غالب أبو مصلح / كانون الأول 2023/
يمرّ عالمنا في مرحلة مخاضٍ تاريخي تكثر فيه التناقضات داخل العديد من الدول، كما تتعدّد الصراعات بين الدول وتتفاقم اللامساواة داخل الدول وفيما بينها. ترتفع مستويات المديونية والفقر وتتزايد الحروب، وتُطرح حول ذلك كلِّه تساؤلاتٍ ومخاوف: هل يتّجه عالمنا اليوم نحو حربٍ عالميةٍ ثالثة، وإلى أين سيقودنا هذا التسلّح المتنامي للدول؟ هل ثمة رابطٌ بين الحروب المتناثرة حول العالم؟ في محاولة فهم ما يحدث، لا بد من رؤيةٍ شاملة للمتغيرات الأساسية في بنية النظام العالمي الآخذ في التأزّم.
مع ظهور المجتمع البرجوازي، نتاج النظام الرأسمالي في أوروبا، وظهور الدّول القوميَّة الأوروبيَّة المتصارعة فيما بينها، ظهرت بوادر النظام الاستعماري العالمي. هناك رابطٌ قويٌّ بين النظام الرأسمالي والاستعمار. فاقم النظام الرأسمالي اللامساواة في المجتمع البرجوازي، وعمل على توتير علاقاته الداخلية. يقول هيغل في كتابه، “أصول فلسفة الحق”، إن المجتمع البرجوازي يبدو غير قادرٍ على حلّ مشاكل التفاوت الاجتماعي وعدم الاستقرار الذي تعزّزه اتجاهات التراكم الفائض للثروات في جهة، والعوز في الجهة المقابلة، عبر الآليات الداخلية (الدولة). وبالتالي، يندفع المجتمع البرجوازي الناضج للبحث عن حلولٍ في الخارج عبر التجارة الخارجيَّة “والسيطرة الاستعمارية أو الإمبرياليَّة”. ويقول أريجي Arrighi: “مثل علاقة الحرب بالدبلوماسية، فإن تدخُّل رأس المال التوظيفي المدعوم بقوَّة الدولة (الاستعماريَّة) تقود عادةً إلى تراكم رؤوس الأموال بطرقٍ أُخرى (غير فائض القيمة في الإنتاج الرأسمالي الصناعي الخاص). ويشكّل الحلف غير المقدَّس بين قوَّة الدولة ورؤوس الأموال الباحثة عن ضحايا القوَّة المميتة للرأسماليَّة الكاسرة (Vulture Capitalism) ، والتي تقوم بإدارة أكل لحوم البشر”.
ربما كانت “شركة الهند الشرقيَّة” تمثّل هذا الدور الاستعماري في سياساتها في الهند ثم في الصين، حين زرعت الأفيون في الهند وفرضته على الصين عبر حروب الأفيون التي شنّتها على الأخيرة، بالشراكة مع دولٍ غربيةٍ أخرى. ويقدّر المؤرّخون أن ما نهبته بريطانيا بالقوّة من الهند يزيد على كل التوظيفات الاستثماريَّة للثروة الصناعيَّة فيها.
قبل القرن التاسع عشر، كانت مستويات المعيشة بين الجماهير في معظم أنحاء العالم متقاربة؛ وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن الفروقات الكبيرة بين الأمم في مستويات حياة الجماهير معروفة: “حتى الهوَّة القصوى، مثل تلك التي بين الصين والمملكة المتَّحدة، كانت فقط ثلاثة أضعاف. يقارَن هذا الفارق بذاك الذي وصل إلى عشرة أضعاف في بداية عام 1950،” بحسب إريك بوسنر وغلون وايل.
قبل القرن الثامن عشر، كانت الديمغرافيا تحدّد ثروات الشعوب، وكان نصيب آسيا من الناتج العالمي يبلغ 60%، مقارنةً مع ناتج أوروبا الذي بلغ 20%. وبفضل الثورة الصناعيَّة التي أدّت إلى احتكار المعرفة التقنيَّة، كما بسبب النهب الاستعماري، انقلبت هذه النِسب، فأصبح لأوروبا 60% من الناتج العالمي ولآسيا 20%، رغم الفروقات الديمغرافيَّة الشاسعة بين الطرفين.
طوَّر النظام الرأسمالي الاستعماري وسائل نهب ثروات شعوب العالم، فتوسّعت الفروقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بين مراكز هذا النظام وأطرافه. عملت مراكز هذا النظام على حجب الثقافة والعلوم الحديثة عن دول الأطراف الفقيرة بشكل خاص، لمنع تطورها واللحاق بها على طريق النمو الاقتصادي، وابتكر في هذا المجال وسائل جديدة. في المراحل الأولى من الاستعمار الأوروبي، كانت القدرات العسكريَّة الأوروبيَّة المتطوّرة هي وسيلة السيطرة على دول المستعمرات وسلب ثرواتها وفرض احتكار التجارة معها، كما شروط هذا التبادل التجاري، وتسخير قواها الشَّاملة لخدمة مصالحها الاقتصاديَّة بشكل مباشر. وتطوّر هذا النظام الرأسمالي وتطوَّرت وسائل سيطرته ونهبه لشعوب دول الأطراف، بعد أن أصبح هذا النظام الرأسمالي نظاماً عالمياً مسيطراً.
تطوّر أدوات الإستعمار القديم-الجديد
يقول جوزف ستيغلتس في كتابه، “خيبات العولمة”: “لا تُفتَح الأسواق الناشئة اليوم عبر التهديد بالقوة العسكريَّة، بل بالقوَّة الاقتصاديَّة، عبر التهديد بالمقاطعة وحجب المساعدات في أوقات الصعوبات”. هذا القول ليس صحيحاً، إذ أن مراكز النظام الرأسمالي العالمي لم تتوانى عن استعمال القوَّة العسكريَّة في نهبها لثروات الشعوب وإخضاعها لمصالحها. للولايات المتَّحدة، التي مثَّلت وتمثّل مركز هذا النظام منذ نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية، حوالى 800 قاعدة عسكريَّة حول العالم، وتمتلك أساطيل بحريَّة وحاملات طائراتٍ تسيطر بها على معظم معابر الطرق البحريَّة، والتي تمرّ عبرها حوالى 90% من بضائع التجارة العالميَّة. وخاضت الولايات المتَّحدة وبعض أتباعها، مثل بريطانيا، حروباً كثيرة، مباشرةً أو بالواسطة، للسيطرة على الدول والشعوب، وغيَّرت بالقوَّة العسكريَّة العديد من الأنظمة غير الموالية لها في العالم، وأجهضت تقدّم العديد من الشعوب بوسائل شتَّى، من ضمنها العدوان العسكري. أما على الصعيد العربي، فقد تعرّضت معظم الدول العربيَّة لاعتداءاتٍ عسكريَّةٍ أجهضت تقدّمها وغيَّرت أنظمتها وأخضعتها للسيطرة الاستعماريَّة الجديدة. أذكر في هذا المجال مصر والصومال والسودان والعراق وسوريا ولبنان وليبيا والأردن، وقبل ذلك كلّه فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني كقلعةٍ استعماريَّةٍ في قلب المشرق العربي. وقد وصف تشومسكي الكيان الصهيوني بأنه ولايةٌ أميركية ذات امتيازاتٍ خاصَّة.
تربَّعت الولايات المتَّحدة على عرش النظام الرأسمالي العالمي منذ الحرب العالميَّة الثانية، وصنعت النظام الرأسمالي الاستعماري الجديد لخدمة مصالحها وسيطرتها على دول العالم. بَنَت إبَّان الحرب قدراتٍ صناعيَّةٍ كبيرة وترسانةٍ عسكريَّةٍ هائلة وأسلحةٍ أكثر حداثة وقواعد عسكريَّةٍ وسَّعتها بعد الحرب لتمسك بخطوط التجارة، حيث تُنقَل حوالي 90% من السلع في التجارة الدَّوليّة عبر البحار. بلغ عدد القواعد العسكريَّة الأميركية بعد الحرب العالميَّة الثانية ما يقارب الـ800 قاعدة في العالم، كما أسلفنا، وسرعان ما خاضت عدَّة حروب، في آسيا خاصَّة، لاحتواء توسُّع المعسكر الاشتراكي، وخاصَّة الصين الشَّعبيَّة، وفرضت “ستاراً حديدياً”، كما سمَّاه تشرشل، حول المعسكر الاشتراكي، وعملت على بناء أحلاف عسكريَّة لحصاره. كما بَنَت الولايات المتَّحدة النظام الرأسمالي العالمي الجديد بركائزه الأساسيَّة لخدمة مصالحها وسيطرتها على العالم. تمثَّل هذا النظام على الصعيد الاقتصادي بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة على التعريفات الجمركية والتجارة (أصبحت فيما بعد منظمة التجارة العالميَّةWTO- )، والدولار كعملةٍ عالميَّةٍ مرتبطةٍ بسعرٍ ثابتٍ بالذهب؛ وذلك إلى جانب الأمم المتَّحدة وأجهزتها، وخاصَّة مجلس الأمن الدولي، على الصعيد السياسي. وللولايات المتَّحدة وحدها حق النقض في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وعبر المؤسستين الأخيرتين، وعبر دور الدولار، أمسكت الولايات المتحدة بالسوق الماليَّة العالميَّة، وبَنَت مؤسساتٍ لهذه السوق تخضع لإرادتها، ولو لم تكن تابعة لها بشكلٍ مباشر.
تمكَّنت الولايات المتَّحدة عبر هذه الآليَّات من التَّحكم باقتصادات أكثريَّة دول العالم، خاصَّة دول المستعمرات الأوروبيّة السَّابقة، وعملت على منع تنميتها لإدامة استغلالها والتَّحكُّم بثرواتها. لم تسمح الولايات المتَّحدة، عبر سياسات الأحلاف العسكريَّة والحروب العدوانيَّة المباشرة أو بالواسطة، وعبر الانقلابات العسكريَّة التي خطَّطت لها ونفَّذتها في دول المستعمرات الأوروبيَّة السابقة، وعبر إذكائها الصراعات الإثنيَّة والدينيَّة والقبليَّة، وعبر دفع الدول إلى فخ المديونيَّة واستنزافها وحصارها اقتصادياً، وفرض سياسات اقتصاديَّة واجتماعيَّة معادية للتنمية والتحرر، لم تسمح سوى لدولتين صنعتهما هي بعدوانيَّتها، من السير على طريق التنمية الحقيقيَّة إلى التصنيع، وهما كوريا الجنوبيَّة وتايوان، وذلك خدمةً لحصارها المعسكر الاشتراكي، وخاصةً الصين.
منذ قرون، شكَّل فخّ المديونيَّة أحد أهم الوسائل التي استخدمتها وتستخدمها مراكز النظام الرأسمالي العالمي لسرقة الدول الناشئة ونهب خيراتها وإفقارها والتحكُّم بمجمل سياساتها الداخليَّة والخارجيَّة. كانت البُنى الاحتكاريَّة التي تتحكَّم بأسعار السلع الاستراتيجيَّة الرئيسيَّة في العالم، والتَّابعة لمراكز النظام الرأسمالي العالمي، تدفع العديد من الدُّول الناشئة إلى فخّ المديونيَّة. لكن في كثيرٍ من الأحيان، تم دفع بلدانٍ إلى فخ المديونيَّة عبر الضغوطات الخارجيَّة من مركز النظام الرأسمالي ومؤسساته الماليَّة خاصَّة. يقول اقتصاديٌّ نيجيري، “في عام 1978، عندما وافقت نيجيريا على عقد قرضٍ بأوّل مليار دولارٍ من الدين، كان عندها دخلاً من النفط أكثر مما يمكنها إنفاقه بحكمة … في البداية، لتبرير قرضٍ صغيرٍ بمليار دولارٍ ليضاف إلى مدخولها الهائل من النفط، تم تشجيعها لزيادة إنفاقها بشكل هائل، وتمَّت مساعدتنا لترتيب برنامج شراءٍ باذخ، ظننَّاه برنامج تنمية”.
في ثمانينات القرن الماضي، دفعت الولايات المتَّحدة ومؤسساتها الماليَّة دول أميركا اللاتينيَّة إلى الإفلاس، وذلك عبر رفع أسعار النفط بشكلٍ حاد في سنة 1979 (لم تُرفَع الأسعار آنذاك من قِبَل منتجي النفط) وتقديم قروضٍ ساخنة بفوائد منخفضة للدول تلك، لتدفع ثمن مستورداتها من النفط. ثم رفعت الولايات المتحدة معدل الفوائد على الدولار وسعر صرفه بشكل حاد في الثمانينات، مما ضاعف كلفة المديونيَّة وفاقم عجز ميزان المدفوعات الجارية لدى دول أميركا اللاتينية، بحيث عجزت عن خدمة ديونها. عندها تمنَّعت المصارف الأميركية خاصَّة عن تجديد الديون وطالبت بتسديدها. تحكَّمت مؤسسات النظام الرأسمالي المعنيَّة_ أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وناديَي باريس ولندن ووزارة المال الأميركية (والأخيرة صاحبة القرار الفعلي في تحديد معدَّلات الفائدة على الدولار كما يقول بول فولكر في كتابه Changing Fortunes)_ بالدُّيون، فنجحت في ابتزاز دول أميركا اللاتينية وإجبارها على تغيير أنظمتها الدَّاخليَّة (كأنظمة العمل وحقوق تملُّك الأجانب) وإبدال الديون السَّاخنة (القصيرة الأجل) بموجودات حقيقيَّة (كأسهم المؤسسات) بأسعار جِدّ متدنّية، فسرقت ثروات تلك الدُّول.
أوضحت الشهادات التي توالت من ممثلي البلدان المدينة في المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني، سنة 2002 في “بورتو أليغري”، كيف أنها تدفع مبلغاً يصل إلى ثلاثة عشر دولار مقابل دولار واحد تقترضه (جريدة الحياة 19/02/2002). وفي سنة 2023 ندَّد الأمين العام للأُمم المتَّحدة، أنطونيو غوتيريش، بخنق دول العالم الغنيَّة وشركات الطاقة للبلدان الفقيرة بمعدلات فائدة “جشعة” وأسعار مرتفعة. وقال غوتيريش، “إن دول منظومتنا الماليَّة العالميَّة صُمّمت من قِبَل الدول الغنيَّة لتعود بالفائدة عليها إلى حدًّ كبير” (جريدة الشرق الأوسط 05/03/2023).
إن نمو الفروقات في مستوى المعيشة بين شعوب العالم، وفي مركز النظام الرأسمالي وأطرافه، لا يعود إلى الفروقات بين القدرات الانتاجيَّة الحقيقيَّة للسلع والخدمات الضروريَّة للشعوب فقط، بل يعود إلى النهب المنظَّم والمتنامي من طرف النظام الرأسمالي العالمي للدول الناشئة. إن نمط الحياة في أميركا وأوروبا الغربيَّة، والتي تسعى تلك الدول للمحافظة عليه، ويتباكى بعضها عليه، كان وما يزال نتيجةً لنهب الشعوب في ظل النظام الرأسمالي العالمي السائد ومؤسساته. دفع هذا النظام، حتى سنة 2023، بأكثر من 70 دولة إلى فخ المديونيَّة، والتي بلغت قيمتها 326 مليار دولار، وأوقعت 700 مليون انسان في فقرٍ مدقع. قالت المديرة التنفيذيَّة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتَّحدة، سيدني يالين، لأعضاء مجلس الأمن، “إن أزمة الجوع العالميَّة خلقت أكثر من 700 مليون شخص لا يعرفون متى يحصلون على وجبتهم التَّالية”. ووفقاً لتقدير برنامج الأغذية العالمي، فإن ما يصل إلى 783 مليون شخص في 79 دولة، أي واحد من كل عشرة أشخاص من سكَّان العالم، لا يزالون ينامون جوعى كل ليلة.” (جريدة الشرق الأوسط، 16/09/2023).
لم تغيّر الدول الرأسماليَّة الكبرى استهدافاتها الاقتصاديَّة والسياسيَّة تجاه دول العالم الثالث بعد الحرب العالميَّة الثَّانية. شهدت مرحلة ما بعد تلك الحرب سقوط الامبراطوريات الاستعماريَّة القديمة، وصعود الولايات المتَّحدة إلى مركز القيادة، والتي مارست عمليَّات الاستتباع بشتى الوسائل المتاحة، بما فيها الوسائل العسكريَّة، للإبقاء على “الهيكل الاقتصادي” التَّابع والمشوَّه الذي ولَّدته الحقبة الكولونياليَّة. إن تحقيق التنمية الاقتصاديَّة المستقلَّة كان يدفع حركات التحرر الوطني للعمل على تصفية هذا الهيكل وتغييره داخلياً وخارجياً، وهو الأمر الذي عجزت معظم هذه الحركات عن تحقيقه، كما يقول رمزي تركي في كتابه، “مرحلة الامبرياليَّة الجديدة” (ص. 57-58).
الإمبراطورية تتجاوز ذروتها
غير أن وراثة الولايات المتَّحدة لحروب الاستعمار القديم أدخلها في مسارٍ تاريخي جديد، رغم بعض انتصاراتها، وخاصةً نجاحها في استنزاف الاتحاد السوفييتي وإسقاطه. إن وراثة أميركا للحرب الفيتنامية أفقدها الفائض في ميزانها التجاري والذي عبره راكمت قدرات هائلة مكَّنتها من السيطرة على النظام الرأسمالي العالمي، وخاصّة إبان الحرب العالميَّة التي أخرجت الولايات المتحدة من مرحلة الكساد الاقتصادي الكبير، والذي امتد من سنة 1929إلى سنة 1941. يعتقد بعض الاقتصاديين أن الحرب الكوريَّة منعت الولايات المتَّحدة من الانزلاق إلى مرحلة ركود جديدة، إذ رفعت تلك الحرب الطلب على الإنتاج الأميركي وإنتاج بعض حلفاء أميركا الجدد، وخاصَّة اليابان. لكن الحرب الفيتناميَّة أدخلت أميركا خاصَّة في مرحلة ركود اقتصادي جديد امتدَّ من سنة 1965 إلى سنة 1982، ودفعها بالتالي إلى طريق التقهقر النسبي على صعيد القوَّة الشاملة. ويعتقد هنري كيسنجر أن سبعينات القرن العشرين مثَّلت الذروة النسبيَّة للقدرات الأميركيَّة الشاملة. دفعت الحرب الفيتناميَّة الولايات المتَّحدة إلى التَّحوُّل من دولةٍ دائنة إلى دولةٍ مدينة على الصعيد العالمي، مما أجبرها على التَّخلي عن تعهداتها العالميَّة تجاه ربط سعر صرف الدولار بالذَّهب إبَّان عهد نيكسون في سنة 1972، حيث تمَّ استبدال سعر الصرف الثَّابت للعملات بسعر الصرف العائم، وأدخل العالم الرأسمالي في أزمات وصراعات مالية متلاحقة. “منذ نهاية سنة 1968، كانت الدّيون الأميركيَّة قصيرة الأجل للأجانب تشكّل أكثر من ضعفَي كميات الذهب الأميركي وأرصدة العملات الأجنبيَّة وكميَّة الاحتياطي في صندوق النقد الدولي [أزمة الرأسماليَّة العالميَّة الرَّاهنة، ص. 54-56].
منذ وراثة حرب فيتنام، تجاوز الإنفاق الأميركي النَّاتج المحلي، وبدأت مرحلة عجوزات حساب المدفوعات الجاري. في سنة 1965 دخل النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتَّحدة مرحلة ركود اقتصادي، بل مرحلة انكماش اقتصادي استمر حتى سنة 1981. في هذه المرحلة، حاولت الولايات المتَّحدة تحميل الدولتين الرأسماليتين الناهضتين بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، اليابان وألمانيا الغربيَّة، مسؤوليَّة عجز ميزان المدفوعات الأميركي. أجبرت الولايات المتَّحدة كلَّاً من هاتين الدولتين على رفع سعر صرف عملتها، بهدف خفض عجز ميزان المدفوعات معها، وخاصًّة مع اليابان. ولم ينجح هذا في خفض عجز المدفوعات الأميركي. ثم قرَّرت الولايات المتحدة فرض سياسات اقتصاديَّة جديدة على تلك الدُّول، ولم ينجح ذلك أيضاً في معالجة العجز، فقرَّرت أخيراً إسقاط التزاماتها في اتفاقات “بريتن وودز”، ووقف إبدال الدولارات بالذهب، وعوّمت سعر للدولار، وذلك في عهد نيكسون سنة 1972، فنقلت النّظام النقدي العالمي من نظام سعر الصرف شبه الثابت إلى سعر الصرف العائم، الذي سرعان ما ولَّد موجات حادَّة من المضاربات بالعملات، وولَّد أزمات مالَّة متتالية على صعيد العالم، وخاصَّة دول العالم الثالث. استخدمت الولايات المتَّحدة كل قدراتها العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة لحماية تفوُّقها الاقتصادي واستمرار تربعها على عرش النظام الرأسمالي العالمي، فزادت من عدوانيَّتها تجاه دول العالم كافَّةً، حتى تلك التابعة لها، وطوَّرت وسائل وطرق نهب ثروات الشُّعوب، ولكن ذلك لم يصحَّح وضعها الاقتصادي العام، فأخذ دينها الخارجي بالتَّراكم.
تحوّلات النظام الرأسمالي العالمي
تحوَّلت أزمة الولايات المتَّحدة تدريجيَّاً إلى أزمة شاملة للنظام الرأسمالي، مع سعي شعوب العالم إلى التَّحرُّر من السيطرة الامبرياليَّة الجديدة والاستتباع لمراكز النّظام الرَّأسمالي العالمي، ومع النهضة الاقتصادية للصين الشَّعبيَّة، وتحقيقها إنجازات اقتصاديَّة واجتماعيَّة غير مسبوقة في تاريخ شعوب العالم. أدَّى ذلك إلى مرحلة مخاض عالمي يتحلَّل فيه النظام الرأسمالي العالمي الذي جُدِّد بعد الحرب العالميَّة الثَّانية بقيادة الولايات المتَّحدة، وبات يتبدّى الاتجاه إلى نظام عالمي جديد تسقط فيه هيمنة الدولار كعملةٍ عالميَّة مسيطرة، وتؤول إلى النهاية سيطرة مؤسَّسات النظام الرَّأسمالي الرَّسميَّة التي تعمل لمصلحة الهيمنة الأميركيَّة وخدمة المصالح الأميركيَّة في العالم.
إن الصراع العالمي اليوم يختلف عن صراعات القرن العشرين، والتي بلغت حدَّتها القصوى في حربين عالميَّتين. مثَّلت تلك الحروب بشكلٍ أساسي صراعات ولَّدتها تناقضات وأزمات النّظام الرأسمالي العالمي، ولم يكن صراع الاتحاد السوفيتي مع النظام الرأسمالي هو الطابع الطاغي لتلك الصّراعات. ولم يكن الصراع العقائدي يوماً بين الأنظمة والدُّول يمثّل السِّمة الأساسيَّة للصّراعات الدَّوليَّة. أثبت التّاريخ خطأ غورباتشوف في أحلامه ببناء “البيت الأوروبّي الواحد”، معتقداً أن “إصلاحاته الديمقراطيَّة” تزيل التناقضات بين روسيا والغرب الأوروبي-الأميركي. وأظهرت الأحداث بعدها أن تفكيك الاتّحاد السوفيتي واقتلاع نظامه الاشتراكي وبناء نظام أوليغارشي فيه من قِبل أميركا لم يستطع إزالة التناقض التاريخي بين روسيا من ناحية وأوروبا الغربية وأميركا من الناحية المقابلة. ولم يمنع تحوُّل روسيا إلى النظام الرأسمالي ذي البنية الاحتكاريَّة من التحالف مع الصين الشعبية التي يحكمها الحزب الشيوعي الصيني، بعد قطيعةٍ وعداءٍ وصراعاتٍ أيديولوجيَّة بين نظامين ماركسيَّين مختلفين في تفسير الماركسيَّة. فالصراعات الدولية لها أسبابٌ متعدّدة، أهمّها تناقض المصالح وربما الثَّقافات العالميَّة الكبرى، والتي تمثّل خلاصات تجارب الشعوب.
إن الخلافات الصّينيَّة-الأميركيَّة لم تكن يوماً نتيجة الخلافات العقائديَّة بين النظامين. بَنَت الولايات المتَّحدة علاقات وثيقة مع صين “ماو تسي تونغ” الشُّيوعيَّة الثَّوريَّة، وتناقضت مع الصّين المتخلّية عن ثوريَّتها العالميَّة والآخذة بالكثير من طرق التَّنمية الاقتصاديَّة الرأسماليَّة. إشتدَّ الخلاف بين الدَّولتين الكبيرتين وأخذ أشكالاً حادَّةً في العشريَّة الثَّانية من القرن الحالي، وخاصَّة بعد أن تجاوز حجم النَّاتج المحلّي الحقيقي للصّين، مُقاساً بالقدرة الشّرائيَّة (PPP)، النَّاتج الأميركي سنة 2011، بحسب إحصاءات صندوق النَّقد الدَّولي؛ واشتدَّ الخلاف عندما انطلقت الصّين في توسيع علاقاتها الاقتصاديَّة مع كافَّة دول العالم، وخاصَّة دول العالم الثَّالث، خارج إطار النّظام الرأسمالي السَّائد ومؤسَّساته الرَّسميَّة، ما يهدّد سياسات الاستتباع والنَّهب الرأسمالي لدول وشعوب هذا العالم. إن تحرُّر دول العالم الثَّالث يُفقِر دول المراكز الرأسماليَّة ويُظهِر تناقضاتها الدَّاخليَّة والخارجيَّة. من أهم هذه التناقضات الدَّاخليَّة تفاقم اللامساواة بين الطبقات الاجتماعيَّة، ومن أهم التَّناقضات الدَّوليَّة الخارجيَّة قضايا تفاوت القدرات التنافسيَّة الاقتصاديَّة، والتَّقدم العلمي والتّقني، والدٌّيون الخارجيَّة، النَّاتجة عن الخلل بين الإنتاج والاستهلاك والتوظيف.
تقول مجلَّة “الإيكونوميست” [اليمينيَّة المتطرّفة]، في عددها الصادر في 28 كانون الثاني 2012، إن معدَّل العجز في موازنات الدُّول الناشئة لسنة 2011 كان 2% من النَّاتج المحلّي القائم لهذه الدُّول، بينما بلغ هذا العجز معدلاً قدره 8% من النَّاتج لدى (ما زال يسمَّى بـ) الدُّول الصّناعيَّة السبع الكبرى (G7). وحيث بلغ الدَّين العام كنسبة من النَّاتج المحلّي القائم 36% لدى الدُّول النَّاشئة، بلغ 119% لدى الدُّول السبع المذكورة، وذلك في سنة 2011، بحسب المجلة نفسها.
رغم تزايد عدوانيَّة دول النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتَّحدة تجاه الدول الناشئة، ورغم الحروب العسكريَّة والتجاريَّة والاقتصاديَّة التي تشنّها على الأخيرة، استطاعت الدول الناشئة إعادة تقاسم النَّاتج العالمي لمصلحتها تدريجيَّاً، واستطاعت أن تحقق معدلات نمو اقتصادي أعلى مما تحقّقه دول المركزيَّة الرأسماليَّة العالميَّة. يمكن المقارنة بين نصيب الدُّول السبع من النَّاتج العالمي ونصيب دول “بريكس”، التي تمثّل بشكلٍ ما مسيرة الدول النّاشئة الكبرى، كدليلٍ على المتغيّرات الاقتصاديَّة العالميَّة ومنحى هذه المتغيّرات.
السَّنة | الناتج الحقيقي للدُّول الصّناعيَّة السبع كنسبة من النَّاتج العالمي | الناتج الحقيقي لدول بريكس (الدُّول النَّاشئة) كنسبة من النَّاتج العالمي |
1992 | 45.8% | 16.45% |
2002 | 42.34% | 19.34% |
2012 | 32.28% | 28.28% |
2022 | 30.31% | 30.67% |
الأرقام مستقاة من إحصاءات صندوق النَّقد الدَّولي – المرجع: جريدة الشرق الأوسط 20-08-2023 |
في بريطانيا “العظمى” التي كانت قد تربَّعت على عرش النّظام الرأسمالي لعدَّة قرون، وحتى الحرب العالميَّة الثَّانية، وما زالت متشبّثة بالدّفاع عن هذا النّظام الاستعماري الجديد رغم انهياراته وأزماته، تمثّل التطورات الدَّاخليَّة مؤشّراً لمَنحى تطوّر هذا النظام. تقول مجلَّة الإيكونومست إن 6% من سكَّان بريطانيا أصبحوا غير قادرين على شراء طعامهم بعد منتصف الشَّهر، فيلوذون بالمؤسَّسات الخيريَّة لتأمين غذائهم اليومي. وتقول شركة الطَّاقة الكهربائيَّة البريطانيَّة إن ثلث العملاء مدينون للشركة بسبب تخلّفهم عن دفع فواتير الطَّاقة حتَّى الشهر التَّاسع من سنة 2023، وإن عدد هؤلاء ارتفع بنسبة 36% منذ بداية هذا العام. كما أدَّت أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة في بريطانيا إلى ما يسمَّى “فقر الفراش”. أعلنت مؤسَّسة “برناردوز” الخيريَّة، ونتيجة مسح عينيٍّ أَجرته، أن 6% من الأطفال في العيّنة الاحصائيَّة ذكروا أنهم ينامون على الأرض لعدم توفُّر سرير خاص بهم خلال الأشهر الـ12 الأخيرة، بحسب وكالة الأنباء البريطانيَّة “بي آي ميديا”، وأن استبدال “فراش متعفّن” أو إصلاح سرير غير صالح للنَّوم عليه أو مكسور يأتي في ذيل قائمة الأولويات لموازنات الأُسرة، فيما يكافح الآباء لتوفير الأموال لشراء الضروريَّات.
قتال الغرب اليائس للاحتفاظ بالهيمنة والامتيازات
للدفاع عن النّظام الرأسمالي القائم، بقيادة الولايات المتَّحدة وبتبعية أوروبا وامتداداتها السّياسّة والثَّقافيّة في عهود الاستعمار المباشر (مثل كندا وأستراليا)، تشنُّ الولايات المتَّحدة حرباً باردةً شاملة على الصين الشعبية، بغية كبح نمو قدراتها الشَّاملة، ومنعها بالتالي من تجاوز قدراتها الشَّاملة القدرات الأميركيَّة وقدرات أتباعها الغربيين بشكل خاص، كما فعلت في أواخر القرن الماضي مع اليابان.
إستطاعت الولايات المتَّحدة أن توقف نمو القدرات اليابانيَّة، الماليَّة والاقتصاديَّة، إذ لديها حوالي 80 قاعدة عسكريَّة فوق الأرض اليابانيَّة، بجانب تشابك الاقتصاد الياباني مع الاقتصاد الأميركي. فقد استطاعت الولايات المتَّحدة أن تفرض على اليابان سياسات مالية ونقدية أدخلتها في حالة ركودٍ تضخُّمي Stagflation لأكثر من عقدين من الزَّمن، تخلَفت فيها القدرات اليابانيَّة الشَّاملة عن القدرات الأميركيَّة وخضعت لها. كما استطاعت الولايات المتَّحدة، عبر سيطرتها شبه المطلقة على السوق الماليَّة الرأسماليَّة العالميَّة ومؤسَّساتها الدوليَّة، تغيير معدّلات الملاءة المطلوبة من المصارف العالميَّة؛ وعبر سيطرتها على مؤسَّسات تقييم الملاءة الثَّلاث الكُبرى، استطاعت أن تقضي على تقدُّم وتوسُّع المصارف اليابانيَّة على الصعيد العالمي.
لكن الصين لم تكن مستتبعة للولايات المتَّحدة على أي صعيد، ورغم كل عقوبات أميركا وحلفائها، ما زالت تحقق تقدُّماً في نمو قدراتها الشَّاملة لتتجاوز تلك الأميركية ولأتباعها. نما النَّاتج المحلي القائم للصين بمعدلات أضعاف نمو النَّاتج الأميركي والأوروبي خلال الأشهر الـ12 المنتهية في شهر تمُّوز 2023، بحسب مجلة الإيكونومست. فبينما نما النَّاتج الأميركي بنسبة 2.4%، والنَّاتج الأوروبي بنسبة 0.5%، نما النَّاتج الصّيني بنسبة 6.3%.
راكمت الصّين عبر عقودٍ عدَّة أكبر احتياطات نقديَّة على الصَّعيد العالمي، وكوَّنت الولايات المتَّحدة أكبر دين عام خارجي في العالم كنسبة من النَّاتج المحلّي القائم (GDP). يعني تراكم الدَّين وارتفاع نسبته من النَّاتج العام، ارتفاع المخاطر على النقد وبالتَّالي ارتفاع الفوائد على التَّسليف، تقول مجلة الإيكونومست (3 أيار 2023) تحت عنوان “أميركا تواجه كابوس الدَّين العام”.
خلال نصف القرن الماضي كان معدَّل عجز الخزينة الفدراليَّة الأميركية السَّنوي 3.5% من النَّاتج المحلي القائم. في آخر تحديثٍ لتقديرات عجز الموازنة للسنوات القادمة، أجرته لجنة الموازنة في الكونغرس، قدَّرت اللجنة معدَّل عجز الخزينة الفيدراليَّة السنوي بـ6.1% من النَّاتج المحلّي القائم. ربما كانت هذه التقديرات أقل من المتوقَّع، إذ أن عوامل عديدة تم حذفها بالنّسبة لتقدير العجز، مثل الإنفاق على دعم الصناعة، وإمكانيَّة استمرار خفض الضرائب التي أدخلها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. عند إدخال بعض العوامل المتوقَّعة في الحسبان، سيكون العجز المتوقَّع للخزينة الفدراليَّة 7%-6.1% من النَّاتج، وسيصل هذا العجز السنوي إلى 8% في أوائل الثلاثينات. بالتالي سيتضاعف الدَّين العام الفدرالي إلى حوالي 250% من الناتج الأميركي عند منتصف القرن. إن القسم الأكبر من الإنفاق الفدرالي مفروض بالقوانين وغير خاضع لقرارات واضعي الموازنة السَّنويَّة، وسيتضخَّم هذا الانفاق مع ارتفاع معدل أعمار المواطنين. إن دعم دخل كبار السّن سيصبح مساوياً لمجمل الانفاق على التَّعليم والدّفاع الوطني والعلوم والنَّقل عند سنة 2033. عند ذلك، على الولايات المتَّحدة أن تختار بين خفض الانفاق على منافع كبار السّن، أو رفع معدلات الضَّرائب، أو الدَّمج بين الطريقتين، وذلك لتلافي الارتفاع الهائل في عجز الخزينة.”
ويزداد القلق في أميركا وأوروبا من نمو ديون كبيرة على المؤسَّسات غير الماليَّة في العقود الحديثة، بسبب معدلات الفائدة المنخفضة سابقاً، بمقاييس تاريخيَّة. “منذ سنة 2000، نما دين الشركات غير الماليَّة في أميركا وأوروبا من 68% إلى 90% من مجموع النَّاتج الأميركي الأوروبي وثلث الدين القائم يُعَدّ بمستوى خردة (Junk Bonds) عالي المخاطر، وثلاثة أرباع هذا الدَّين بفوائد ثابتة، وربعه يستحق خلال السَّنوات الثلاث القادمة (الإيكونومست، 16 أيَّار 2023).
معارك فلسطين وأوكرانيا والحرب الشاملة
ربطت القيادات الأوروبيَّة والأميركية بين حربَي غزَّة وأوكرانيا. رأت رئيسة المفوَّضيَّة الأوروبيَّة، أورسولا فون دير لاين، أن هاتين الأزمتين، على الرَّغم من اختلافهما، تدعوان أوروبا وأميركا إلى اتّخاذ موقفٍ مشترك، من أجل حماية “ديمقراطياتها”. وعبَّر الرَّئيس الأميركي “بايدن” عن هذه الرؤى، وطلب من الكونغرس تمويلاً يصل إلى 100 مليار دولار- رغم أزمة الدَّين الأميركي- متعهّداً بعدم السَّماح “للإرهابيين” مثل حماس و”الطُّغاة” مثل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالانتصار.
إن الصّراع في غزَّة كما في أوكرانيا، بنظر الغرب الأميركي-الأوروبي، هو بين “الديمقراطيَّة والاستبداد”، بين “الحرّيَّة والعبوديَّة”، بين “الخير والشَّر”، بين “الحق والباطل”، كما كان الغرب يصوّره إبَّان الحرب الباردة بعد الحرب العالميَّة الثَّانية. تمتد ساحة الصّراع على مساحة العالم، وتقرّر مصير العالم في الوقت ذاته. و”الديمقراطيَّة” تعني مصالح مراكز النّظام الرَّأسمالي العالمي. تبقى هذه “الديمقراطيَّة”، بنظر الغرب، “طاهرةً نقيَّة” رغم عنصريَّتها وفاشيَّتها وجرائمها؛ فهي كطيفٍ لا تجرحه ضربة سيف، ويمكن استعمال أيَّة وسيلة وأي سلاح من أجل “حمايتها”.
يقول إريك والبرغ في كتابه “إمبرياليَّة ما بعد الحداثة” (Post Modern Imperialism): “كما فعلت بريطانيا لفتح سوق الصّين وإضعافها، استعملت الولايات المتَّحدة تجارة المخدَّرات كسلاحٍ في سياستها شبه العسكريَّة. إن استراتيجيَّة الولايات المتَّحدة لمنع دول العالم الثَّالث من الخروج من النّظام الامبريالي دفعتها إلى التَّحالف مع تجَّار المخدَّرات.” وقال “بن راسك”، وزير خارجيَّة الرئيس الأميركي الأسبق “جونسون”، إنَّ على الولايات المتَّحدة استخدام أية وسيلة وسلاح _ السلاح هنا، المخدَّرات هناك… ويقول “روبرت كووبر”، مستشار “طوني بلير”، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق:
“إن التَّحدّي في عالم ما بعد الحداثة هو التَّعوُّد على قبول المعايير المزدوجة. يمكن للأوروبيين أن يتصرَّفوا مع بعضهم على أساس القانون والأمن المشترك، ولكن عندما يتعاملون مع العالم الخارجي، علينا العودة إلى الأساليب الأكثر خشونة التَّابعة لمراحل سياسيَّة سابقة: القوَّة، الهجمات الاستباقيَّة، الخداع، وكل ما هو ضروري. بين بعضنا نحافظ على القانون، ولكن عندما نعمل في الغابة علينا أيضاً أن نتّبع قوانين الغابة” (Robert Kagan, Of Paradise and Power)
وبالتَّالي، فإن الولايات المتَّحدة وحلفائها الأوروبيين يخوضون حرب تدميرٍ في غزَّة لاقتلاع شعبها بواسطة النّظام الصَّهيوني وبوسائل حربٍ من خارج إطار القوانين والأنظمة الدَّوليَّة. ما يجري في غزَّة وأوكرانيا حروبٌ محصورة جغرافيَّاً تدفع إليها الولايات المتَّحدة، ويتخوَّف العالم من انزلاقها إلى الحرب الشَّاملة التي يمكن أن تعني فناء البشريَّة بالسلاح النَّووي. تُشكِّل هذه الحروب المحصورة جغرافيَّاً جزءً عضويَّاً من معركةٍ تشمل كل مستويات الصراع، الاقتصاديَّة والماليَّة والتّجاريَّة والعلميَّة والتّقنيَّة والسّياسيَّة والإعلاميَّة والأخلاقيَّة.
يُعَدّ نصيب الدول من النَّاتج الحقيقي العالمي مقياساً أساسيَّاً لقدراتها الشَّاملة، إذ تحدِّد القدرات الاقتصادية إمكانيَّة تطوُّر القدرات الأُخرى على المدَيَين المتوسّط والطويل. تدخل عوامل عديدة في تقدير القدرات الشَّاملة للدُّول، أهمُّها سلامة أوضاعها الاقتصاديَّة والماليَّة، وحجم صادراتها النّسبي من السّلع والخدمات الاستراتيجيَّة، والسَّيطرة على سلاسل الإمداد في زمنٍ نما فيه التكامل الأفقي عبر دول العالم في الصّناعات ذات التّقنيَّة العالية، وحاجة هذه الصّناعات إلى الكثير من المعادن النَّادرة (ومسألة المصادر وتقنيَّات الصَّهر والطرق المعقّدة للمعالجة)، وعدد السُّكَّان، والتَّحالفات الدولية، والسَّيطرة على أمن وطرق التّجارة الدولية_ البحريَّة منها بشكلٍ خاص، حيث تمرّ 90% من تجارة السّلع الدولية_ والقدرات الإعلاميَّة، إذ يصنع الإعلام الرأي العام الضَّاغط على قيادات دولٍ في العالم، وربَّما يحدّ من وحشيَّة وإجرام بعضها. وبتطوُّر وسائل الإعلام وتقدُّم تقنيَّاته، أفلت الإعلام من سيطرة دكتاتوريَّة رؤوس الأموال والدُّول الاستعماريَّة إلى حدٍّ بعيد، كما تبيّن جرائم “إسرائيل” وأميركا في غزَّة.
في هذه الحرب الشَّاملة بين تكتُّلين دوليَّين أخذا في الاستقطاب والتَّبلور، بدفع معظم دول العالم للانحياز لأحدهما، تقف الولايات المتَّحدة على رأس التَّحالف الرأسمالي الإستعماري النَّاهب لثروات معظم شعوب العالم، وتقف الصّين في مقدّمة الدُّول النَّاشئة السَّاعية إلى تحرير شعوب العالم وتغيير النظام العالمي الرَّاهن. إستطاعت الولايات المتَّحدة، عبر حربها في أوكرانيا، من حشد الدُّول الأوروبيَّة خلف سياساتها الامبرياليَّة، ودفعها لتقليص بل قطع علاقاتها مع الاتّحاد الروسي، وخاصَّة الدَّولة الأوروبيَّة الأكبر، ألمانيا، رغم علاقاتها القويَّة والمتشابكة مع الاتحاد الرُّوسي؛ كما تدفع الولايات المتحدة ألمانيا إلى تقليص علاقاتها مع الصّين أيضاً، ملحقةً بألمانيا ضرراً اقتصاديَّاً متصاعداً. ودفعت واشنطن هذه الدُّول المأزومة اقتصاديَّاً إلى رفع نسبة موازناتها العسكريَّة من ناتجها الإجمالي، وإلى تحمٌّل جزءٍ كبيرٍ من كلفة حربها الأوكرانيَّة. ونجحت واشنطن في دفع اليابان وأستراليا وكندا إلى مزيدٍ من الإنفاق العسكري والاصطفاف خلف سياساتها المعادية للصين، ولو على حساب المصالح الاقتصاديَّة والتّجاريَّة لهذه الدول.
تتحمَّل الولايات المتَّحدة، رغم أزمتها الماليَّة الرَّاهنة، جزءً كبيراً من عبئ الحرب الصهيونية على فلسطين، وذلك عبر وضع مخزونها الاستراتيجي من السّلاح والذَّخائر في كيان الاحتلال، كما عبر جسرٍ جوّي أقامته لإمداد جيش الاحتلال بالذَّخائر والصَّواريخ وغيرها من المعدَّات العسكريَّة. تم إرسال أكثر من 200 طائرة عسكريَّة ضخمة تحمل أحدث ما أنتجته الولايات المتَّحدة من هذه الذَّخائر والأسلحة، حتى أواسط كانون الأول 2023.
إن السّياسة العدوانيَّة الأميركية تدفع بعددٍ متزايدٍ من الدُّول النَّاشئة المتوسطة الحجم في العالم إلى الانضمام لتكتُّل “بريكس”، ليصبح التكتُّل المُمَثِّل الحقيقي للأكثريَّة السَّاحقة من شعوب العالم، وليتمكن هذا التَّكتُّل من إعادة صياغة النّظام العالمي، مع محاولات تجنّب حروبٍ عالميَّةٍ انتحاريَّة.
الصين وسؤال النموذج البديل
إستطاعت الصّين الشَّعبيَّة تحقيق نموٍّ وتنميةٍ اقتصاديَّةٍ سريعة، دون الوقوع في فخ المديونيَّة، عبر الاعتماد على الاستدانة الخارجيَّة في تمويل التَّنمية، وعبر رفع معدَّلات الادّخار فيها إلى نسبٍ مذهلة وصلت إلى أكثر من 50% من النَّاتج المحلي، وحقَّقت معدلات نموٍّ فاقت في مراحلها الأولى والمتوسّطة 14% سنوياً (كان معدَّل التوظيف لزيادة الإنتاج 3/1، وارتفع بعد مراحل من النُّمو إلى حوالي 5/1)، وعبر التركيز على قطاع الصّناعة والتَّقدم العلمي والتّقني. ورفعت الصّين قدراتها الدّفاعيَّة، دون أن تقع في فخ استنزاف قدراتها الاقتصاديَّة في سباق تسلّح، وذلك عبر البناء غير المتوازي لقدراتها العسكريَّة، ونجحت في ذلك. وبعد تراجعها عن تمويل ودعم حركات الثَّورة في دول العالم الثَّالث، عملت الصين على بناء علاقاتٍ تجاريَّة واقتصاديَّة مع هذه الدُّول، لتساعدها على النُّمو خارج إطار سيطرة مؤسسات النّظام الرَّأسمالي السَّائدة في العالم، ونجحت أيضاً في ذلك. فقد بنت الصين علاقاتٍ مميَّزة مع القارَّة الأفريقيَّة، ومكَّنت دولها من أن تحقّق نمواً اقتصادياً سنوياً يزيد معدّله عن معدّلات نمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 3.3%. وحتى في أميركا اللاتينيَّة التي سُمِّيَت بالحديقة الخلفيَّة للولايات المتَّحدة، وحيث منعت أميركا الدُّول الأوروبيَّة من التدخّل في شؤون تلك الدُّول، وفقاً لمبدأ “مونرو”، استطاعت الصّين أن تدخل بقوَّة إلى تلك الدُّول، رغم عدائيَّة أميركا لها، وبفضل عدائيَّة أميركا لمصالح دول أميركا اللاتينيَّة. تقول الإيكونومست:
“مع بداية هذا القرن، تجاوزت الصّين الولايات المتَّحدة لتصبح الشَّريك الأوَّل في التّجارة مع أميركا اللاتينيَّة. إرتفعت التّجارة في السّلع بين الصّين وأميركا اللاتينيَّة إلى 445 بليون دولار في سنة 2021، من 12 بليون دولار في سنة 2000 … (وتم) تعميق العلاقات الجيوسياسيَّة (إذ تَبِعت) العلاقات الاقتصاديَّة. أصبحت الصّين أحد المصادر الكبرى للإقراض في المنطقة: بين 2005 و2021 قدَّمت المصارف الحكوميَّة الصّينيَّة قروضاً بقيمة 139 بيلون دولار للحكومات في أميركا اللاتينية، ووظَّفت بلايين الدولارات في المنطقة، وخاصَّةً في الطَّاقة والتَّعدين. إنضمَّت 21 دولة في أميركا اللاتينية إلى مشروع الحزام والطَّريق، وتتَّجه بلدان أميركا اللاتينيَّة إلى “اليوان” في تجارتها، وتشمله في احتياطات بنوكها المركزيَّة. في السَّنة الماضية تقدَّم اليوان على اليورو في البنك المركزي البرازيلي. منذ سنة 2017 قطعت خمسة بلدان في أميركا اللاتينيَّة علاقاتها مع تايوان لمصلحة الصّين.” (The Economist, July 15th 2023)
تعمل الولايات المتَّحدة على دفع الدُّول الأوروبيَّة إلى تقليص اعتمادها على الصّين وخفض علاقاتها معها. لكن تلك الدُّول، وبسبب الأضرار النَّاجمة عن قطع جُلّ علاقاتها مع روسيا الاتّحاديَّة، واستنزافها في حرب أوكرانيا، أصبحت غير قادرة على الاستغناء عن سلاسل الإمداد الصّينيَّة وعن السُّوق الصّينيَّة، بسبب اتّساع هذه السٌّوق وتدنّي كلفة الإنتاج فيها واعتمادها سوقاً أساسيَّاً للإنتاج كما للطَّلب على الانتاج الأوروبي. تمثّل سياسات استعادة التَّصنيع في الولايات المتَّحدة، والدَّعم الذي تقدّمه الحكومة للشَّركات الأميركية، منافسةً غير عادلة للشَّركات الأوروبيَّة، مما يعني استحالة قطع العلاقات الأوروبيَّة-الصّينيَّة أو حتى تقليصها.
وعلى نقيض سياسات الغرب الاستعماريَّة تجاه دول العالم الثَّالث، تعمل الصين على تزويد تلك الدُّول بالعلوم والتَّقانة الحديثة، بدل سياسة “ركل السُّلَّم” التي مارسها الغرب الرأسمالي طيلة قرون بحق الدول النامية بهدف منعها من النهوض واللحاق بالغرب إقتصاديَّاً. تقول الإيكونومست في هذا الخصوص:
“منذ سنة 2016، بَنَت الصّين 27 جامعة تقنيَّة لتعليم عدد من التّقنيَّات، منها الذَّكاء الاصطناعي، صناعة السَّيَّارات الكهربائيَّة، إدارة شبكات خطوط السّكك الحديديَّة، الروبوتات… أحد أهم هذه الجامعات جامعة العلوم الحديثة والتَّقانة في كينيا، التي تم افتتاحها في الرابع من أيلول 2023 (The economist Oct.19th .2023)
كان التبشير بحرّية التّجارة وفتح أسواق الدُّول النَّاشئة أو المستتبَعة سياسةً مركزيَّةً لدول مراكز النّظام الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، وخاصة بالنسبة للولايات المتَّحدة التي فرضت شروط التَّبادل التّجاري وفق مصالحها الاقتصاديَّة-السّياسيَّة على كافَّة دول العالم تقريباً، وخاصَّة الدُّول النَّاشئة، لإعاقة تحرُّرها وإنمائها. أُغرِقت أسواق تلك الدُّول بالسّلع المدعومة (المُعانة)، الزّراعيَّة والصّناعيَّة، ممَّا شكَّل إغراقاً لتلك الأسواق وإفقاراً وتخلُّفاً للدوُّل النَّاشئة.
مع دخول الصّين منظمة التّجارة العالميَّة سنة 2001، تغيَّرت أمورٌ كثيرة على هذا الصَّعيد، حيث أصبحت الصّين المستفيد الأول عالميَّاً من حريَّة التّجارة، وحقَّقت مكاسب اقتصاديَّة وسياسيَّة كبيرة نتيجة هذه السّياسة، وخاصَّة على صعيد علاقاتها مع الدُّول النَّاشئة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة.
سقوط “الاستثنائية الأميركية”
مع انهيار الاتّحاد السوفييتي وتحوُّل دوله من النّظام الاشتراكي إلى النّظام الرأسمالي، بإشرافٍ وتخطيطٍ من قِبل الامبرياليَّة الأميركية، أُفقِرت هذه الدول وتم اجتثاث النظام الاشتراكي على الصُّعُد الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، في ظل زوال القطب العالمي الكابح (إلى حدٍّ ما) للأطماع الامبرياليَّة، فدخل العالم نظام القطب الرأسمالي الواحد وسادت طروحاته النَّظريَّة الجديدة، وتصاعدت ممارساته العدائيَّة، حتى تجاه الدول الرأسماليَّة التَّابعة له، مثل دول جنوب شرق آسيا، أو “النُّمور الآسيويَّة”.
برزت مقولات “الاستثنائيَّة الأميركية” وحق أميركا في شن حروبٍ استباقيَّةٍ ووقائيَّة تجاه الدُّول الَّتي يمكن أن تشكّل تهديداً أو تحدّياً لسياسة الهيمنة الأميركية. وضعت هذه المقولات الولايات المتَّحدة فوق القوانين والأعراف الدَّوليَّة، وخارج إطار المساءلة القانونيَّة والأخلاقيَّة، وصعَّدت من عدوانيتها واستغلالها لدول العالم وشعوبه. لم تعد واشنطن بحاجة إلى التَّجسُّس على الشَّركات الكبرى، بل عيَّنت موظفين في هذه الشَّركات، تدفع الشَّركات أُجورهم ليقدّموا كل المعلومات عن ممارسات وسياسات تلك الشَّركات. وألقت القبض على بعض مدراء الشركات الكبرى المنافسة لشركاتها، لإجبار الشَّركات المستهدفة على بيع أجزاءٍ منها إلى شركاتٍ أميركية، مثلما فعلت مع شركة “ألستوم” الفرنسيَّة وشركة الألومنيوم الروسيَّة العملاقة، كما تحاول تنفيذ هذه السّياسة أخيراً ضد شركة “هواوي” الصّينيَّة.
لم يعد العالم قريةً تتساوى فيها المعارف والأجور ويتنافس فيها الجميع على قدم المساواة. بعد “صناعة” انهيار الاتحاد السوفييتي تدنَّى دخل العالِم الرُّوسي الذي أصبح يعمل لصالح شركاتٍ أميركية إلى حوالي 50 دولار أمريكي في الشَّهر، وذلك مقابل أجرٍ ربما يصل إلى أكثر من 70 ألف دولار لنظيره في أميركا، وأصبح أجر الموظَّف الأميركي في دول الخليج العربي يساوي ضعف نظيره العربي ذو الكفاءة الموازية، وأُخرِجت الشَّركات المنافسة للإنتاج الأميركي السّلعي والخدماتي من السُّوق العالميَّة “الحرَّة” بدواعي “الأمن القومي” ومكافحة “التَّجسٌّس” و”السَّرقة” العلميَّة والفكريَّة، وبدواعي ملكيَّة بعض الشَّركات من طرف الحزب الشُّيوعي الصّيني، وكأن الحزب الشٌّيوعي الصّيني لم يبلغ العاشرة من سنيه بعد، ولم تتعاون الولايات المتَّحدة معه منذ سبعينات القرن الماضي.
مع عودة الولايات المتَّحدة عن سياسات العولمة، بعد أن فقدت قدراتها التَّنافسيَّة ووقعت في فخ المديونيَّة التي طالما دفعت هي نفسها الدُّول النَّاشئة خاصَّةً إليه، أسقطت واشنطن مشاريع “الشَّراكة الأطلسيَّة” التي لم تعد تعمل لصالحها، وأزَّمت علاقاتها مع الصّين الشعبيَّة وأخذت تعمل لمنع أو كبح تقدٌّمها، وراحت “تبشّر” بهذا “السُّقوط الصيني الوشيك”، بهدف ردع الدّول عن تعميق علاقاتها مع الصّين.
إن تراكم الدُّيون لدى مراكز النّظام الرَّأسمالي العالمي، وخاصَّة لدى الولايات المتَّحدة وبريطانيا وفرنسا، يعني أن هذه الدُّول تعيش بمستوياتٍ تفوق طاقتها الانتاجيَّة. لم يعد بالإمكان المحافظة على “طريقة الحياة” الأميركية أو الأوروبيَّة، إذ أن كميَّة النَّهب الذي تمارسه تلك الدُّول للدُّول النَّاشئة لم يعد قادراً على ردم الهوَّة بين إنتاجها وإنفاقها، وإن اهتلاك قسمٍ من الدُّيون الخارجيَّة الأميركية سنوياً، بسبب معدَّل التَّضخُّم الأميركي، لم يعد كافياً لمنع النُّمو السَّريع للقيمة الحقيقيَّة للمديونيَّة الخارجيَّة. إن انهيار سعر الصَّرف الحقيقي للدولار هو حتى اليوم ما زال أقل من نموّ الدَّين الفدرالي الأميركي ونموّ كلفته كنسبةٍ من النَّاتج العام.
تخوض الولايات المتَّحدة حربها على دول العالم، النَّاشئة منها بشكل خاص، على جميع المستويات وفي الوقت ذاته. استعملت سلاح “العقوبات” الاقتصاديَّة الذي أخذ يفقد فعاليَّته لكثرة استعماله، ولتردّي قدرة أميركا على الإمساك بتلابيب الاقتصاد العالمي وشبكات الامداد فيه، بل أخذت مفاعيل هذا السّلاح ترتد على أميركا ذاتها. إستعملت الولايات المتحدة سلاح “الملكيَّة الفكريَّة” لابتزاز دول العالم، في الوقت الذي تسرق فيه “الحقوق الفكريَّة” لدول العالم “وأدمغة” العالم النَّامي، والذي دفع هذا العالم ثروات طائلة لإنتاجها؛ فالتَّعليم هو استثمارٌ في العامل البشري في الإنتاج، وسرقة ملايين العلماء من أنحاء العالم للعمل في خدمة الاقتصاد الأميركي يعني سرقة الدُّول النَّاشئة.
إستعملت الولايات المتَّحدة سلاح المخدّرات على نطاقٍ واسع، منذ حروب الأفيون في الصّين، لنهب الدُّول وشلّ قدراتها على الإنتاج والمقاومة، من الصّين وكمبوديا وفيتنام إلى إيران وأفغانستان والعراق ودول أميركا اللاتينيَّة، كما ضدَّ الأفارقة-الأميركيين وأحيائهم في الولايات المتَحدة ذاتها.
إستعملت الولايات المتَّحدة مؤسَّسات النّظام المالي الرَّسميَّة، والتي تسيطر عليها، مع الدولار كعملة رسميَّة عالميَّة منذ اتّفاقات “بريتن وودز”، وشبكة المصارف العالميَّة التي تحميها بكل طاقاتها، لوضع شروط إقراضٍ ظالمٍ ومكلفٍ، بهدف السطو على ثروات دول العالم الثَّالث خاصَّة، واستتباعها ومنع تنميتها.
إستعملت الولايات المتَّحدة قدراتها الإعلاميَّة لتشويه صورة منافسيها من الدُّول ومعارضيها من السّياسيين، وشيطنت بعض الدُّول وقياداتها، كمقدّمةٍ لتدميرها أو محاولة تدميرها، كما فعلت مع كوبا وفنزويلا وإيران والعراق وليبيا والصُّومال والعديد من الدُّول الصغيرة النَّاشئة بشكل خاص. شنَّت الولايات المتَّحدة حملاتٍ إعلاميَّةٍ مضلّلة ضدَّ المؤسَّسات البديلة والموازية للمؤسَّسات الماليَّة والنَّقديَّة والعملات المنافسة لهيمنتها، لمنع كشف التدهور الحاصل لقدراتها الحقيقيَّة، والاقتصاديَّة منها بشكلٍ خاص. لكن تفاقم هذا التَّدهور دفع بمؤسَّسات تقييم القدرات الائتمانيَّة العالميَّة الكبرى أخيراً إلى تخفيض تقييم القدرات الائتمانيَّة المستقبليَّة للولايات المتَّحدة.
لم تتردَّد الولايات المتَّحدة يوماً في استعمال أشد أساليب القمع العسكرية وحشيَّةً وقسوةً في تحقيق أطماعها على صعيد العالم، ما كان بإمكانها ذلك. فتاريخها حافلٌ بالجرائم ضدَّ الشُّعوب، مثل إبادة سُكَّان أميركا الأصليين (25 مليوناً) فوق أرضهم ومحو حضارتهم التي كانت ذات يوم مزدهرة ومميَّزة. ضربت اليابان بأول قنبلة نوويَّة في هيروشيما، ممَّا دفع اليابان إلى الاستسلام. لكن استسلام اليابان لم يمنع ضربها بقنبلة نوويَّة أٌخرى في ناكازاكي، ولم يمنع قصف طوكيو بالطَّيران بما يوازي أكثر من قنبلة نوويَّة. هذا التَّعطُّش للدماء، هذا الانتقام من الأعداء، هذا الاستعراض الدَّائم للوحشيَّة الأميركية ربَّما اعتمدت على فلسفة ماكيافيللي بالقول ما معناه أن على الأمير أن يثير الخوف لدى رعِيَّته ليستَتِبَّ له الحكم. أعدم أيزنهاور، الذي قاد جيوش الحلفاء الغربيين في الحرب العالميَّة الثَّانية، أكثر من مليون جندي ألماني هربوا من الجبهة الشَّرقيَّة ليستسلموا على الجبهة الغربيَّة، عبر رميهم في معسكرات اعتقال، نازعاً عنهم صفة الجنود الأسرى، ليضعهم خارج اتّفاقيَّة جنيف لمعاملة الأسرى في الحرب، واصفاً إيَّاهم بـ”جنود مجرَّدين من أسلحتهم”، فمنع عنهم الطَّعام والدَّواء، ومنع الأهالي والصَّليب الأحمر من مساعدتهم، فماتوا جوعاً ومرضاً وبرداً في العراء. استعملت أميركا السَّلاح الكيميائي في فيتنام والسّلاح البيولوجي ضدَّ السُّكَّان الأصليين، دمَّرت العديد من الدُّول العربيَّة، من الصٌّومال إلى العراق. وعد الرَّئيس الأميركي بوش بإعادة العراق إلى العصر الحجري. دمَّر القاعدة الصّناعيَّة للعراق، وقتل وهجّر العلماء والعمّال المهرة وأعاد الأُميَّة إليه، وأطلق فيه تعاطي المخدَّرات والفساد والتَّوترات الطَّائفيَّة والإثنيَّة والعشائريَّة، وقلَّص ناتجه المحلّي بعد الاحتلال بمَّا يقارب الـ90%، بينما لم يستطع هتلر باجتياحه للاتّحاد السوفيتي أن يقلّص الناتج الإجمالي للأخير بأكثر من 60%.
عدوانية الامبراطورية تبلغ ذروتها في مرحلة الاحتضار
وضعت الولايات المتَّحدة عند بداية هذا القرن خطَّةً استراتيجيَّةً لاحتلال وتدمير سبع دولٍ عربيَّة وإسلاميَّة، تبدأ في العراق وتنتهي في إيران. تعثَّر اجتياحها في العراق، ولكنَّها استمرَّت في تنفيذ استراتيجيَّتها بوسائل أُخرى. كان الهدف تدمير هذه الدُّول ودفن مبدأ الوحدة العربيَّة، ونجحت في ذلك إلى حدٍّ بعيد. كان هدفها الأساسي تدمير العراق ومنع نهوضه، وعد بوش مناحيم بيغن بأن لا يعود لدى العراق دبَّابةً واحدة غربي بغداد لتهدِّد الكيان الصهيوني، وقرَّر الاحتلال الأميركي “اجتثاث” حزب البعث، والقصد اجتثاث مبدأ أو هدف الوحدة العربيَّة، ونجح الاحتلال في ذلك إلى حدٍّ بعيد، فقد دمَّر ليبيا وسوريا ولبنان والسُّودان والصُّومال، وأقام في المغرب دولةً ثنائيَّة القوميَّة صديقة للكيان الصُّهيوني، ويعمل على الإمعان في تقسيم سوريا وإقامة كيان كردي فيها يكون حليفاً للكيان الصُّهيوني.
ليس صحيحاً أن الولايات المتَّحدة أرادت الانسحاب من “الشَّرق الأوسط”، أو بالأحرى الوطن العربي، فما زال الأخير البقرة الحلوب التي تستمر أميركا في استغلالها بقسوةٍ ووحشيَّة. صحيح أنها أرادت ترحيل قسمٍ كبيرٍ من قدراتها العسكريَّة إلى شرق آسيا، لمجابهة الصّين الشَّعبيَّة وعرقلة تقدمها، ولكنها عملت على الدَّوام على حماية مصالحها بأساليب أُخرى. إعتمدت بشكلٍ خاص على الكيان الصُّهيوني كَوكيلٍ لها أو كعصىً غليظة ترفعها فوق رؤوس الحكومات والشُّعوب؛ والكيان، كما يقول تشومسكي، بمثابة ولايةٍ أميركية ذات امتيازاتٍ خاصَّة، أعطتها الولايات المتَّحدة السّلاح والمال والتَّقانة والحماية السّياسيَّة والقانونيَّة على الصَّعيد الدَّولي، وهي فوق القوانين والأنظمة والعراف الدَّوليَّة، لها حقوق “الاستثنائيَّة” الأميركية. وعملت واشنطن بنجاحٍ نسبي على “دمج” الكيان الصٌّهيوني مع بعض محيطه العربي، ودفع الدُّول العربيَّة إلى إقامة علاقات سياسيَّة واقتصاديَّة وتجاريَّة معه. بذلك، تستطيع الولايات المتَّحدة أن تسحب معظم أساطيلها لمهام استراتيجيَّة أٌخرى، مع الإبقاء على حماية نهبها للوطن العربي.
لذلك، عندما تجرَّأت المقاومة الفلسطينيَّة على أن تشنَّ حرباً دفاعيَّة على كيان الاحتلال الممعن في ممارساتٍ عنصريَّة اجتثاثيَّة تدميريَّة بحق فلسطين والفلسطينيين، ظهر أن هذا الشَّعب لم يُقعِده الخوف من آلة القتل الأميركية الصُّهيونيَّة، فقرَّرت أميركا أن تستعرض وحشيَّتها وإجرامها و”استثنائيَّتها” في حربٍ على غزَّة خاصَّة وعلى الضّفَّة الغربيَّة، حربٍ لا محرَّمات فيها، لا قوانين وأعراف تحدّ من جرائمها، بأحدث الأسلحة الأميركية، بإمدادٍ لا حدود له بالذَّخائر الذَّكيَّة وغير الذَّكيَّة، المحرَّمة وغير المحرَّمة، وبحمايةٍ من حاملات الطَّائرات والبوارج الأميركية، لردع قوىً محيطة وإقليميَّة عن الدخول في الصّراع ضدَّ هذا العدوان الصَّهيوني، مجنّدةً حلفاءها الأوروبيين للوقوف بجانب كيان الاحتلال، ولتعميم الخوف والرُّعب في المنطقة والعالم من نتائج التَّمرُّد على الإرادة الأميركية.
وعليه، فإن ربط القيادتين الأميركية والأوروبيَّة ما بين حربَي أوكرانيا وغزَّة صائبٌ جداً: كلا الحربين تندرجان في سياق الحرب الأشمل ما بين النّظام الرأسمالي العالمي وشعوب العالم الطَّامحة إلى التَّحرُّر والتَّقدُّم ووضع حدٍّ لنهب خيراتها ونتاجها.
غالب أبو مصلح، كاتب ومفكر ومناضل سياسي وخبير اقتصادي عربي من لبنان
عين كسور، كانون الأول/ ديسمبر، 2023
COMMENTS