جاء مهرجان قوى 14 شباط هزيلا هذا العام. لم يأت الهزال، وحسب، من قلة جدية زعماء وقادة هذه القوى لدى مخاطبتهم الجموع من على المنبر، بل الجموع نفسها كانت قليلة العدد والهمة في آن معا. جهود التعبئة التي بذلها النائب سعد الدين الحريري في الشمال، والغارات “الإعلامية” التي شنها النائب وليد جنبلاط، فشلت في شحن “ثورة الأرز” بالمدد الشعبي اللازم. تقرير رشا الأطرش من ساحة المهرجان، يؤكد أن “ثورة الأرز” اللبنانية تنازع وتتهاوى، أوأن مصيرها لا يختلف عن مصير الثورات الملونة “البوشية” الآفلة :
تأخروا. مرّت ساعتانعلى موعد بدء التجمع في ساحة الشهداء لإحياء الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس رفيقالحريري، وأزف انتصاف النهار. ما زالت “الساحة ساحتنا، والشهداء شهداؤنا”، لكن المداخل مفتوحة على تدفق بشري بطيء إلى الفضاء من حول التمثال، والساحات الأصغر فيمحيطه، إن لجهة “بيت الكتائب” والبحر المرمّد بالغيوم، أو صعوداً حتى “جدارالفصل” عن اعتصام المعارضة، أو من صوب “بنك البحر المتوسط” ومركز “بيال .
قافلة”القوات اللبنانية” تنزل سيلاً من الأشرفية، وصوت رئيسها المسموع عبر الميكروفونيوجه تحركها: “على الشمال يا شباب! من هون المفرق!”. حوالى النصف ساعة يستغرقهاالتفاف هؤلاء وحدهم، على زاروبين، قبل الوصول إلى المدخل البحري. “كتير غلطالتدابير الأمنية السنة”، يبادر أحد المراقبين من علٍ. “هيك بدو الجنرال ( عون( يجيبه قريب ضاحكاً. “مين؟ ليش هذا بعده طيب حتى نحكي فيه؟”. ليس أسهل من رصد شارة”الصحافة”: “أنت صحافية؟ ما تقولي ما في ناس. كلهم علقانين على الطريق من المطروالعجقة”.
الجميع يحكي عن رداءة الطقس، وكيف أن طريق ضهر البيدر كانت مقفلةبالثلج في الصباح الباكر، فيما بعض المواكب السيارة عالقة في زحمة السير. الإجراءاتصعبة، المداخل محدودة.
جديد هذا العام”من لبناننا لن ينالوا… الرئاسةالآن”. “لا لسوريا لا لأميركا، نعم للبنان لبنان”. لافتات، صور الشهداء، والأعلاماللبنانية، برفقة رايات “الاشتراكي” و”المستقبل” و”القوات” و”الكتائب” المعهودة،تماشي تحليق بالونات حمراء وبيضاء وخضراء. المشهد السنوي ذاته، تقريباً. لكن العين لا تيأس من التقاط جديد:
صورة للبطريرك صفير تقول إن “ضمير لبنان لن يهزه طويلاللسان”. وهناك أعلام “بكر”، تلوح بالـ”التكتل الطرابلسي” على خلفية زرقاء غامقة،وبـ”أفواج الشمال” مع تأكيد أنهم “ملتزمون” بخطين زرقاوين وأرزة وغصن زيتون. “انضباط” مكتوبة على لفافة زرقاء حول زنود العناصر بالزي الكحلي الموحد. “بادجات”لوجهه مفرّغاً، بالفضة أو الذهب، كلمعة مضافة هذا العام. أما الذروة فيافطة طولية تتلو هذه “الصلاة”: “أبانا الذي في طهران، فليتمجّد اسمك، ليتأله نصرك، لتكن مشيئتك، كما في إيران كذلك في لبنان، أموالك النظيفة أعطنا اليوم، واغفر لناذنوبنا، كما غفرتها لمن هجم علينا، ولا تدخلنا إلا إلى بعبدا، لكن نجنا، آمين”.
المطر بلا صوت. يقع على أجساد متدثرة بـ”معاطف نايلون”. احتكاكها يصدر خرمشة. والشاب فوق مرتفع خشبي ما زال يرمي على الناس الأكياس البلاستيكية الموضبة في مربعات بحجم الكف. “يحرقص” الناس الملوحين بالأيدي في الأسفل. يتأهب ليرمي ولايرمي. يضحك ويضحكون، إذ ما زال للهواء ـ وبعض المرح ـ مجال بين الأجساد.
امتداد الأرض من حول تمثال الشهداء يتمهل ليمتلئ، وهذا ما سيتم قرابة الساعة الواحدة. سيتطلب المرور من هناك ما لا يقل عن عشرة اعتذارات ومئة “لكزة من كوع” يحاول أنيبقى ودوداً. لكن إمكانية التنفس، بقُطر يناهز الأمتار العشرة للفرد، تبقى ممكنة في دائرة على بعد خمسمئة متر تقريباً من نُصب الشهداء حيث ترفرف أعلام السعودية وفرنسا، ومعهما العلم الوطني و”المستقبل” و”الاشتراكي” وراية بشعار الجيش.
“شجّع لبنان”
عندما يصل الحشد إلى ذروته، إلى المئة أو المئتي ألف شخص،يخيل إلى المرء أن نصفه زحف من شمال البلاد، فيما النصف الآخر مزيج من الاشتراكيين والقواتيين. لعل نصف الجمهور ـ المؤطر بفواصل حديدية تجعل المساحة المخصصة للاحتفال تبدو أصغر من العام الماضي ـ يحكي لهجة شمال لبناني طيب ويرتدي تعبه الاقتصادي.
الشاب خالد حسن ماضي، من المنية، جاء في موكب من 16 سيارة، “دون مقابل، ومنا للحريري”. عمره 23 عاماً، ترك المدرسة منذ صف “السيكوند”. ماذا يفعل في الحياة؟”اشتغلت بورش عمار. وهلق؟ بعمل إني بفتش على شغل، من الإثنين إلى السبت، والأحد برتاح !”.
أما ليلى الخضر، من عكار، فتصور بكاميرا فيديو صغيرة أخوتها الصغاروأولاد الأخوة، على خلفية التجمع. زوجها عسكري لا يستطيع المجيء. تصور له، ولأمها وأبيها المسنّين. رجلان. وهيب محمود وجهاد نويهض، من راشيا الوادي وعاليه. وهيب رجع من لندن قبلعامين حيث كان يملك صالون حلاقة: “رجعنا تنحب لبنان، لاقيناهم عم يخبطوا بعض. ندمان؟ يمكن اقتصادياً، منيح ما صفيت كل أشغالي بلندن، لكن جبت ابني وابنتي علىالمدرسة والجامعة حتى يتعودوا على تقاليدنا ويتزوجوا من لبنان”. يريد وهيب أن يكون”مستقلاً”. يرفض الحرب مع أنه، أو لأنه، شارك فيها “ضمن الحركة الوطنية، وإذا بدكفيكي تقولي بالـ(الحزب) التقدمي”. والخلاصة عنده سؤال: “كيف اتفق مع حزب الله أو (الحزب) القومي إذا كان مشروعه عكس الاستقلال؟ بدنا نظل نقول نحنا خاصرة سوريا؟”. يقر جهاد بأن الخطاب السياسي هذا العام “كان عالياً، لكن المهم أن المحتل (السوري) خرج، وهلق صار وقت الضغط ليجيبوا رئيس”. روني (12 عاماً)، ابن جهاد. يلتف بغطاء”الاشتراكي” ويتحلى بروح الفريق: “أنا جايي شجع لبنان”. عندما يكبر يريد أن يصبح”أي شي ما عدا نائب.. لأنو في كتير اغتيالات وتدخل بالسياسة”. إنها ممارسة النشاطالسياسي مع مقت السياسة في الوقت نفسه. لعله على حق، وتوصيفه أدق .
تمشي قليلاً. لا يتخلى البعض عن طموح تسلق أعمدة الإنارة. عريف الحفل يناجي الآن الرئيس الشهيد: “أردت لبنان مستشفى الشرق فأرادوه عصفوريته…!”. عصفوريته؟! حسناً.. ربما.
هذاضياء قرقوط (15 عاماً). أتى مع موكب رأس المتن قرنايل، حمانا. رغم العطلة، تعلوظهره شنطة المدرسة، منتفخة بأغراض غير معروفة. لكن “الخبر” خارجها، بخط “مصححالحبر” الأبيض. يشرح ضياء أنه قول لكمال جنبلاط: “إن الحياة انتصار للأقوياء فينفوسهم لا للضعفاء”. ثم… “بوتيمور لا تعتل هم، عندك رجال بتشرب دم”.
أما نجار الموبيليا، أحمد محمد الشيخ منعكار. فقد جاء ليقول “للشيخ سعد شكراً” لأن “تيار المستقبل” أدخل ابنه إلى المستشفىعلى نفقته، وهم “جايين محبين للحريري لأنه يمثلهم، وبيقولوا من دونه شو منعمل؟”. هكذا، “يسمح لنفسه” بإيصال “عتب”: يجب أن يعينوا مسؤولين أقرب من الناس في المناطق. ليس اليوم فقط يوم العطلة بالنسبة إلى أحمد. لقد جرح إبهامه جرحاً بليغاً، أثناءالعمل. الخيوط الطبية السوداء بادية، ترتق اللحم المتورم، “12 يوم معطّل، وبالمصاريكأني معطّل أربعين يوماً”
القمصان الحمر
في الساحة الأقرب إلى “بيتالكتائب” ثلاثة رجال، لا تموههم الحشود الطاغية. علاماتهم الفارقة لن تراها مكررةفي زاوية أخرى من زوايا إحياء الذكرى هذا العام. في المحيط القريب، فتاتان تتمشيانبعلم لبنان مزيناً بالمنجل والمطرقة، وعلم كلّه وجه تشي غيفارا. القمصان حمر بلاشك. “الحزب الشيوعي اللبناني”، وهم من البقاع. الحزب الشيوعي؟ “أكيد، بس حركةالإنقاذ”، ويستدرك بسرعة “يعني أكيد مش هيدوليك”. يؤكد أنهم ليسوا الوحيدين، وأن”الرفاق” على الطريق من الجنوب والجبل والشمال. لكن أحداً لم يكن قد ظهر حتى بعدساعتين، عندما مررنا بهم في طريق الخــروج. “المقاومة طريق الاستقلال وهذا مكانالاستقلال”، يقول ناجي مسعود، ويهز الشاب الضخم إلى جانبه رأسه موافقاً. نظارةشمسية، وعضل الزندين ضخّ فيه قوة لا بخل فيها .
تحت شادر أبيض صغير تجمعت جمهرةصغيرة اتقاء للمطر الذي هطل أغزر قبيل الساعة الواحدة. خالد حسين من بلدة الدلهميةالبقاعية، أتي وصديقه… والنارجيلة! يستمتع بتدخينها، رغم أن الإزدحام يزيد.
يهتف أحدهم تحت الشادر: “اسمعوا، اسمعوا وليد بيك! أهضم شي وليد بيك”. على بعد أمتار قواتي يلوح بعلمهالكبير: الله يحميك، الله!”. لا تتحرك الأعلام والحناجر لأحد كما تتحرك لجنبلاط. مازال نجم التظاهرات بلا منازع .
في طريق الخروج، الحاجات يتبادلن الحديث باللهجةالشمالية ويعبرن شارع الجميزة المقفر. مرورهن من أمام الحانات الخاوية يحصل ككسوفالكواكب، مرة كل جيل. خلفهن مجموعة قواتية، وإلى الوراء شابان وفتاة كلامهمبالإنكليزية. الكل على الأقدام للبحث عن سرفيس أو السؤال عن مواقف الباصات، “وينصار سبينيس؟” يسأل غريب عن المنطقة.
عريف الإحتفال : صرتم مليون. وهناك نصف مليون علىالطريق! تصفيق وتهليل.
الرقم تفصيل. الروحية عنوان.
COMMENTS