مجدداً، يظهر جلياً كيف تُسخّر إسرائيل عالم الديجيتال وصنّاعه من أجل أهدافها. كيف تُركَّع الخوارزميات، وتُسلب سطور البرمجة هدفها الأوّل، وكيف تستحيل مراكز البيانات الأميركية الكبرى بيوتاً مظلمة تعيش فيها أنظمة ذكاء اصطناعي وبرامج تحليل وتعرّف على الوجوه والأصوات، يستخدمها العدو ضد الفلسطينيين. واقع أعاد «نيمبوس» إلى الواجهة، بعد تظاهر موظفي غوغل ضد تعاون شركتهم مع حكومة الاحتلال.
رفع المتظاهرون تقارير تربط مشروع «نيمبوس» بتوفير التقنيات المتقدمة لإسرائيل، بما في ذلك أنظمة الكشف عن الوجه، والتصنيف الآلي للصور، وتتبّع الأشياء، وتحليل المشاعر. وقد أثار استخدام هذه التقنيات في العمليات العسكرية الإسرائيلية مخاوف أخلاقية وإنسانية بين الناشطين، ما دفع بهم إلى الاحتجاج. وهي ليست المرّة الأولى التي يرفع موظفو غوغل صوتهم ضد المشروع ومخاطره على الشعب الفلسطيني. ففي عام 2021، نشرت مجموعة من موظفي غوغل وأمازون رسالة بشكل مجهول بسبب الخوف من الانتقام، أكدوا فيها اتخاذهم موقفاً ضد مشاركة شركتَيهم في مشروع «نيمبوس». حينها، أعرب الموظفون الذين يمثلون خلفيات منوّعة، عن التزامهم الأخلاقي بدعم القيم الأساسية لخدمة الناس والارتقاء بهم. ووقع أكثر من 90 موظفاً في غوغل وأكثر من 300 من أمازون داخلياً على رسالة تدين التعاون مع قوّات الاحتلال الإسرائيلي. ووُقِّع العقد خلال أسبوع أسفرت فيه الهجمات الصهيونية على الفلسطينيين في غزة عن خسائر كبيرة. وشجب الموظفون قدرة التكنولوجيا على مفاقمة التمييز والتهجير عبر مدّ إسرائيل بمزيد من تقنيات المراقبة، وجمع البيانات غير القانونية، وتوسيع المستوطنات غير القانونية على الأراضي الفلسطينية. وامتدت نداءاتهم إلى ما هو أبعد من أماكن عملهم، حيث دعت العاملين في مجال التكنولوجيا العالمية والمجتمع الدولي إلى الاتحاد في بناء مستقبل تعزز فيه التكنولوجيا السلامة والكرامة للجميع.
عندما فُعّل مشروع «نيمبوس»، رُحّب به داخل كيان الاحتلال باعتباره «يغيّر قواعد اللعبة» من قادة صناعة التكنولوجيا. ووفقاً لزعمهم، يهدف المشروع الطموح الطويل الأمد إلى إنشاء منصة واسعة للحوسبة السحابية، ما يدفع إسرائيل إلى الأمام تكنولوجيّاً. كما يُنكر الاحتلال المخاوف بشأن المراقبة، ويتحدّث خبراء الصناعة عن أنّ المشروع سيُحدث ثورة في الخدمات والصناعات في الكيان. والمُضحك في هذا الشأن، أنّ العدو ينفي خطورة المشروع، في حين أنّ موظفي الشركتين اللتين عملتا عليه، هم من فضحوا القصة وكشفوا مخاطرها.
بالعودة إلى الاحتجاج أمام غوغل، وجد المتظاهرون فيه فرصة للتحدّث عن همجية قوات الاحتلال وقتلها الممنهج للمدنيين في غزة، وأشار هؤلاء إلى استشهاد مي عبيد، وهي زميلة لهم في الشركة منذ عام 2020، في غارة جوية إسرائيلية في غزة. فأضاف موتها بُعداً شخصياً لمطالب المتظاهرين، موضحاً العواقب الفعلية للتقنيات المقدمة عبر مشروع «نيمبوس».
وخارج سان فرانسيسكو، اندلعت احتجاجات مماثلة على مستوى العالم، إذ خرجت تظاهرات في لندن، وسياتل، ونيويورك. ويعمل موظفو غوغل والناشطون، المتحدون تحت شعار حملة «لا تكنولوجيا في خدمة الأبارتهايد»، إلى الدفع باتجاه مزيد من الوعي والمساءلة، والحثّ على إنهاء ما يعتبرونه «دعماً ضمنياً من غوغل للأعمال العسكرية الإسرائيلية».
في مواجهة موجة الاحتجاج، حافظت غوغل على موقفها، مؤكدة أنّ «نيمبوس» يلبي في المقام الأول التطبيقات غير العسكرية. وأوضحت المتحدثة آنا كووالتشيك أنّ المشروع يخدم وزارات الحكومة الإسرائيلية في قطاعات مثل المالية والرعاية الصحية والنقل والتعليم، فيما أكّدت غوغل بشكل قاطع أنّ عملها لا يستهدف الأنشطة العسكرية الشديدة الحساسية أو السرية. وأضافت أنّ الاحتجاج قادته «منظمات وأشخاص لا يعملون إلى حد كبير في غوغل».
قوبل هذا الموقف بتشكيك من موظفي غوغل، بما في ذلك فاليري كوان، مهندسة البرمجيات التي شاركت في تنظيم الاحتجاج. عارضت كوان ادعاءات الشركة، وكتبت: «نتمنى أن تتوقف غوغل عن مساعدة الجيش الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال، وخاصة قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، طالما أنّهم ينتهكون باستمرار حقوق الإنسان للفلسطينيين وجيرانهم العرب». وأضافت: «هذا العقد يحرم غوغل من الحق في حجب أي خدمات مقدمة للجيش، وبالتالي يجب إيقاف العقد بأكمله مع إسرائيل»، مشددةً على أنّ «العاملين في غوغل وأمازون كانوا دائماً المنظّمين الرئيسيين الذين يقاتلون ضد مشروع نيمبوس». وتابعت: «على الرغم من أنّنا تمكّنا من جذب جزء كبير من مجتمعنا للالتفاف حول حملة «لا تكنولوجيا في خدمة الأبارتهايد»، إلا أنّ مسؤوليتنا كموظفين هي قيادة الجهود». وفي هذا السياق، يقول موظفو غوغل إنّه لا ينبغي للشركة توفير قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة لحكومة متّهمة بانتهاك حقوق الإنسان للفلسطينيين وجيرانهم العرب بشكل مستمر.
يُعد احتجاج فرانسيسكو، بمثابة نقطة بداية لنقاش أوسع حول المسؤوليات الأخلاقية لشركات التكنولوجيا في الحروب. ويثير أسئلة جوهرية حول دورها في تشكيل مسار الصراعات الدولية وتأثير مبادراتها على حقوق الإنسان. الكل يعلم أنّ شركات الأسلحة هي المستفيد الأوّل من الحروب، لكن في عصر الديجيتال يبدو أنّ عمالقة التكنولوجيا أيضاً لهم دورهم وتأثيرهم ومكتسباتهم. وأشهر الأمثلة على ذلك، تفعيل خدمة «ستارلينك» للإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية فوق أوكرانيا من قبل شركة «سبايس إكس» التي يملكها إيلون ماسك، والتي جنت ملايين الدولارات مقابل ذلك من البنتاغون عبر أموال دافعي الضرائب الأميركيين.
كل ذلك يدفعنا إلى التفكير في المشهد الأخلاقي الأوسع لشركات التكنولوجيا. فالاحتجاج ضد مشاركة غوغل في مشروع «نيمبوس» ليس حادثة معزولة، بل هو جزء من خطاب أكبر، وخصوصاً مع تزايد تشابك مصالح عمالقة التكنولوجيا بالشؤون الجيوسياسية حول العالم. فتبرز أسئلة حول من يحكم تلك الشركات فعلياً، وعن العواقب المحتملة لتعاونها مع الحكومات والكيانات العسكرية. تلعب التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، دوراً محورياً في الحروب الحديثة. مثل نظام الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي «حبسورا» الذي يخلق أهدافاً داخل غزة ليقصفها طيران الاحتلال (الأخبار 4/12/2023). في مقال نشرته «فورين بوليسي» في 17 حزيران (يونيو) الماضي تحت عنوان The Next Global Superpower Isn›t Who You Think، يتحدث الخبير في الشؤون السياسية، إيان بريمر، عن عالم جديد قادم، يضمّ ثلاث قوى عظمى: الأولى هي الولايات المتحدة التي تسيطر على الأمن والعسكر، والثانية هي الصين التي تتحكم بالاقتصاد العالمي والتجارة، فيما تأتي عمالقة التكنولوجيا كقوّة عظمى ثالثة قادمة (الأخبار 14/9/2023). الأمر ليس تفصيلاً، ولم يعد بالإمكان تغييبه عند التحدث عن الأحوال والمشاريع الجيوسياسية حول العالم.
علي عواد، صحفي عربي من لبنان، متخصص في شؤون تكنولوجيا المعلومات والإنترنت
الخميس 21 كانون الأول 2023
COMMENTS