دراما مشتركة : “النار بالنار” والواقع اظلم

دراما مشتركة : “النار بالنار” والواقع اظلم

خلافات واشنطن ـ أنقرة : هل سقط أردوغان في دوامة “الربيع التركي”؟
السعودية على “اللائحة السوداء” للأمم المتحدة بسبب “جرائم حرب” في اليمن
ماهو المخيم يا غسان؟ أن يحدث ذلك كلّه!

نجوى زيدان، ‏الجمعة‏، 14‏ نيسان‏، 2023

انفرد المسرحي جورج خباز من بين الفنانين اللبنانيين، بمساحة درامية مميزة، في الموسم الرمضاني هذا العام، حيث غابت وجوه كثيرة : أمثال باسم مغنية وبديع أبو شقرا. يخوض البطولة الى جانب خباز الممثلين السوريين عابد فهد وكاريس بشار، الى جانب العديد من الوجوه السورية واللبنانية ابرزها طارق تميم من لبنان وهدى شعراوي وجمال العلي من سوريا، بما يذكر بأسلوب الدراما السورية التي تجعل من كل شخصية مشاركة في العمل بطلا او بطلة.

يسجل للعمل، جرأته في مقاربة موضوع الوجود السوري في لبنان القديم والحديث، ما عجزت عنه الدراما اللبنانية التي لم تعمل حتى اليوم لا على هذا الموضوع ولا على موضوعات الحرب الاهلية. باستثناء بعض الأفلام التسجيلية التي قام بها المخرج الراحل جان شمعون وبعض الافلام السينمائية التي لم تكن بالمستوى المطلوب وأصبحت طي النسيان، لسبب إضافي، ان هذه المواضيع تم استبعادها عن النقاش الفني الدرامي بشكل خاص والثقافي بشكل عام، لتصبح مقاربتها من المحرمات، من اجل ان ينسى الشعب اللبناني، وبالتالي نعوضه بالترفيه والتسلية من خلال محتوى درامي بسيط. الا ان مقاربة الموضوع لا تعني النجاح في مناقشته او في الإحاطة به، اذ انخفض مستوى “النار بالنار” عما كان متوقعا منه من قبل الجمهور، ليصبح بعد الحلقة السابعة، دراما خفيفة مليئة بالاكشن ويوميات هذا الحي المتنوع، على حساب قيمة الموضوع واهميته.

ان الوجود والتدخل السوري في لبنان، افضى الى ملفات لم تغلق حتى اليوم، ومنها المخطوفين او السجناء في سوريا، والمفقودين السوريين في لبنان، عدا عن علاقات تشنجت بين البلدين وبين الشعبين خلال العقدين الأخيرين على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005.

حاول المسلسل، تعرية هذه الشخصيات والدخول الى اعماقها، تلك الحاقدة والراغبة في الانتقام، التي انفلتت في سلوكيات من العنصرية تجاه النازحين السوريين من خلال يافطات رأيناها بأم العين في اكثر من منطقة لبنانية واكثر من قرية، تمنعهم من التجوال بعد الغروب، وتمنع الباعة منهم من دخول الطرق الفرعية في القرى والإبقاء على “نشاطهم المهني” التجاري في الطريق الرئيسي.

ان الحي الذي تدور فيه احداث مسلسل “النار بالنار” هو من الاحياء الفقيرة الذي عايش التنوع السكاني بين لبنانيين ووافدين ومجنسين فقراء ومعتاشين وتجار ومرابين وقبضايات، حيث نكتشف هذا التنوع من الأسماء والمهن واللهجات ومن الموقف السياسي للسكان من النزوح السوري.

كما عاصر هذا الحي التغييرات السياسية وتداعيات الحرب في سوريا، اذ نرى العديد ممن تقطعت بهم السبل يلجأون  للعيش والعمل في مهن وضيعة او بسيطة ويدخلون في صراعات من اجل البقاء ومن بينهم المولود في هذا المكان، السوري المجنس عمران، المرابي والسمسار والوسيط في قضايا بين لبنان وسوريا والذي له صلات عمل مع فاسدين ومهربين ومزورين وتجار أعضاء في كلا الجانبين. ومع لجوء مريم (كارس بشار) إلى الحي، بعدما دخلت عن “طريق التهريب”، تضاف قضية النزوح غير الشرعي على لائحة القضايا التي افرزتها الحرب في سوريا وتأثيرها، وهي قضية قديمة لكنها لم تقترب من الفوضى الراهنة، بل كانت تحت سيطرة الجانبين اللبناني والسوري.

تقدم مريم شخصية المرأة الوحيدة العادية البسيطة المنكسرة بعد خطف زوجها في سوريا ارادت ان تهاجر الى المانيا عن طريق الامم المتحدة في بيروت، ونعيش معها السمسرة التي ترافق مشكلتها بعد ان سرقت حقيبة يدها فور دخولها الحي، ما أعطاها فكرة عن المكان الذي وفدت إليه، إذ انه متفلت امنيا وتقوده قوى الامر الواقع ومنهم عمران المتعاون مع المخفر ورئيسه المرتشي.

الا ان شخصية مريم لا تلبث ان تفاجئنا في خطابها السياسي ردا على خطاب العنصرية من قبل اللبناني عزيز الذي لعب دوره جورج خباز وكان مميزا لناحية التأثير والامساك بخطاب ذوي المفقودين في سوريا اثناء الحرب الاهلية اللبنانية 1975 ـ 1989) والذين ما زالت مصائرهم مجهولة كما مصائر المفقودين فيها من المواطنين والرعايا السوريين. طبعاً، من الصعب تصديق ان مريم البسيطة تجيد هذا الخطاب السياسي الذي يلخص بدايات الحرب الاهلية والتدخل السوري في لبنان لوقفها (1976).

ثم يطالعنا جميل نموذج اليساري المهزوم، الذي اجاده الممثل طارق تميم، الذي لعب دور اليساري الفاشل المتمسك برفع صور رموز الماركسية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وحركات التحرر على حائط منزله البائس في هذا الحي، أمثال كاسترو وماركس ومانديلا وزياد الرحباني و… فيما هو لاعب قمار مدمن الى درجة هجران زوجته له. لكنه مع ذلك، صاحب مواقف وطنية.

ان التناقض بين الشخصي والعام، يعيدنا الى نقاش قديم حول الجدلية القائمة بين الخاص والعام حيث لا يمكن لمن يرفض حقوق المرأة ان ينادي بها ويأخذها شعارا سياسيا ضمن برنامج حزبه كما لا يمكن لـ”قمرجي” يساري ان يُقنع الآخرين بآرائه العظيمة حول العدالة والحرية لانه نموذج سيئ. ولطالما غابت النماذج اليسارية عن الدراما، لكن حضورها اليوم يغمطها حقها، اذ ظهرت فاشلة، أسيرة ادمان نزق وانحراف أخلاقي.

عكس المسلسل بشكل واف وواضح التداخل السوري اللبناني من خلال عدد من الشخصيات أمثال عمران وتفيدة وعزيز نفسه لان امه سورية، وهذا التداخل بين المجتمعين يجعل من وجود السوريين في لبنان امرا طبيعيا قبل اندلاع الحرب الاهلية فيه (1975) بزمن طويل، حتى تكاد العائلة الواحدة تنقسم بين الجانبين. انها حقائق التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والدين، التي جعلت للعائلات اللبنانية امتدادات لها في دمشق ومعظم مدن سوريا والعكس صحيح.

هذا الوجود الذي اشعر مريم بالأمان في منزل عمران السوري الأصل حين غفت على الكنبة بانتظار فنجان القهوة، مشهد فيه دلالات مكثفة حول مشاعر الغربة والخوف والضعف والحاجة الى الحماية من رجل وجدت فيه انه ” ابن حلال” رغم انه يقرض المال بالفائدة ورغم انه سيئ السمعة، وبعدما صارت مقولة ” شعب واحد في بلدين” محط سخرية نظراً للتحولات التي شهدها البلدان لا سيما عقب وجيه الإتهام إلى سوريا باغتيال الرئيس الحريري وخروج قواتها من لبنان. فلم يعد مرحباً بمريم ضمن فضائها الطبيعي لانها سورية! وليصبح الشعب في الجانبين وقودا للصراع السياسي ومسددا لأثمانه، لان السياسة تتبدل مع كل ريح.

ان الدراما كانت لينة في تقديم موضوع بهذا الحجم واشكالية معقدة في الصراع السياسي في المنطقة يكاد ينغمس فيها العرب اجمعين ومعهم الدول العظمى، فقدمهما المسلسل من زاوية واحدة، تركزت على الجانب الإنساني او الحياتي لشخصيات تحمل في نفوسها كماً من التناقضات. فلا هي خيّرة بالكامل ولا هي شريرة بالكامل. إنها بين بين. قد تفعل الخير هنا والشر هناك قد تكون صادقة مع هذا وانتهازية مع ذاك، هي شخصيات تشبه شخصية حالة الفرد اليوم. فنراه يرمي شاباً من مبنى لأنه سوري او يضربه حتى الموت لنفس السبب. وهو الشخص الذي يُسجن لانه صاحب رأي او رأي مخالف او لانه غرّد بما يدور في رأسه على تويتر، او انه تظاهر لنيل مطلب اجتماعي او سياسي، هو هذا الشخص الكاره لمجتمعه الناقم على الماضي، هو هذا الإنسان الذي تدفعه الانا ويحمله حب الذات على ممارسة كل الشرور اذا اقتضى الامر لانه انانيا.  مع هذا العمل الذي تصدّر “الترند” ومع غيره من الاعمال الدرامية التي شهدناها السنة الماضية مثل ” كسر عضم”، بدت الدراما وتحديدا من خلال مشاهد محددة مادة متداولة على وسائل التواصل : الخناقة بين مريم وعزيز، خلع مريم الحجاب، العراك بين أبناء الحي وزكريا احد السكان الإسلاميين المتزوج من قاصر وهذا موضوع إضافي يطرحه “النار بالنار”. ويمكن أن نسجل ثلاث ملاحظات، تبين كيف أن هذا التداول يغير الفضاء الإجتماعي للدراما :

أولاً، حيث تبدو الدراما أنها تنحو منحى جديد كصناعة، بحيث لم تعد وقفا على صناعها من منتج وكاتب ومخرج، بل اصبح لها شركاء جدد هم المستهلكون الفاعلون وعموم الجمهور الذي يقول رأيه ويقدّم حوارا ومشهدا على آخر وينشرهما وينشر الجينيريك واغنيته ويسخر من المشاهد والشخصيات او يكرر كلماتها كما ” الله يحن عليك” التي ترددها مريم وكلمة “سيكيما” التي يرددها عمران، وكلمة “خالو التي يرددها بائع اليانصيب الملقب بارود الصبي السوري النازح. وقد يكشف مستهلك الدراما، الذي لم يعد متلقيا عاديا ومتفرجا صامتا الأخطاء كما في مسلسلي ” العربجي” و”الزند” السوريين و”ابتسم أيها الجنرال” القطري و”رسالة الامام” المصري.

ثانياً، ان التفاعل مع هذه المشاهد والجدل المثار حولها، يؤكدان على قوة الدراما في التأثير بالمشاهدين وبالرأي العام من ناحية وفي قدرتها على توجيه الرسائل التي يمكن فك رموزها واستيعاب دلالاتها من خلال الكلمات المستخدمة والتعابير ومن خلال زوايا الصورة واستخداماتها.

ثالثاً، ان الدراما أصبحت حاجة فنية ومعرفية وتثقيفية وترفيهية لا يمكن التغاضي عنها كسلعة ثقافية، تستطيع ان تخترق الوعي وان تتلاعب بالعقول او تفتح البصيرة كما في مشهد تخلي اهل الفتاة القاصر التي زوجوها مقابل ثمنا وتخلوا عنها حين ارادت النجاة من البؤس الذي تعيشه حيث طلب الاب من الام تقديم واجب الضيافة لمن جاء يتوسط للابنة بالعودة الى أهلها، فبدا ان أصول الضيافة لا تعني شيئا امام تزويج الإبنة التي ما زالت طفلة، وبالتالي فان الدراما قادرة على تثبيت قيم بعينها والغاء عادات بائسة وتقديم قيم جديدة تواكب التحولات الاجتماعية التي تعصف بحياتنا نتيجة الصراعات السياسية والانهيارات الاقتصادية والحروب.

مسلسل “النار بالنار” انتاج شركة الصباح، نص رامي كوسا، إخراج محمد عبد العزيز.

 

Please follow and like us:

COMMENTS