لم تنته فصول “الطوفان” وتردداته في غزة بعد، إذ رسمت المئة يوم الأولى تفاصيل الما قبل والما بعد، وإلى أن يكتب التاريخ ما كتبه “طوفان الأقصى” صبيحة يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
في اليوم الأول، زَلزَلَ “الطوفان” زلزاله، وحقّقت المقاومة في غزة الدهشة الأولى، فانعقدت لها كل الألسنة والحسابات والجلسات، وأنزلت الضربة الأشدّ على رأس الكيان فأفقدته توازنه، فازداد إجرامه “التاريخي” استفحالاً، وكرّست المقاومة في “الميدان والأيام والليالي” ـ وما تزال ـ بصمات في تعجّيز نُخَب الجيش الإسرائيلي وتكسير الهالات والمحرمات. في المئة يوم الأولى، إنفرجت أسارير، وانقبضت نفوس، واكفهرّت وجوه، وتعبت دموع واستعجل الخبثاء إنقاذ الكيان، وضَمُرَت نوايا ذوي القربى بالكتمان، لكن كلمة المقاومة وفلسطين أشرقت مجدداً، وطَغَت بنور شعبها وحقوقه ومظلوميته كل جهات المعمورة.
حصل “الطوفان”، وما تزال أمواجه تتلاطم، ومقاوموه يجسدون نموذج الشجاعة والإقدام. تصوّروا كيف يصل الرجال إلى المسافة صفر. يضربون ويزرعون ويزغردون. صُورهم تُبهر الناظرين إليها. فيها مدلولات الصبر والاحتمال وأسبابه. وكأنما تلك الأيام المعدودة هي الدهر المكتمل. به وخلاله تجلّت غزة المقاومة وما يسطر أبطالها بأبهى الصور. تجلت بالمدنيين الصامدين الذين أفلحوا بما لا يطيق تحمّله آدميّ. تجلت بصور الأطفال وبراءتهم المُنتهكة ودماءهم المسفوكة؛ إلى النساء وما عجزت عنه القدّيسات تحت التعذيب فما نطقن بغير الحمد لله، إلى زملاء من أهل الصحافة والإعلام كانوا قرابين على مذبح حرية نقل الحقيقة على عريها ومن أرض الواقع فسقطوا ضحايا مرتين: مرة برصاص جيش العدو، ومرة بسكوت منابر الدفاع عن حريات الإعلام إلى حد الصمت المريب والكريه.
حصل “الطوفان”، فانتصب ميزان التضحيات ما فوق بشرية في أزقة غزة وشمالها ووسطها وجنوبها؛ في مخيماتها ومستشفياتها ومدارسها، وعلى أيدي أطبائها وممرضيها المقتولين عنوة وعلانية، إلى الناجين منهم كالنُسّاك في المعابد، إلى المئات من المسعفين والدفاع المدني وقد أبلوا وسجّلوا من الوقائع ما يحكي العديد من الويلات والمآسي.
على مدى مئة يوم تحطّمت أسطورة الجيش الذي كان لا يُقهر، فاستعاض عن انكساره المكشوف وتحت عدسات الكاميرات وعيون المقاومين وحُفَاتهم، استعاض بارتكاب المجازر وسفك الدماء في حفلة جنون لا مثيل لها، وتفوّق على البربرية عينها بالقتل والتدمير وانتهاك الحرمات، وتجاوز قوانين الحروب، وتغوَّل في انتهاك أجساد الضحايا وسرقة مقابرهم.
وبـ”الطوفان”، انكشفت البقع السوداء في وجوه بعض البشر، في استعلائية وعدائية خطاب الدول القوية وأفعالها، وفي صمت الدول المُسْتتبَعَة لإرادة تلك الدول القوية، وتعرّت أعلى منظمات الأمم وتفرعاتها، وبَانَ ضعفها ودورها المفقود والمُستَلب أصلاً، وصمتت بيانات منظمات حقوق الإنسان وحبرها الكاذب، ومثلها في ادعاءات اللاهثين وراء شعارات حرية الرأي وحرية التعبير والسعي إلى التغيير.
لقد أسقط “طوفان الأقصى” الأقنعة، فسقطت وجوه عديدة للتوّ وبتلقائية ذاتيّة منها.
في غزة “الميدان والأيام والليالي” زلّزل “الطوفان” زلزاله، وانْرَسَم دهر في مئة يوم، وانفَتَحت سجلات الشرف لمن يقدر، وعلامة العار لمن يرغب، وانفرز سكّان الكرة الأرضية وأجناسهم، وصنوف سلوكياتهم وقيمهم، فكأنما “الطوفان” الذي عمَّ المعمورة كان مختبراً لقياس المسافة بين الإنسانية والبربرية، بين الضمير الحيّ و”كوما” الحياد واللامبالاة.. كان انقلاباً في معنى الإنسانية، وصار تاريخاً جديداً في مسالك ترجمتها وتطبيقها، وحدثاً فاصلاً لمعنى الفروض الدينية والدنيوية، وتعريفات الحلال من الحرام والتحريم.
من عظيم المئة يوم الأولى أنها أقامت الحد بين معنى الأفعال قبالة غياب معنى الكلام، لا سيما إذا كان تكراراً لصياغات بالية وخشبية صدرت سابقاً، أو في طريقها للصدور الباهت حتماً.
منى سكرية، كاتبة وصحافية وفنانة تشكيلية عربية من لبنان
الثلاثاء، 16 كانون الثاني/ يناير، 2024
COMMENTS