هيمنةُ الولايات المتحدة السياسية على العالم تترنّح. لا يغيّر هذا الأمر في حقيقة أنّ الميزانية العسكرية الأميركية هي الأضخم على مستوى الكوكب، إذ إنها ستصل إلى 886 مليار دولار في 2024، ولا أنّ ناتجها المحلي الإجمالي يمثل 25% من الناتج الإجمالي العالمي، وكونها ما زالت مركزاً رئيسياً للتطور العلمي والتكنولوجي. امتلاكها لجميع أدوات القوة الصلبة لم يعد يجدي نفعاً عند محاولتها إلزام بقية الكوكب غير الغربي (85% من سكانه حالياً و90% منهم في 2050 وفقاً لتقرير قسم الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة الصادر في 2022) بأولويات أجندتها الاستراتيجية الإجمالية، كما كانت تفعل مع قسم عظيم منها لعقود خلت.
لقد كشفت الحرب العالمية الدائرة بالوكالة في أوكرانيا، بين معسكر غربي بقيادة أميركية من جهة، وروسيا من جهة أخرى، رفضاً قاطعاً لبلدان الجنوب العالمي للخضوع لإملاءات واشنطن الخاصة بفرض عقوبات مالية واقتصادية على موسكو. فشلت الإمبراطورية المنحدرة أيضاً في حمل هذه البلدان على وقف تطوير شراكاتها المتعددة المجالات مع الصين، المنافس الأبرز على الريادة الدولية من منظورها. شأن آخر لا يقل خطورة بالنسبة لواشنطن؛ هو الاتجاه المتزايد للبلدان المذكورة إلى اعتماد اليوان والروبل في تعاملاتهما التجارية مع بكين وموسكو، ما يهدّد على المدى المتوسط والبعيد، ومع تنامي مثل هذا الاتجاه، موقع الدولار كعملة للمبادلات العالمية بامتياز، وما يتأتّى عن ذلك من تداع لركيزة أساسية من ركائز الهيمنة الأميركية. فقدان القدرة على كسب ولو جزء من هذه البلدان إلى صف واشنطن، بما فيها تلك المحسوبة حليفة تقليدية لها، في سياق المواجهات الاستراتيجية الحيوية التي تخوضها راهناً، هو مؤشّرٌ حاسم على انحسار هيمنتها.
على الرغم من أن الجنوب العالمي ليس إطاراً جبهوياً معادياً للإمبريالية، فإنه «مفهوم خطر» حسب جاك أتالي، المستشار «الصهيوني جدّاً» للرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران، لأنه -برأيه- يستبدل «التناقض الرئيسي بين الديموقراطيات والنظم الشمولية» بتناقض آخر يقسّم صفوف الأولى ويسمح للثانية بتوسيع دائرة تحالفاتها. هذا المفهوم السياسي الذي راج استخدامه خلال السنوات الماضية يشير إلى المجموعة الكبيرة من الدول التي خضعت في مراحل مديدة من تاريخها لأنماط متباينة من السيطرة الاستعمارية الغربية. لكنه ليس رديفاً لمفهومي «العالم الثالث» أو «البلدان النامية» اللذين استندا إلى وجود معايير مشتركة بين هذه البلدان في الفترة التي تلت نيلها للاستقلال، كغياب التنمية الاقتصادية الشاملة والتطور الصناعي، وكهشاشة الاستقرار السياسي الداخلي، إضافة إلى ديمومة مستويات متعددة من التبعية للغرب. من البديهي أنّ مثل هذه المعايير لم يعد ينطبق على دول كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا وإيران، وغيرها، التي أضحت أقطاباً اقتصادية و/أو سياسية على الصعد الدولية و/أو الإقليمية.
تختلف دول الجنوب العالمي في خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في طبيعة علاقاتها مع الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، بعضها كان، وما زال، في حالة صراع معها، بينما تحالف بعضها الآخر معها لعقود طويلة أو تقاطع معها في أكثر من قضية. الجديد اليوم هو مسعى من تحالف وتقاطع، في ظل التحولات المتسارعة في موازين القوى بين أطراف النظام الدولي، للخروج من العلاقات الحصرية مع المعسكر الغربي، وتنويع شراكاتها، لتحسين موقعها في هذا النظام. بكلام آخر، أصبح هناك طموح إلى المزيد من الاستقلالية عن مراكز الهيمنة الغربية لدى دول وازنة في الجنوب العالمي، ما يفسح في المجال لتنسيق وتعاون أكبر بينها وبين تلك الدول التي قاومت سياسات هذه المراكز منذ زمن بعيد، حول قضايا مصيرية مشتركة في ما بينها مرتبطة بالتنمية وبالتجارة العالمية وصولاً إلى الاحتباس الحراري وتداعياته الكارثية عليها أولاً. ولا شك أنّ مثل هذه التوجهات تنسجم لحد التماهي مع التطلعات التاريخية لشعوب الجنوب للاستقلال الحقيقي.
الخميس، 25 أيار، 2023
COMMENTS