لا نريد أن نتدخل في تفاصيل التدابير التي إتخذتها الكنيسة المارونية بحق الراهبة الأخت مايا زيادة، عقاباً على طلبها من طلاب مدرسة «الحبل بلا دنس» في بلدة غبالة في فتوح كسروان، الصلاة من أجل أهالي الجنوب وغزة، الذين يعانون من العنف الإسرائيلي، «لأنهم إخوتنا في الوطن وفي الإنسانية.
ولكن لا بد من توجيه تحية تقدير وإعجاب بشجاعة الراهبة الصبية، التي وضعت إيمانها المسيحي في الإطار الإنساني الصحيح، والذي بشّرت به كل الأديان السماوية، بعيداً عن مناخات التقوقع والخوف والكراهية التي تحفل بها الأجواء السياسية.
مايا زيادة تجاوزت عالمها المحدود في مدرسة إبتدائية، أقامتها الرهبنة الإيطالية في قرية كسروانية نائية، إلى رحاب الفضاء الإنساني الواسع، لتغرس في نفوس أطفال اليوم، قادة الغد، بذور الوطنية الصحيّة والصحيحة، في بلد نخرت مفاصله الطائفية البغيضة، وأدت المزايدات الشعبوية والطوائفية إلى ضرب قواعد العيش الواحد بين اللبنانيين، وأقامت حواجز الحذر والقلق بين أبناء الوطن الواحد، وحالت دون الوقوف صفاً واحداً بمواجهة العدو الإسرائيلي.
الراهبة الشابة سارت على طريق الرواد الكبار من أبناء الطوائف المسيحية، الذين حملوا مشاعل العروبة والحرية والتقدم، وتقدموا الصفوف في إعادة أمجاد اللغة العربية، وتأسيس الأحزاب القومية واليسارية، من أنطون سعادة والحزب القومي السوري، إلى ميشال عفلق وحزب البعث العربي الإشتراكي، إلى جورج حبش وحركة القوميين العرب، إلى فؤاد الشمالي ويوسف يزبك والحزب الشيوعي اللبناني.
مايا زيادة هي حفيدة سليم تقلا مؤسس الأهرام في مصر، وزميله جرجي زيدان مؤسس دار الهلال، والمعلم بطرس بستاني مؤلف محيط المحيط ودائرة المعارف، وناصيف وإبراهيم اليازجي عرّابَي اللغة العربية الفصحى، والكاهن اليسوعي أنطون صالحاني المُجلّي في علوم التاريخ والآداب العربية، وغيرهم كثير.
ليست مجرد صدفة أن تصدح صرخة بنقاوة صوت مايا زيادة في قلب المنطقة الكسروانية، وفي مدرسة تابعه للرهبانية، في زمن إزدهرت فيه المدارس الطائفية والمذهبية، وتعددت فيه الجامعات بهويات دينية، وكثر فيه خريجو العصبيات العقائدية، وتحول المثقفون فيه إلى حملة صور الزعماء والأحزاب، عوض التمسك براية الوطن والكفاءة.
مايا زيادة إنسانية بإيمانها المسيحي، لبنانية في نهجها المدرسي، ومواطنة مثالية في ولائها الصافي للوطن.
هي المثل والمثال للأجيال النقية التي يحتاجها إعادة بناء هذا الوطن المعذب.
صلاح سلام, اللواء 13 آذار 2024
COMMENTS