التطورات الهائلة في ميدان التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي تبعث آمال الدولة العميقة الأميركية بالسيطرة الأحادية الأبدية على المعمورة. أي تجاهل لسياق احتدام الصراعات الدولية الراهن، الناجم أصلاً عن السعي الأميركي المحموم للحد من انحسار هذه السيطرة، وارتباطه الوثيق بـ«الثورة التكنولوجية الرابعة»، وفي القلب منها الذكاء الاصطناعي، سيمنع من إدراك توظيفاتها الراهنة والمستقبلية الأكثر خطورة، ومفاعيلها على توازنات العالم الإجمالية.
ارتفعت أصوات كثيرة، في الغرب أساساً، للتحذير من التداعيات الداخلية الكارثية لهذه «الثورة» بالنسبة إلى قطاعات اجتماعية عريضة، بما فيها شرائح معتبرة من الطبقات الوسطى العتيدة، من مهندسين ومحامين وأطباء وغيرهم، باتت مهدّدة في المدى القريب والمتوسط بفقدان وظائفها لصالح خوارزميات الذكاء الاصطناعي، في حال تغلّب منطق الربح الرأسمالي الصافي على الحد الأدنى من الضوابط السياسية والاجتماعية التي تفرضها الدول عليه حفاظاً على استقرارها.
موازين القوى الاجتماعية الداخلية التي تزداد اختلالاً لصالح حفنة من أصحاب المليارات، وهم يمثلون 1% برأي البعض، و0,1% برأي البعض الآخر، من مجمل سكان الكوكب، والتداخل الكبير بين مصالح هؤلاء ومصالح النخب السياسية الغربية الحاكمة، لا تبشّر بالخير بالنسبة إلى الأغلبيات الشعبية في هذه البلدان. ولا شك أن مثل هذه الظروف ستقود إلى تجدّد وتعاظم الصراع الطبقي بأشكال وأنماط غير معهودة، بعد أن ظنّ كثيرون أنه أضحى جزءاً من مرحلة تاريخية تمكّنت «الديموقراطيات الليبرالية» من تجاوزها.
غير أن المفاعيل والتداعيات الأشدّ هولاً لتوظيفات الذكاء الاصطناعي ستتجلى على الأرجح في البقاع الواقعة خارج حدود «الحديقة الغربية»، حيت تخوض الولايات المتحدة وحلفاؤها مواجهة محمومة ضد «المنافسين الاستراتيجيين» وضد الدول والحركات المناهضة لهيمنتهم. لقد اجتاح الغرب بقية العالم في القرون الماضية وتحكّم بمصائر شعوبه وبثرواتها بفضل تفوقه في تقنيات القتل. «صلة رحم» تجمع التطور العلمي والتكنولوجي بتاريخ الاستعمار الغربي: من اختراع السلاح الناري والبندقية الآلية، مروراً بالمدافع والأساطيل البحرية، إلى سلاح الطيران والصواريخ، وصولاً إلى القنابل النووية والأسلحة الذكية بأنواعها المختلفة.
لكنّ إرادة المقاومة الصلبة للشعوب غير الغربيّة ولقواها التحرّرية، والخبرات التي اكتسبتها بعد مراحل طويلة من الصراع مع المستعمرين، هي جميعها عوامل مكّنتها من امتلاك السلاح بدورها، وابتداع أساليب المواجهة الملائمة التي عطّلت من فعالية التفوّق التكنولوجي وسمحت بإلحاق الهزيمة بالقوى الاستعمارية. ولا شك أن كسر احتكار الغرب للتكنولوجيا العسكرية المتطورة، خاصةً تلك النووية، من قبل دول كالاتحاد السوفياتي ومن بعده الصين، قد حال دون استخدامها من قبل الأول عندما واجه مقاومة ضارية في كوريا أو في فييتنام.
نجاح الغرب اليوم في تحقيق التفوق النوعي في مجال «الثورة التكنولوجية الرابعة»، وهو أمر غير محسوم نتيجة للمنافسة الصينية القوية أساساً، هو التهديد الأكبر بالنسبة إلى شعوب الجنوب العالمي. فالطموح لاستعادة السيطرة على شعوبه ومواردها بالاستناد إلى قوة عسكرية جلّها من الروبوتات وآلات القتل الذكية، أي خوض الحروب بلا أكلاف بشرية، هو الذي يفسّر قبل أي عامل آخر الاستثمار المكثّف للعسكرية الغربية في ميدان الذكاء الاصطناعي. ملف «قضايا» الذي تنشره «الأخبار» حول «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي» يهدف للمساهمة في فتح حوار عميق حول هذه التحدّيات الوجودية بالنسبة إلى شعوب منطقتنا ومستقبلها.
وليد شرارة , كاتب ومفكر عربي من لبنان
الأحد 6 آب 2023
COMMENTS