّفر أشواقه الرّكب
فلمّا وردنا ماءه ألهب الظما · ألا من رأى ظمآن ألهبه الشّرب
أكبُّ الهوى يذكي علىّ زناده · أيا قادحا أمسك فقد علق الحب
ولو أنني أخليت قلبي لغيركم · من النّاس محبوبًا لما وسع القلب

12. أبو حمزة الخراساني: الحياةُ مع الحتفِ
أهابك أنْ أُبدي إليك الذي أخفي · وسرّي يبدي ما يقول له طرفي
نهاني حيائي منك أنْ أكتم الهوى · وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطّفت في أمري فأبديت شاهدي · إلى غائبي واللّطف يدرك باللّطف
تراءيت لي بالغيب حتى كأنّما · تبشّرني بالغيب أنّك في الكفّ
أراك وبي من هيبتي لك وحشة · فتؤنسني باللّطف منك وبالعطف
وتحيي مُحبًّا أنت في الحبّ حتفه · وذا عجب كون الحياة مع الحتف

13. أبو سعيد الخرّاز: همومهم جوّالةٌ
حنينُ قلوب العارفين إلى الذّكر · وتذكارهم وقت المناجاة للسرّ
أُديرتْ كؤوسٌ للمنايا عليهم · فاغفوا عن الدّنيا كإغفاء ذي السّكر
همومهم جوّالةٌ بمعسكر · به أهلُ ودّ الله كالأنجم الزّهر
فأجسامهم في الأرض قتلى به · وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما غرسوا إلاّ بقرب حبيبهم · وما عرجوا عن مسّ بؤسٍ ولا ضرّ

14. أبو العباس بن العريف: أذكى من القبس
ما زلتُ مذ سكنوا قلبي أصونُ لهم · لحظي وسمعي ونطقي إذ همُ أُنسي
حلوا الفؤاد فما أندى ولو وطئوا · صخرًا لجاد بماءٍ منه مُنبجس
وفي الحشا نزلوا والوهمُ يخرجهم · فكيف قرّوا على أذكى من القبس

15. أبو العباس المرسي: صفاتي كالشّمس
ذاب رسمي وصحّ صدقُ فنائي · وتجلّتْ للسرّ شمسُ ضيائي
وتنزّلْتُ في العوالم أُبدي · ما انطوى في الصّفاتِ بعد صفائي
فصفاتي كالشّمس تُبدي سناها · ووجودي كاللّيل يُخفي سوائي

16. أبو علي الدقّاق: سكرتان
لي سكرتانِ وللنّدمانِ واحدةٌ · شيءٌ خُصصتُ به من بينهم وحدي

17. أبو الفتح السّهروردي: يسطو علىّ شعاعها
شربنا على روضِ الرّبيع المهفهفِ · فجادلنا السّاقي بصهباءَ قرقفِ
فلمّا شربناها ودبّ دبيبها · على موضع الأسرار قلت لها قفي
مخافة أنْ يسطو علىّ شعاعها · فيظهر جلاّسي على سرّي الخفي

18. أبو القاسم الجنيد: صيّرك الوجدُ
وتحقَّقْتُك في سرّي · فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعانٍ · وافترقنا لمعانِ
إنْ يكن غيَّبك التّعظيم · عن لفظ عياني
فلقد صيرّك الوجدُ · من الأحشاءِ دانِ

19. أبو القاسم بن منصور المكي: كيف بُرئي
كيف بُرئي وداءُ وجدي عضالُ · ونهوضي وعثرتي لا تُقالُ
وعزيز على أهون شيء · في هواه ما قالت العذّالُ
يا نسيم الشّمال من أرض نجد · فيك للصّب صحّة واعتلالُ
لي بالجزع حاجة ليس تقضى · وغريم يلذُّ منه المطالُ
يا لقومي كم ذا تلّ سيوف · لقتالي وكم تراشُ نبالُ
أنت أحلى في القلب من أمل · القلب إذا ما تناهتِ الآمالُ

20. أبو المواهب التونسي: في كلّ جارحةٍ عين
من فاته منك وصلٌ حظّهُ النّدمُ · ومن تكنْ همّه تسمو به الهممُ
وناظرٌ في سوى معناك حقّ له · يقتصُّ من جفنهِ بالدّمعِ وهو دمُ
والسّمعُ إنْ جال فيه من يحدّثه · سوى حديثك أمسى وقرهُ الصّممُ
في كلّ جارحةٍ عينٌ أراك بها · منّي وفي كلّ عضوٍ بالثّناء فمُ
فإنْ تكلّمتُ لم أنطقْ بغيركم · وكلّ قلبي مشغوفٌ بحبّكمُ
أخذتمُ الرّوحَ منّي في ملاطفةٍ · فلستُ أعرفُ غيرًا مذ عرفتكمُ
نسيتُ كلّ طريقٍ كنتُ أعرفها · إلاّ طريقًا تُؤدِّيني لربعكمُ
فما المنازلُ لولا أنْ تحلّ بها · وما الدّيارُ وما الأطلالُ والخيَمُ
لولاك ما شاقني ربعٌ ولا طللٌ · ولا سعتْ بي إلى نحو الحمى قدمُ

21. أبو يزيد البسطامي: الشّراب
عجبتُ لمن يقول ذكرتُ ربّي · وهل أنسى فأذكر ما نسيتُ
شربتُ الحبّ كاسًا بعد كاسٍ · فما نفذ الشّرابُ وما ارتويتُ

22. أحمد بن سهل بن عطاء: غرستُ غصنًا
غرستُ لأهل الحبّ غُصناً من الهوى · ولم يكُ يدري ما الهوى أحدٌ قبلي
فأورق أغصاناً وأينع صبوةً · وأعقب لي مُرًّا من الثّمر المحْلي
وكلّ جميع العاشقين هواهُمُ · إذا نسبوه كان من ذلك الأصلِ

23. أحمد بن روح: قرعتُ الباب بقلبي
ألوذُ ببابِ من أدعوه فردَا · وآملُ أنْ أقربَ من حبيبي
إذا نامتْ عيونُ النّاس طرَّا · قرعتُ البابَ بالقلبِ الكئيبِ

24. أحمد النّوري: سرائرُ سرّي
كادتْ سرائرُ سرّي أنْ تسرّ بما · أوليتني من سرورٍ لا أُسمّيه
فصاح للسرّ سرٌّ منك يرقبه · كيف السّرورُ بسرٍ دون مُبديه
فظلّ يلحظه سرًّا ليلحظه · والحقّ يلحظني ألاَّ أُراعيه
واقبل السّرُّ يُغْني الكلّ عن صفتي · وأقبل الحقّ يُغنيني ويُغنيه

25. أحمد البدوي: دنِّي كعبتي:
دعني لقد ملك الغرامُ أعنّتي · لكنّني خضتُ البحارَ بهمّتي
أصبحتُ في حاناتها متجرّدَا · بين الصّفا أسعى وبين المروةِ
نشوانُ ما بين الدِّنانِ مهرولا · الحبّ يسقيني ودنِّي كعبتي
لم يشربِ العشّاق من بحر الهوى · إلاّ بقيةَ نقطةٍ من طينتي
سكروا بها فتهتّكوا وتصنّعوا · وأنا طويتُ الحبّ تحت طويّتي

26. أحمد الرّفاعي: روحي نائبتي
في حالةِ البعدِ روحي كنتُ أُرسلها · تُقبِّلُ الأرض عنّي فهي نائبتي
وهذه نوبةُ الأشباحِ قد ظهرتْ · فامددْ يمينك كي تُحظى بها شفتي

27. بشر الحافي: شقاءُ التّفرّد
خلتِ الدّيارُ فسُدْتُ غير مَسودِ · ومن الشّقاء تفرّدي بالسّؤددِ

28. الحسين الحلاّج: مرآةُ العطش
والله ما طلعتْ شمسٌ ولا غربتْ · إلاّ وحبّك مقرونٌ بأنفاسي
ولا خلوْتُ إلى قومٍ أحدّثهم · إلاّ وأنت حديثي بين جُلاّسي
ولا ذكرتك محزونًا ولا فرِحاَ · ألاّ وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممتُ بشربِ الماءِ من عطشٍ · إلاّ رأيتُ خيالاً منك في الكاسِ

29. جلال الدين الرّومي: سكرٌ كأرجوان
كيف أتوبُ يا أخي من سكرٍ كالأرجوان · ليس من التّراب بل مُعصره بلا مكان
خطّ على كؤوسها كتابةً شارحةً · يأمنُ من يشربها من الممات والهوان

30. ذو النّون المصري: يجري لساني
لا لأنّي أنساك أكثر ذكراك · ولكن بذاك يجري لساني

31. السّراج الورّاق: أوجهٌ منحوتةٌ
ما لي أُذلُّ والقناعةُ عزٌ · أنجو بها من ذلّةٍ وهوانِ
وأصون وجهي أنْ يُذلّ لأوجهٍ · منحوتةٍ من عالم الصّوانِ
والقوم كالأصنام والإسلام · نزّهني من الأصنام والأوثانِ

32. السّرّي السّقطي: حشو الفؤاد
من لم يبتْ والحبّ حشو فؤاده · لم يدر كيف يتفتّت الأكباد

33. سعيد الشّهيد: تنح
تنحِ يا حور الجنان عنّا · مالك قاتلنا ولا قتلنا
لكن إلى سيّدكن اشتقنا · قد علم السّر وما أعلنّا

34. سفيان الثّوري: نظرتُ إلى ربي
نظرتُ إلى ربي عيانًا فقال لي · هنيئًا رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنتَ قوّامًا إذا اللّيلُ قد دجا · بعبرة مشتاقٍ وقلبٍ حميد
فدونك فاختر أيّ قصرٍ تريده · وزرني فإنّي عنك غير بعيد

35. سمنون المحب: وطأةُ سرور
ولو قيل طأ في النّارِ أعلمُ أنّه · رضاً لك أو مُدْنٍ لنا من وصالكا
لقدّمْتُ رِجلي نحوها فوطئتُها · سرورًا لأنّي قد خطرتُ ببالكا

36. عبد القادر الجيلاني: في حان حضرتي
نظرتُ بعين الفكر في حان حضرتي · حبيبًا تجلّى للقلوب فحنّتِ
سقاني بكأسٍ من مدامةِ حبّه · فكان من السّاقي خُماري وسكرتي
يُنادمني في كلّ يومٍ وليلةٍ · وما زال يرعاني بعين المودّةِ
ضريحي بيتُ الله من جاء زاره · يهرول له يُحظى بعزٍ ورفعةِ
وسرّي سرّ الله سار بخلقه · فلُذْ بجنابي إنْ أردتَ مودّتي
وأمري أمر الله إنْ قلت كن يكن · وكلٌّ بأمر الله فاحكم بقدرتي
وأصبحت بالوادي المقدس جالسًا · على طور سينا قد سموتُ بخلعتي
وطابتْ لي الأكوان من كلّ جانبٍ · فصرتُ لها أهلاً بتصحيح نيّتي
فلي علمٌ على ذروة المجد قائمٌ · رفيع البنا تأوي له كلّ أمّةِ
فلا علم إلاّ من بحارٍ وردْتها · ولا نقلٌ إلاّ من صحيح روايتي
على الدّرة البيضاء كان اجتماعنا · وفي قاب قوسين اجتماع الأحبّة
وعاينتُ إسرافيل واللّوح والرّضا · وشاهدتُ أنوار الجلال بنظرتي
وشاهدتُ ما فوق السّماوات كلّها · كذا العرش والكرسي في طيّ قبضتي
وكلّ بلاد الله ملكي حقيقة · وأقطابها من تحت حكمي وطاعتي
وجودي سري في سرّ سرّ الحقيقة · ومرتبتي فاقتْ على كلّ رتبة
وذكري جلا الأبصار بعد غشائها · وأحيا فؤاد الصّب بعد القطيعة

37. عبد الكريم الجيلي: حكمُ الماء
وما الكونُ في التّمثال إلاّ كثلجةٍ · وأنت لها الماءُ الذي هو نابعُ
وما الثّلجُ في تحقيقنا غير مائه · وغير أن في حكم دعته الشرائعُ
ولكن بذوبِ الثّلج يرفع حكمه · ويوضعُ حكمُ الماءِ والأمرُ واقعُ

38. عبد العزيز الدّيريني: النّظر
كلّ المصائب مبداها من النّظر · ومعظم النّار من مستصغر الشّرر
كم نظرة فعلتْ في قلب صاحبها · فعل السّهام بلا قوسٍ ولا وتر
يسرُّ مقلته ما ضرّ مهجته · لا مرحبًا بسرورٍ جاء بالضّرر

39. عفيف الدّين التّلمساني: الدّموعُ مُدامُنا:
وقفنا على المغْنى القديم فما أغنى · ولا دلّتِ الألفاظُ منه على معنى
وكم فيه أمسينا وبتْنا بربعه · حيارى وأصبحنا حيارى كما بتنا
ثملنا وملْنا والدّموع مُدامُنا · ولا التّصابي ما ثملنا ولا ملنا
فلم نر للغيد الحسان به سنا · وهم من بدور التّم في حسنها أسنا
نسائل بانات الحمى عن قدودهم · ولا سيما في لينها البانةُ الغنّا
ونلثم تُرب الأرض أنْ قد مَشَتْ بها · سُليمى ولبنى لا سُليمى ولا لبنى
فوا أسفي فيه على يوسف الحمى · ويعقوبه تَبْيَضُّ أعينه حزنا
وليس الشّجِي مثل الخليِّ لأجل ذا · به نحن نُحْنا والغمام بنا غنّى
ينادي مناديهم ونصغي إلى الصّدى · فيسألهم عنّا بمثل الذي قلنا

40. علي بن الحسين السّامري: عينُ الحبّ
بكتْ عيني غداة البين حزنًا · وأخرى بالبكا بخلتْ علينا
فجازيتُ التي جادتْ بدمع · بأنْ أقررتها بالحبّ عينا
وعاقبتُ التي بخلتْ بدمع · بأنْ غمضتها يوم التقينا

41. عمر بن الفارض: يودّ طرفي
بعضي يغارُ عليك من بعضي ويحـ · سدُ باطني إذ أنت فيه ظاهري
ويودّ طرفي إنْ ذُكرْتَ بمجلسٍ · لو عاد سمعاً مصغيا لمسامري

42. الغزالي: غزل
غزلتُ لهم غزلاً رقيقًا فلم أجدْ · لغزلي نسّاجًا فكسرتُ مغزلي

43. قطب الدّين القسطلاني: جفونك حاناتٌ
كم في جفونك من حانات خمار · وكم بخدّيك من روضاتِ أزهارِ
وكم نسيم سرى أودعته · نَفَسًا مالتْ به عذبات الشّيخ والقاري
هواك أفصحُ من أن أكتمه · من بعد ما هتكتْ بالدّمع أستاري
لولاك ما رقصتْ بالرّوحِ قُضُبٌ · ولا تغنّتْ حماماتٌ بأسماري
ولا لثمتْ ثُرى تلك الرّياض · ولا سُقيتْ من ماء دمعِيَ ساحةُ الدّار

44. مالك بن دينار: الفسيل
مؤمّلُ دنيا لتبقى له · فمات المؤمّلُ قبل الأمل
يُربّي فسيلاً ويعنى به · فعاش الفسيلُ وماتَ الرّجل

45. محمد البكري الصّديقي: والكأسُ فيها يمينُ
يا لقومي من سكرةٍ بمُدام · ما لعقلِ النّدمانِ منها خبالُ
هاتها هاتها على كلّ حالٍ · واسقنيها فما عليك مقالُ
لا تبالي بعاذلٍ في هواها · لم يذقها فقوله بطّالُ
فشمالٌ والكأسُ فيها يمينٌ · ويمينٌ لا كأسَ فيها شمالُ

46. محمد بن سعيد القرشي: لبسة إلهية
لنعت لحاظ العين إنْ كان لحظها · إلى وصفها حقًّا يليق ويرجعُ
وأثبت لحظ العين منك بلبسة · إلهية يعنى بها الطّبع أجمعُ
فأشهدنا مالا يحدّ ظهوره · وليس له علم به اللّفظ يصدعُ
فلم يعترضها الشّك فيما تحقّقت · ولم يبق منها ما يشكّ ويجزعُ
كذا من بجمع الحقّ كان ظهوره · يخلصه من طبعه ثمّ يجمعُ

47. محي الدين بن عربي: دينُ الحبّ
ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقع · يشير بعنّابٍ ويومي بأجفانِ
ومرعاه ما بين التّرائبِ والحشا · ويا عجبا من روضة وسط نيرانِ
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة · فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ · وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أُدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهتْ · ركائبه فالحبّ ديني وإيماني
لنا أسوةٌ في بشر هند وأختها · وقيس وليلى ثمّ مي وغيلانِ

48. محمد بن علي الأدفوي: ماءُ وصلك:
صبٌّ أضرّ به طويل جفاك · لا يشتفى إلاّ بطيبِ لقاك
يا شمسُ حسنٍ في الورى وضّاحة · مهلاً فقلبُ المستهام سَماك
وترفّقي يا ظبية الوادي به · ودعي النّفار ففي الحشا مرعاك
فلقد حللتُ من الفؤاد بمنزلٍ · ما حلّ فيه من الأنام سواك
فردّ المتيّمُ ماءَ وصلك إنّه · أضحى على ظمأ لرَشْفِ لماك
واقضي بما شئته في شرع الهوى · غير القلى فالحسن قد ولاك
وعِدِي الكئيب لو بطيفٍ في الكرى · فلعلّه عند الهجوع يراك
فهو الذي يرضى لعزّك ذلّهُ · ويودّ أنّ جفونه ممشاك

49. محمد بن عبد المحسن الأرمنتي: نازلٌ بقلبي
وحياةُ أيّامي بهم بالمنحنى · قسمًا تأكّد بالولا ميثاقهُ
لا حِلْتُ عن حبّي لهم أبدا ولو · أنّ الفؤاد يُذيبه إحراقهُ
حي بقلبي نازلٌ وخيامه · نصبتْ ببطحا طيبة ووطافهُ
قفْ بي دليل الظّعنِ هذا رامهم · روّاه غيمٌ غامرٌ مهراقهُ
وأرحْ مطيّك ها هنا فالرّكب قد · كلّتْ من الطّلبِ الحثيثِ نياقهُ

50. محمد بن محمد عيسى القوصي: حبّك فتنةٌ
فُتنتُ وما لي غير حبّك فتنةٌ · وأعظمُ فخري أنّني بك مفتونُ
وحبّك مفروضٌ على السّخط والرّضا · علىّ فأمّا ما عداه فمسنونُ
وقد ذكروا مجنون ليلى وأكثروا · وكلّ زمانٍ فيه ليلى ومجنونُ
وقالوا سلا عن حبّه بعد ما غدا · له في مقام الحبّ شأنٌ وتمكينُ
فأمّا غرامي فهو أمرٌ مُحقّقٌ · وأمّا سلوي فهو ظنٌّ وتخمينُ
أمثلي يسلو أو يبوح بسرّه · وفي قلبي المحزونِ سرّك مخزونُ
تصدّق بأدنى عطفة منك إنّني · فقيرٌ وإنْ قصرتُ عنك فمسكينُ
ولستُ وإنْ طال البعاد بيائسٍ · من القربِ إنّ البعد بالقرب مقرونُ

51. منصور البطائحي: الحبُّ كالموت
الحبُّ سكرٌ خماره التّلفُ · يُحسن فيه الذّبولُ والدّنفُ
والحبُّ كالموت يفني كلّ ذي شغف · ومن تطعّمه أودى به التّلفُ
في الحبّ مات الألى أصفوا محبّتهم · لو لم يحبّوا لما ماتوا وما تلفوا

52. مسعر بن كدام: الدّار
ومشيداَ داراً ليسكن داره · سكن القبور وداره لم يسكن ِ

53. موسى الكاظم: أنت
أنت ربّي إذا ظمئتُ من الماءِ · وقوتي إذا أردتُ الطّعاما

54. يحي بن معاذ: سروري
سروري بالسّؤال لكي أراه · فكيف أُسرّ منه بالنّوال

رشيد وحتي
المقال منشور في جريدة الأخبار اللبنانية، يوم السبت 4 حزيران/ يونيو، 2022
(*) كتاب «شمال والكأس فيها يمين» لمحي الدين محجوب، صادر عن دار تانيت للنشر والدراسات، المغرب.

Please follow and like us: