تشعر الولايات المتحدة بوجود “لهجة تركية معادية” لها[1]. ترافق ذلك مع تقرير موقع “بيزنيس إينسايدر” الاميركي الذي تحدث عن قيام واشنطن بإخلاء قاعدة أنجرليك في جنوب تركيا من القنابل النووية ونقلها إلى رومانيا[2]. ورغم أن حكومة بوخارست متحمسة لخطط “أطلسة” البحر الأسود، إلا أنها نفت معلومات التقرير عن “نقل واشنطن أسلحتها النووية من أنجرليك إلى قاعدة ديفيسيلو” الرومانية[3].
أنقرة وواشنطن نحو “مواجهة”؟
قاد الرئيس التركي بنفسه هذه “اللهجة المعادية”. إذ تحدث يوم الخميس 18 آب الجاري، عن أن تركيا تواجه هجمات مشتركة تنفذها منظمات إرهابية متعددة تعمل معاً. واتهم أردوغان حليفه “الإسلامي” السابق فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة وأنصاره، بالتورط في هجمات مسلحة نفذها عناصر حزب العمال الكردستاني، وقتل فيها 10 جنود وجرح نحو 200 آخرين في جنوب وشرق البلاد[4].
ويتشدد أركان السلطة الأردوغانية في تكرار خطاب زعيمهم حول العلاقات الثنائية مع الأميركيين. وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو حذر الولايات المتحدة من وجود Trend “موجة” معادية لواشنطن في تركيا. وإذا ما تمحصنا في الشروط السياسية التي يعرضونها لتبديل “الموجة” العدائية، مثل تسليم واشنطن فتح الله غولن إلى أنقرة، ندرك تأثير “الموجة”، بل خطورتها على هذه العلاقات[5].
وزير العدل التركي بكر بوزداغ بدوره أيضاً، حذر الأميركيين من مغبة “الدخول في مواجهة مع بلاده”. لكنه كشف في تحذيره عن أن الرئيس التركي ما زال يحلم بأن يصير “بطلاً عثمانياً”، لكن تجاه واشنطن هذه المرة. فالوزير بوزداغ تنبأ بـ”دخول الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة مع تركيا والشعب التركي في المرحلة الحالية”، إذا لم تتم تلبية شروط أردوغان [6].
تدير سلطة أردوغان هذه “اللهجة المعادية” للأميركيين، استناداً على تأييد أغلبية شعبية تركية لها. وقد ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” في الأسبوع الماضي، في تقرير بعنوان “أعيدوا العلاقات بين تركيا والغرب”، أن “أغلبية الشعب التركي تعتقد أن واشنطن ـ بغض النظر إن كان ذلك صائباً أم خاطئاً ـ لها يد في الانقلاب العسكري الفاشل في بلادها”[7].
“يد أميركية” في انقلاب 15 تموز
تؤكد بعض الأحداث صحة شكوك أردوغان وأركان نظامه بـ”وجود يد أميركية” وراء انقلاب 15 تموز. فقد أعلن مسؤولان أميركيان عن أن “ضابطا بالجيش التركي طلب اللجوء إلى الولايات المتحدة بعدما استدعته حكومة بلاده في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة”. ولفتا إلى أن هذا “الضابط يعمل في مقر قيادة تابع لحلف شمال الأطلسي في نورفولك بولاية فرجينيا الأميركية”[8].
اتضحت بصمات “اليد الأميركية” في اليوم الثاني على بدء الإنقلاب. فأغلقت السلطات التركية الطرق من وإلى قاعدة انجرليك، وقطعت الكهرباء عنها، بحسب تغريدة القنصلية الأميركية على موقع “تويتر”. وامتدت تدابير أنقرة ضد إنجرليك لتشمل، بحسب تلفزيون cnn، إغلاق المجال الجوي لهذه القاعدة، حتى تتأكد سلطات حكومة أردوغان من أن سلاح الجو التركي بأكمله هو تحت سيطرة القوات الموالية لها[9].
من خلال قاعدة إنجرليك يكون الإنقلاب قد تهيأ ونفذ “تحت نظر” واشنطن. فالانقلابيون أرسلوا طائرتيْ إسناد من قاعدة إنجرليك، لدعم مقاتلات أف16 قصفت في أنقرة وإسطنبول مقرات سياسية وأمنية. كما استعملوا طائرات جاءت من قواعد عسكرية أخرى. وبعد الإنقلاب كشف وزير الخارجية جاويش أوغلو عن اعتقال جنود أتراك في قاعدة إنجرليك متورطين فيه، وتحدث عن إغلاق هذه القاعدة حتى إشعار آخر[10].
تعثر العلاقات الثنائية بين واشنطن وأنقرة مستمر. بغض النظر عن النتائج المتوقعة من زيارات رسمية سيقوم بها مسؤولون أميركيون إلى تركيا في الأيام المقبلة[11]. أصلاً، وزارة الخارجية الأميركية أسقطت شروط الأتراك، كما استبقت “نتائج الزيارات”، بقول المتحدثة باسمها، إليزابيث ترودو، “أن الولايات المتحدة لا ترى ضرورة للاختيار بين التعاون مع أنقرة وتسليم المعارض التركي فتح الله غولن للسلطات التركية”، حسبما صرح أردوغان[12].
اختلال “حجر الزاوية”
يشكك الغربيون في اتهامات أردوغان لهم. ويقول مارك بييريني السفير السابق للاتحاد الاوروبي في انقرة “ان الانقلاب لم يكن في اي حال من الاحوال اختباراً فشل فيه الاتحاد الاوروبي او الولايات المتحدة. بل ان تركيا هي التي تواجه اختبار اعادة بناء ذاتية”. وقد لاحظ متين غورجان وميغان جيسكلون أن هذا الإختبار، الذي يهدف إلى “تقليص دور العسكر بشكل اكبر”، وضع تركيا “امام منعطف استراتيجي”[13].
تتعطف واشنطن وبروكسل على أخطر أعداء أردوغان. قبل أيام نشر غولن مقالاً في صحيفة Le Monde الفرنسية، أدان فيه قيام بعض العسكر بالإنقلاب. كما تنصل فيه من اتهامه بالضلوع في “المؤامرة”، ثم ختم : “أوجه نداء الى السلطات التركية واعدها بالتعاون الكامل. واطالب بان تقود لجنة دولية مستقلة التحقيقات بشأن محاولة الانقلاب”[14].
يتحدى الإقتراح أردوغان. لأن “نداء غولن” يمنح “اليد الأميركية” شرعية التدخل في شؤون تركيا التي “تعيش تحولاً عميقاً منذ انقلاب 15 تموز، مع زلزال غير مسبوق داخل قواتها المسلحة، واعادة تقييم لسياستها الخارجية، واكبر حملة تطهير في تاريخها المعاصر”[15]. ولذلك تحدث محللون في الكيان الصهيوني ـ بثقة ـ عن غموض مستقبل أردوغان[16]، وعدم معرفة نتائج المسار الجديد الذي ينتهجه “على السياسة والمجتمع” في تركيا[17].
يؤشر تقارب أنقرة مع موسكو وطهران إلى تراجع العلاقات الأميركية ـ التركية التي تمثل حجر الزاوية في السياسة الداخلية والخارجية في تركيا. وقد يسهل فهم حجم هذا التراجع وخطورته على مستقبل تركيا، حينما تتحدث تقارير غربية عن أن “تخزين ما يقارب خمسين قطعة سلاح نووي أميركي فى قاعدة إنجرليك الجوية هو بمثابة مجازفة”، رغم امتناع وزارة الحرب الأميركية عن التعليق على هذه التقارير[18].
تركيا و”الثورة في الجيوبوليتيك”
المواجهة الراهنة بين واشنطن وأنقرة، خاصة بعد انقلاب 15 تموز الفاشل، يجب تحليلها في سياق “الثورة في الجيوبوليتيك” أو “ثورة الفوضى الجيوسياسية” التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية منذ هجمات عام 11 ايلول 2001. وذلك انطلاقاً من مفهوم “بناء الأمم” النيوكولونيالي الذي جربه “المحافظون الجدد” لدى احتلال العراق، وأفغانستان، ثم أدغم مجدداً في “مبدأ أوباما” العسكري، وجرى تطبيقه في غزو ليبيا عام 2011. كما لا زالت محاولات فرضه على الشعب العربي في سوريا وفي اليمن متواصلة.
أشرقت آفاق العلاقات التركية ـ الأميركية، لما وجدت إدارة الرئيس باراك أوباما، في تركيا “الإخوانية” وفي “الأممية الإخوانية” بالذات، “البديل الأكثر شعبية، والأجدر بأن يكون حليفاً للولايات المتحدة” يشدد إزرها في تحقيق أهداف أميركا من “الثورة في الجيوبوليتيك”، وأهمها : وراثة النظم العربية الفاشلة الحليفة لأميركا”. “إسقاط وتغيير النظم العربية المعادية لأميركا ـ إسرائيل”، خاصة سوريا. فرض طوق “الفوضى الجيوسياسية” على إيران وروسيا والصين.
كانت وثيقة “شيرلى بينارد”[19] هي المرجع لفهم استراتيجية تحالف إدارة أوباما مع “النموذج التركي”، وعموم تنظيمات “الإخوان”[20]. لقد أجابت هذه الإستراتيجية على السؤال الأميركي المحورى التالي: ما هو التحالف الأميركي الجديد فى الشرق الأوسط الذى يكون فى مقدوره القيام بالمهام المطلوبة لحماية المصالح وتحقيق الأهداف الأميركية؟ ما هى أطرافه؟ وما هى شروطه؟[21].
هذه الإشراقة خمدت الآن. يرى بعض المحللين أن أزمة تركيا الراهنة هي أشبه بنسخة جديدة من “الربيع العربي”. هذا التقدير تؤيده مقابلة روبرت مالي مستشار الأمن القومي الأميركي مع مجلة “فورين بوليسي” التي نشرت يوم الاثنين 15 أغسطس/آب 2016. تحدث مالي عن أن أوباما سيترك منصبه والشرق الأوسط في حال فوضى. الإستمرار بنشر هذه “الفوضى الجيوسياسية” هو البديل الأميركي ـ “الإسرائيلي” عن فشل “النموذج التركي”[22].
ظهور الإرهاب الكردي بجانب الإرهاب الإسلامي في لائحة الأدوات الجيوسياسية التي تستخدمها الولايات المتحدة في سوريا، يؤكد أن واشنطن تستعد لمرحلة جديدة من “الثورة في الجيوبوليتيك”. ستجعل تركيا أشبه بباكستان ـ أفغانستان. والهدف الأميركي الرئيسي هو دفع تيار “الفوضى الجيوسياسية” إلى تخويف الإتحاد الأوروبي، وتهديد استقرار روسيا والصين. إن بانتظار تركيا أياماً سوداء. فهل يتراجع أردوغان نحو الإستراتيجيات الإقليمية والدولية المناسبة؟.
مركز الحقول للدراسات والنشر
22 آب 2016
__________________
[1] بيان وزارة الخارجية الأميركية. وكالات، الثلاثاء 09 آب 2016.
[2] وكالات، الخميس 18 آب 2016.
[3] وكالات، الخميس 18 آب 2016.
[4] الحياة البريطانية، النسخة الرقمية، الخميس، ١٨ أغسطس/ آب ٢٠١٦.
[5] وكالات، الجمعة 19 آب، 2016.
[6] وكالات، الأربعاء 17 آب 2016.
[7] “فايننشال تايمز”، الثلاثاء 16 آب 2016.
[8] وكالات، الأربعاء 10 آب 2016.
[9] تصريح مسؤول عسكري أميركي لمحطة تلفزيون cnn، السبت 16 تموز 2016
http://arabic.cnn.com/world/2016/07/16/turkey-incirlik-airspace-closed-urgent-1
[10] نقلاً عن صحيفة “حرييت”، الأحد 17 تموز 2015
[11] وكالات، الأربعاء 17 آب 2016.
[12] وكالات، الجمعة 12 آب 2016.
[13] نقلاً عن تقرير وكالة الصحافة الفرنسية من اسطنبول، 14 آب 2016.
[14] نقلاً عن تقرير وكالة الصحافة الفرنسية من اسطنبول، 13 آب 2016.
[15] نقلاً عن تقرير وكالة الصحافة الفرنسية من اسطنبول، 14 آب 2016.
[16] “محاولة الاطاحة التالية بأردوغان في طور الاعداد”. مقال يوسي بيلين، في الصحيفة الصهيونية “اسرائيل اليوم”، في 12 آب 2016.
[17] نقلاً عن تقرير وكالة الصحافة الفرنسية من اسطنبول، 14 آب 2016.
[18] الأهرام، الثلاثاء 13 من ذو القعدة 1437 هــ 16 أغسطس/آب 2016.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/544033.aspx
[19] تحت عنوان : الإسلام المدنى الديمقراطي ـ الشركاء والموارد والإستراتيجيات” في عام 2003. أعيد نشر هذه الوثيقة عامي 2004 ـ 2005، بعنوان: “خمس أعمدة للديمقراطية: كيف يمكن للغرب أن يدعم الإصلاح الإسلامي” حيث اعتمدت إدارة باراك أوباما توصيتها بالتحالف مع الحكم “الإخواني” في تركيا، ومع تنظيم “الإخوان” ابتداءً من عام 2009. و”بينارد” هي زوجة “زلماى خليل زادة” الديبلوماسي الأميركي الذي شارك في التخطيط لغزو أفغانستان والعراق.
[20] مقال “الدوافع الأمريكية للتحالف مع أردوغان”، محمد السعيد إدريس. الأهرام، الثلاثاء 13 من ذو القعدة 1437 هــ 16 أغسطس/آب 2016 :
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/543989.aspx
[21] مقال “الدوافع الأمريكية للتحالف مع أردوغان”، محمد السعيد إدريس. الأهرام، الثلاثاء 13 من ذو القعدة 1437 هــ 16 أغسطس/آب 2016 :
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/543989.aspx
[22] في مؤتمر هرتسيليا الأخير، قال أحد الجنرالات “الإسرائيليين” : أن استقرار الشرق الأوسط هو في عدم استقراره”.