يحلل المفكر والخبير الاقتصادي الوزير السابق جورج قرم، تأثير الأحداث الأمنية والسياسية الأخيرة في لبنان، على الإقتصاد الوطني وقطاعاته المختلفة. ويعيد قرم في هذا الحوار نقد الرؤى الإقتصادية المهيمنة على السياسات العامة، وأثرها في ترك أكثر من نصف مواطنيه من اللبنانيين تحت خط الفقر :
ـ هل صحيح أن الوضع الاقتصادي سجل مؤشرات إيجابية واضحة قبل الاحتكام إلى السلاح وانفجار الأزمة السياسية خلال الأسابيع الأخيرة؟ وما تأثير تلك الأحداث على الوضعين المعيشي والاقتصادي؟
الأحداث الأمنية الأخيرة والحمد لله لم تدم إلا أياما قليلة، وحتى الأزمة السياسية التي تفاعلت بعد الأحداث الأمنية تم إقفالها في مؤتمر الدوحة، فالعواقب من الناحية الاقتصادية ليست كبيرة جدا، خصوصا وأن كل الأصداء تبشر بأن اللبنانيين في الخارج أو الخليجيين يرغبون بقضاء فصل الصيف والسياحة في لبنان، لذا فإنهم سيتوافدون بكثرة إليه. وقد بدأت تبرز مشاكل في كثرة الحجز في الطائرات، لذا يجب أن نفصل باستمرار بين وضع القطاعات الاقتصادية التقليدية التي لا تؤمن ازدهار المجتمع اللبناني، وهي القطاعات العقارية والمصرفية والسياحية، والأزمة المعيشية المتواصلة والمتعمقة حاليا. لكن ذلك ليس بسبب ما حدث على الساحة اللبنانية مؤخرا، وإنما بسبب ازدياد أسعار المواد الغذائية والوقود. وهذه أزمة عالمية بطبيعة الحال، وليست محصورة في لبنان، حيث وسائل ضبط الأسعار واستيعاب الزيادات المفاجئة والسريعة غير الموجودة.
ـ برأيكم، ما الذي يجب أن يقوم به القطاع المصرفي من تدابير لإنعاش الاقتصاد الوطني، والحد من تراجعه؟
دور المصارف في نهاية المطاف هو دور تابع، ولا يطلب منها دور مغاير في التنمية كما حصل في الدول الأخرى، التي دخلت في أنماط تنموية متسارعة، بحيث تملكت التكنولوجيا، لأن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد مقيد، ففي ظل وجود عقلية اقتصادية جامدة ومتحجرة نرى أن وظيفة لبنان الاقتصادية مقتصرة على عمليات وساطة مالية وعقارية وصفقات وفنادق ومطاعم فخمة، ولا تنظر أبدا إلى القدرات الإنتاجية الهائلة التي يمكن أن تكون موجودة في لبنان، لأن هناك جريمة ترتكب يوميا بحق لبنان الاقتصادي وأهمها: قدرات بشرية هائلة يجري تصديرها إلى الخارج، تربة خصبة، فائض مياه، ديناميكية الشعب اللبناني، وهي غريبة ومميزة، لذلك فإنه من الممكن جدا أن يتطور لبنان ليكون مثل سنغافورة، كوريا الجنوبية وإيرلندا أو جزيرة مالطا. ولسوء الحظ، لدينا إيديولوجيا مسيطرة على عقول 90 في المئة من اقتصاديي البلد الذين يحملون تراث وفكر مدرسة أغفلت الرؤية الشاملة لإمكانيات الاقتصاد اللبناني الذي لا يصلح برأيها إلا للخدمات، وإن أي توسع في الزراعة والصناعة لا فائدة له بتاتا، وإنما له مضرات عديدة، فلبنان وفق تبريرهم لا يستطيع أن ينافس الدول الصناعية الكبرى، سواء كانت لديها منتجات زراعية أو استهلاكية، هذا بالإضافة إلى الكلام السطحي عن الإصلاحات الاقتصادية بمنظور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، وهو كلام سطحي للغاية لا يعالج المشاكل الحقيقية للبنان. هناك جريمة اقتصادية كبرى ترتكب بحق لبنان، نظرا لإهمال المطلق لقدراته الذاتية المميزة.
ـ إلى أي مدى تراجع تدفق الرساميل العربية والأجنبية إلى لبنان في الآونة الأخيرة؟
أضع هذا الكلام في خانة التهويل الكبير الذي بدأ منذ بداية الإعمار، إذ يتخوف اللبناني من احتمال عدم تحويل أصحاب الخليج أموالهم إلى لبنان، إنه نوع من اعتماد بلد ما على استمرار تدفق سيل من الأموال من الخارج، وهذا ما يقتل التنمية الاقتصادية لأنه يحول دون الاتكال على القدرات الذاتية، وليس لذلك أي معنى اقتصادي. وعندما تبوأت منصب وزارة المال دعيت إلى إقناع النظام المصرفي اللبناني والبنك المركزي اللبناني بأن مستوى الفوائد المطبق في لبنان مدمر للاقتصاد اللبناني، وأدخلنا في حلقة مفرغة، وقد نجحت نسبيا في تخفيض مستوى الفوائد ووفرت للخزينة ملياري دولار من الفوائد، وإنما عندما تركت الوزارة عادت الفوائد إلى الارتفاع، ولم تنخفض مجددا إلا تحت الضغط الخارجي بمناسبة انعقاد مؤتمر باريس 2، أما ما يقوم به مصرف لبنان من إجراءات، فإني أراها غير مطابقة لقوانين الصرامة المالية ولحسن الإدارة، وهي إلغاء أجزاء من الدين العام كلما ارتفع سعر الذهب، لأن هناك مخزونا مهما من الذهب في لبنان ضمن أرباح دفترية تستعمل لإطفاء أجزاء من الدين العام وإلا لكانت مشكلة الدين قد تفاقمت أكثر بكثير.
لذلك فإن الحياة الاقتصادية اللبنانية سوريالية. ولسوء الحظ، فالاقتصاديون اللبنانيون مهنتهم الاقتصاد، وخصوصا من يكتب المقالات الاقتصادية الكبيرة في الصحف اليومية، وكأن وظيفتهم الترويج لهذا النوع من الاقتصاد الذي يمكن تسميته اقتصاد ريعي، أي البلد الذي يعيش بدون جهد ذاتي.
ـ هل تساهم مقررات مؤتمر الدوحة في إنعاش الوضع الاقتصادي؟
نظرا لكل المعطيات التي كانت سائدة، ونظرا للمنحى التصاعدي لدى الموالاة والحكومة لاستفزاز حزب الله والمعارضة بشكل متواصل، فإن مؤتمر الدوحة حقق ارتياحا تاما للبنانيين، فنزع خيم الاعتصام ـ مع أنها لم يكن لها الأثر الضخم السلبي اقتصاديا ـ قد أعطى دفعا معنويا للبنانيين، وصحيح أن الاقتصاد اللبناني مقيد كما ذكرت، إلا أنه لديه مناعة كبيرة، فالقطاع السياحي الوحيد الذي ضرب منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أما باقي القطاعات فلم تتوقف رغم الأحداث الأمنية العملاقة التي شهدها لبنان، ومن كان يتوقع أن القطاعات التقليدية ستصمد، وصمدت فعلا، كما أن القطاع السياحي الذي عانى كثيرا صمد أيضا، ولم نسمع أن هناك فنادق كبيرة تم إقفالها، هذا من ناحية آلية عمل الاقتصاد اللبناني تقليديا. كل الأحداث الأمنية لم تؤثر، لأن هناك ثقة بالنظام المصرفي اللبناني، لكن ذلك لا يعني أن المجتمع اللبناني من الناحية الاقتصادية بألف خير، إذ إن أكثر من نصف أبنائه هم على خط الفقر أو دونه، كما إنه كان مطلوبا من مؤتمر الدوحة حل الأزمة السياسية اللبنانية، وليس التدخل بالاقتصاد الوطني، سيما وأن الاقتصادات الخليجية هي اقتصادات ريعية متكلة على النفط، كذلك فإن الاقتصاد اللبناني أصبح شبيها لتلك الاقتصادات التي كانت في بداية التسعينات.
ـ ما هي الخطوات المتوجبة على الحكومة المرتقبة لإنقاذ الوضع الاقتصادي الراهن، وهل لديك رؤية واضحة كخبير اقتصادي، وانطلاقا من تسلمك حقيبة وزارة المال سابقا؟
هناك برنامج إصلاحي للحكومة غير الشرعية، ضمنه أخذ مباركة صندوق النقد الدولي، لكني أراها إصلاحات شكلية، وهي من ناحية تأثيرها على الوضع الاقتصادي تستهدف الفئات الصغيرة والمتواضعة لا الثرية، التي تلقي بعبء التصحيح المالي على الفئات المحدودة الدخل، ومن يعتمد وصفات الصندوق الدولي يصل إلى هذا الوضع، وهذا واضح من خلال توجه الفئات الحاكمة، وإنني لا أتصور أن أصحاب الشركات الكبرى في لبنان مستعدون لدفع متوجباتهم الضريبية، إذ إن هناك مجموعات لديها قوة سياسية فاعلة في البلد، ولا تدفع الضرائب بشكل صحيح، كما أن التشريع الضرائبي اللبناني يحتوي على ثغرات قانونية كبيرة جدا، تستطيع بعض الفعاليات أن تتهرب من دفع الضرائب بشكل قانوني (على سبيل المثال، في العقارات هناك ضريبة التسجيل)، كذلك فإن السرية المصرفية المطبقة في لبنان تحمي اللبنانيين أيضا، وتساعدهم على التهرب من الضرائب، وأنا أرى أنه طالما أن ثورة الوعي الاقتصادي لم تحصل في لبنان، فلن يتغير أي شيء.
وانطلاقا من تجربتي كوزيرا للمال، أرى أن قضية مكافحة الفساد ضرورية، وقد حملت شعار تسديد الدين العام، فالقضية قضية مناخ، وفي حال أتت حكومة نظيفة فإن تصرف المواطن يتغير، ولسوء الحظ، قضية مكافحة الفساد صعبة جدا في لبنان، لأن من يرفع هذا الشعار يصطدم بأنواع مختلفة من الردع وشيئا فشيئا يقل كلامه عن مكافحة الفساد، وأكرر ضرورة وأهمية قيام ثورة الوعي الداخلية لتحسين الاقتصاد الوطني، لأن طريقة إدارة لبنان سوريالية، فالحكومات المتعاقبة بعد حكومة الرئيس سليم الحص لم تنفذ خطة الإصلاح المالي والإداري التي طرحناها، والتي بدورها تتكامل مع خطة تنموية شاملة، فالمدخل الصحيح لإصلاح سياسي ناجح يكمن في الإصلاح الاقتصادي، وطالما أنه لا يوجد في لبنان تسارع نمو بشكل كبير، فإن نظام المحاصصة الطائفية الطابع سيصبح أكثر شراسة، حيث يحتاج المواطن اللبناني إلى زعيمه الطائفي لتأمين الخدمات. لذلك فإن الشرط المسبق للإصلاح يتمثل بتغيير العقلية، وهنا أؤكد على ضرورة الوعي بقدرات لبنان غير المستغلة.
COMMENTS