لم تعرف الشيعة الإمامية حصرية للمرجعية الدينية في مرجع أكبر، مقيما في النجف، إلا في عهد محمد رضا بهلوي شاه إيران الأخير. قبل ذلك، تعددت المراجع الشيعية “الكبرى”، في تعبير عن الحيوية الفكرية والإجتماعية لهذا المذهب الإسلامي وأتباعه. كان للشاه بهلوي أسبابا إيرانية بحتة، دفعته لدعم مرجعية النجف متمثلة بالسيد محسن الحكيم الطباطبائي، كمرجع أكبر، بوجه مرجعية قم التي ضمت نخبة فقهاء إيران المعارضين لسياسة الشاه المعادية للشعب والمؤيدة للأميركيين في فترة الحرب الباردة. وفي الوقت الراهن، يتولى السيد علي السيستاني منصب “المرجع الأكبر”، لكن تأييد هذه المرجعية، خصوصا في العراق، يتراجع وهو إلى أفول. ويتناول مقال زيد الزبيدي[1] بعض أسباب هذا التراجع والأفول (المحرر) :
لمرجعيّة النجف في العراق، تاريخ تغيّرت عناوينه مع اختلاف الحقب؛ إذ بينما كانت سلطة النجف مجرّد سطوة معنويّة ـ دينية قبل الاحتلال، فهي أدت دوراً رائداً في السياسة، في ظله، وخاصة في إضفاء الشرعيّة على الائتلاف العراقي الموحّد الحاكم في بغداد، قبل أن تعود الانقسامات التي شوّهت جسد «الائتلاف» منذ مطلع عام 2007، لتسرق الكثير من وهج المرجعيّة
أثار انقسام الشارع الشيعي في العراق في شأن توقيت عيد الأضحى، جملة تساؤلات عن مدى استجابة المواطنين لنداءات المرجعية الدينية في النجف، التي وُضعت في هالة التقديس منذ المعارك الضارية التي خاضتها حركة السيد مقتدى الصدر مع قوات الاحتلال في صيف 2004، والدور الذي أدّاه آية الله السيد علي السيستاني في تلك الأحداث.
ففيما كانت جموع الحجّاج على جبل عرفات في مكّة يوم الثلاثاء الماضي، أعلن مكتب السيستاني أنّ العيد يصادف يوم الجمعة، على الرغم من أنّ الحجّاج العراقيّين الشيعة أدّوا مناسك العيد صبيحة الأربعاء، وشاركهم في ذلك الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.
كلمة السيستاني كانت هي النافذة في الشارع العراقي، وخاصة في الأوساط السياسية ـ الدينية خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن الأمر اختلف هذه السنة، واحتفلت أعداد كبيرة من الشيعة بالعيد في يوم الأربعاء، بينما اتخد فريق ثالث حلاًّ وسطاً، واحتفل يوم الخميس، اقتداءً بالمرجع العراقي ـ اللبناني السيد محمد حسين فضل الله، وحتّى بالسيد مقتدى الصدر، رغم أنه لا يحمل صفة المرجعية أو الإفتاء.
على أنّ هذا الاختلاف يعكس حقيقة واقعة، لم تكن بارزة بهذا الشكل في السنوات الماضية، وهي أنّ مرجعية النجف أخذت تفقد بريقها، سياسيّاً ودينيّاً، حيث تواجه حالياً سيلاً من الانتقادات والتشكيك.
وفي مقدمة الانتقادات، وأقلّها حدة، أنّ نوّاب البرلمان، الذين وصلوا إلى مناصبهم «بفتاوى المرجعية»، رفضوا الاستجابة إلى أي مطلب من مطالبها ينال ولو ذرّة واحدة من المكاسب الكبيرة التي حقّقوها، بما في ذلك استغلال مناصبهم للفوز بفرصة الحجّ، أو تعطيل عمل الجمعية الوطنية.
وبحسب أحد البرلمانيّين، فإنّ «أحد أكبر المراجع لم يغادر منزله منذ سنة 1997، خوفاً من تعرّضه لمحاولة اغتيال، سببها صراع النفوذ بين المرجعيّات، فكيف يمكن الاقتداء به عندما يطالب الآخرين بالاندماج مع الناس، وهو معتكف منذ أكثر من 10 سنوات، ولم يبرح مكانه إلا عندما اقتربت منه معارك النجف في صيف 2004، حيث نُقل تحت الحراسة المشدّدة التي شاركت فيها طائرات الاحتلال إلى البصرة، ومنها إلى لندن، ليعود بعد ذلك وهو يحمل راية المنقذ، بإبرام اتفاق غير مباشر يبتعد بموجبه التيار الصدري عن النجف».
على أنّ الانتقادات التي توجَّه إلى المرجعية، شملت الأهازيج الشعبية للشارع الشيعي، الذي شعر بخيبة أمل مريرة إزاء تردّي الأوضاع، بسبب ما اعتُبر «خديعة» لانتخاب أشخاص، تقول المرجعية نفسها إنّهم آثروا مصالحهم الخاصة على مصالح الذين انتخبوهم. ومن هذه الأهازيج المتداولة باللهجة الشعبيّة العراقيّة: «قشمرتنه المرجعيّه… وانتخبنه السرسريّه». ما معناه «خدعتنا المرجعية، وانتخبنا السيّئين». بينما يتداول الكثيرون مصطلح «السستنة»، الذي ابتكره الصدريّون، تعبيراً عن «الخمول أو النعاس والرغبة في النوم».
ولعلّ أبرز المآخذ التي يتحسّسها الناس تجاه المرجعيّة، شعورهم بأنّ الاحتلال لم يأتِ «لإزالة مظلوميّة الشيعة»، كما أوهمتهم بذلك القوى السياسية الدينية، المدعومة من المرجعية أو المتحدّثة باسمها، وإنّما جاء لزيادة مظلوميّتهم، من خلال حرمانهم الخدمات ونشر البطالة، ورفع الدعم عن الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي والوقود، وصولاً إلى شحّ مواد البطاقة التموينية، وعدم انتظام وصولها في مراكز المحافظات.
ويُلاحظ المتابعون للوضع العام في العراق، أنّ تلكّؤ الحصّة التموينية التي يعتمد عليها أكثر من 60 في المئة من الشعب العراقي في معيشتهم، وخاصة في الجنوب، لم يحظ بذلك القدر من الاهتمام «المرجعي»، في وقت يتذكّر فيه أبناء الجنوب أنّ السبب الأول لاندلاع أحداث عام 1991، إثر انسحاب الجيش العراقي من الكويت، هو «الحصة التموينية»، التي انقطعت عن المواطنين في الجنوب في الأشهر الثلاثة التي سبقت الحرب، ما أدّى إلى مهاجمة مخازن المواد الغذائية والدوائر الحكومية، وهذا ما تداركه نظام صدام في حرب 2003 عندما وزع حصّة ثلاثة أشهر سلفاً.
كما أنّ المرجعية لم تكن فاعلة خلال النظام السابق، بل إنها أرسلت وفداً قبل الغزو بمدّة قصيرة إلى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، المتّهم بمدح صدّام، للتفاوض معه حول صياغة قصيدته عن الإمام الحسين بالذهب الخالص، لوضعها على ضريح الإمام، بينما كان أمين سرّ عدي صدام حسين، أديب شعبان، من المواظبين على زيارة كربلاء لتزويده بماء من البئر القريبة من مرقد العبّاس، يتبارك به عدي ويعتقد أنّه يبرئه من مرضه.
واليوم، يعتقد الكثير من المحلّلين السياسيّين بأنّ المرجعية، التي هادنت الاحتلال، أُعطيت زخماً مقصوداً من قبله خلال أحداث النجف ربيع وصيف 2004، لغرض تغذية الاستقطاب الطائفي، وخاصة من خلال تنفيذ مشروع «البيت الشيعي» الذي أشرف عليه أحمد الجلبي المعروف بولائه للاحتلال.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ «المرجعية» لم يكن لها دور سياسي يُذكَر في كل العهود السابقة باستثناء موقفها المعادي لحكم ثورة 14 تموز 1958، وخاصة ضدّ قانون الإصلاح الزراعي، الذي أصدر المرجع عبد المحسن الحكيم فتواه الشهيرة بتحريمه، واعتبار «الصلاة على أراضي الإصلاح الزراعي باطلة».
COMMENTS