ما إن تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم حتى توالت المقالات التى تتنبأ بتغير السياسة الخارجية السعودية وخصوصا من حيث تغير الموقف السعودى تجاه مصر. وبالتالى بدأ الحديث عن تراجع المساعدات السعودية لمصر وعن فتح حوار مباشر ما بين الإخوان المسلمين والنظام السعودى. ولذلك فقد تساعد معرفة حدود التحالف، وليس الحلف، المصرى السعودى على التنبؤ بمدى التغيرات التى قد تطرأ على العلاقات بين البلدين.
الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمملكة
لاتزال هناك صورة مغلوطة للسعودية لدى عموم المصريين. إذ ترى الغالبية العظمى أن المواطن السعودى فاحش الثراء، والدولة السعودية قادرة على المحافظة على استقرارها لأن المواطن يحصل على كل ما يحتاجه من الدولة فى هيئة رواتب ومنح وإعانات وتسهيلات لرجال الأعمال فى القطاع الخاص. ولكن هذه الصورة ليست كاملة.
فعلى الرغم من عدم توافر أرقام دقيقة عن معدل الفقر، فقد اعترفت السعودية رسميا بوجوده منذ ٢٠٠٢ وبتبنى استراتيجية وصندوق خيرى لمعالجة الفقر منذ عام ٢٠٠٤. كما زاد عدد أسر الطبقة المتوسطة السعودية التى تعتمد على الدولة وخاصة الدعم الحكومى من حيث الدخل والخدمات، وأصبحت ظاهرة التسول ظاهرة غير غريبة على شوارع السعودية. وقد يرجع تقدم سياسة السعودة جزئيا إلى أن البطالة، والتى تصل إلى ١٠.٦ في المئة، وفقا لموقع وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية / CIA، تدفع الشباب السعودى، نساء ورجالا، إلى القبول بوظائف لم يكن ليقبل بها الآباء والأجداد. كما أن ارتفاع نسبة السيدات العاملات داخل المملكة يمكن إرجاعه إلى نفس سبب حاجة بعض الأسر السعودية إلى زيادة الدخل.
لا يمكن إنكار أن الحاجة إلى زيادة الدخل فى المملكة مردها فى بعض الأحيان هو مستوى المعيشة المرتفع للطبقة الوسطى السعودية وخصوصا من حيث الصرف على ما تعتبره مجتمعات أخرى كماليات، ولكن لا ينفى ذلك أن الفقر فى المملكة، والذى كشفت عنه السيول التى اجتاحت جدة وغيرها من المناطق، أصبح يتخلل المجال العام السعودى.
لم يعد الحاكم السعودى يمتلك نفس حرية الحركة من حيث الصرف على السياسة الخارجية السعودية. فما بين أولويات الصرف الخارجى من تسلح واستثمارات يلتزم بها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وانخفاض أسعار النفط، وما بين أولويات التنمية الداخلية، نجد أن مساندة النظام المصرى لا يمكن تصويرها على أنها شيك على بياض. ولا يعنى ذلك أن المملكة سوف تتوقف عن مساعدة مصر اقتصاديا، ولكن يعنى أن الحكومة السعودية أصبحت محملة بمطالب داخلية تضاف إلى أولويات النظام السعودى التقليدية. ووفقا لأستاذ التاريخ الأمريكى بيتر سلاجليت، فإن النظام السعودى قائم على عقد اجتماعى مسكوت عنه يقوم على مبادلة المشاركة السياسية بالإعالة الاقتصادية بمفهومها الواسع. فعلى خلاف ما يدفع به الكاتب السعودى جمال خاشقجى، فإن هذا العقد الاجتماعى موجود فى ذهن النظام السعودى الحاكم.
القيادة
يخطئ من يعتقد أن المساندة الشخصية للرئيس عبدالفتاح السيسى باعتبار سابق علاقته كملحق عسكرى فى المملكة هى أيضا بلا حدود. فالمملكة لا تبحث عن ناصر جديد. إذ إن لقطات المواطنين المصريين يقبلون صور السيسى، أو صور المواطنين السعوديين يحيون سقوط الإخوان ويهللون للسيسى فى شوراع السعودية، أو صور لمصريين يضعون البيادة العسكرية فوق رءوسهم قد لا تطمئن النخبة الحاكمة فى السعودية. فالمملكة تفضل مبارك جديد عن عبدالناصر قادم. إن المملكة ولا شك تريد جيشا مصريا قويا عسكريا تسد به العجز البشرى فى البنية العسكرية لدول الخليج، ولكنها لا تفضل بالضرورة أن يلعب الجيش دورا سياسيا بطوليا داخل مصر لأن ذلك يجعل من الفاعلين العسكريين غير بعيدين عن أفكار الحشد والتعبئة بل والثورة.
كما أن المملكة لا ترتاح إلى نماذج الأنظمة الحاكمة التى تتركز فيها السلطة فى يد قائد عسكرى واحد. فبالنظر إلى النظام السعودى، نجد أن الملك يأخذ الأولوية ما بين رءوس متساوية، كما يؤكد الدكتور بهجت قرنى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية. ففكرة القائد الزعيم الذى يتمتع بشعبية واسعة هى فكرة لا ترحب بها المملكة بالضرورة ولا ترتاح إليها. ويكفى النظر إلى تاريخ العلاقات السياسية للمملكة بالدول التى ترأسها قادة عسكريون اعتمدوا على حكم الرجل الواحد لنعى أن المملكة تميل إلى حكم المجموعة على حكم الفرد.
إيران والمسألة الشيعية
ترى السعودية أن إيران تمثل أكبر تهديد لاستقرار الأنظمة الحاكمة فى منطقة الخليج. ولأن الدبلوماسية الإيرانية تعتمد على العلاقات العابرة للحدود فى تدعيم سياستها الخارجية، فإن الاتهام الأسهل فى التدليل عليه هو أن طهران تقف وراء انتفاضات الشيعة فى العالم العربى. ويكفى الاستماع إلى التصريحات والمقابلات الرسمية، لنعلم أن المملكة ترى فى إيران التهديد الحقيقى لأمنها الداخلى، فى حين لا تشاركها مصر هذا الموقف بالضرورة.
فمن الصحيح أن الرئيس السيسى أشار بطريقة غير مباشرة للتهديد الذى تمثله إيران لدول الخليج منذ أن كان مرشحا رئاسيا فى تصريحات لقنوات تليفزيونية خليجية. ولكن الخطاب المصرى تجاه إيران ليس خطابا يتهمها مباشرة بأى من “التهم” التى يوجهها إليها قادة السعودية. بل إن الدبلوماسيتين المصرية والإيرانية متقاطعتان فى أهم ملفين إقليميين حاليا وهما الملف السورى وملف محاربة داعش.
ولا يعنى ذلك أن مصر سوف تعيد الدفء إلى العلاقات مع إيران أو أنها تشاركها باقى مواقفها من القضايا الإقليمية على الإطلاق، كما لا يعنى تقارب موقفى مصر وإيران فى سوريا عدولا عن تصريح السيسى بأن “علاقات مصر وإيران تمر عبر دول الخليج”، ولكن يعنى ذلك أن الوساطة المصرية الحالية فى سوريا لا تعزل إيران كما تريد دول الخليج. كما أن دول الخليج تعى أن النظام المصرى لا يرى فى إيران تهديدا لأمن النظام كما هو الحال بالنسبة لهم. أضف إلى ذلك أن مصر تسعى إلى تطوير علاقاتها مع العراق وهى ــ إن آجلا أو عاجلا ــ سوف تحتك بالإيرانيين إن أردات نجاحا لسياستها الإقليمية بعيدا عن تركيا. وعلى الرغم من اختلاف المواقف بين المملكة ومصر فيما يخص إيران، فيجب أن نذكر أن للمملكة من يدعم موقفها من داخل مصر، وإن لم يكونوا على قدر كبير من التأثير فى السياسة الخارجية المصرية حاليا.
أولا، هناك مؤسسة الأزهر التى تتحفظ على الخطاب الطائفى الإيرانى وعلى معاملة السنة فى إيران. ثانيا، فإن السلفييين فى داخل مصر لم يغيروا من الموقف المعادى للتقارب مع إيران وتجاه سياستها فى العراق وسوريا واليمن ومساندتها لانتشار التشيع فى العالم العربى. ويعد حزب النور الذى يتبنى هذا الموقف هو القوة الإسلامية الوحيدة التى يسمح لها النظام حاليا بالتواجد وبخوض الانتخابات البرلمانية القادمة، مما يعنى أنه قد يستمر فى الضغط من أجل اتباع سياسة متحفظة تجاه إيران.
سوريا
تسعى السعودية حثيثا لإسقاط بشار الأسد بينما لا تتمسك مصر بهذا الموقف كشرط لحل الأزمة السورية. كذلك فإن السعودية ترى أن الحل العسكرى ضروريا لإنهاء النزاع فى حين تتمسك مصر بأن الحل فى سوريا يجب أن يكون سياسيا يشمل، دون أن يقتصر، التفاوض مع نظام الأسد. ويذكر أنه فى عز اعتماد النظام المصرى على الدعم السياسى والمالى السعودى، فقد تصادمت دبلوماسيتا الدولتين فى أروقة جامعة الدول العربية فى سبتمبر ٢٠١٣ حينما أصرت مصر على رفض استصدار قرار عربى مشترك بضغط من السعودية يؤيد توجيه ضربة عسكرية لسوريا. وقد استمر الموقف المصرى على نفس الخط المتحفظ من الثورة السورية بعد تولى الرئيس السيسى.
كذلك فإن مصر، على عكس السعودية، تتحفظ على تمويل وتسليح ما يسمى بالمعارضة المعتدلة فى سوريا. أضف إلى ذلك أن وحدة الأراضى السورية يعد مبدأ رئيسيا يحرك السياسة المصرية فى حين أن السياسة السعودية تدفع نحو إسقاط بشار الأسد أولا ثم التفكير فى تحولات الدولة السورية ثانيا. وأخيرا، تشارك السعودية فى الضربات الدولية ضد داعش، فى حين تكتفى مصر بمساندتها سياسيا بالإضافة إلى تدريب الجيش العراقى وبعض العناصر المسلحة فى سوريا مع العزوف ــ على الأقل علنا ــ عن المشاركة فى الضربات العسكرية على الأراضى السورية.
الحركات الإسلامية
تنعكس النظرة الأمنية للإقليم فى السياسة الخارجية لكل من السعودية ومصر، ولكن تختلف أدوات كل منهما فى وضع النظرة الأمنية حيز التنفيذ. تفضل الدبلوماسية المصرية العمل فى إطار المؤسسات ومن خلال المؤسسات أصلا مع الاحتفاظ بهامش من التعامل مع بعض الحركات السياسية فى الدول الضعيفة والفاشلة. أما السعودية، فمازالت تستخدم وتعتمد على علاقاتها الرسمية وغير الرسمية مع الحركات الإسلامية.
فحتى وإن هددت أيدى داعش أو حتى الإخوان المسلمين أمن النظام الحاكم فى السعودية، فإن ذلك لا يعنى أنها سوف تتبنى منهج مصر المعادى لحركات الإسلام السياسى بشتى أشكالها، وذلك لأن بعض هذه الحركات والجمعيات والمراكز الإسلامية التى تتفرخ منها إنما هى أداة للتأثير الناعم للمؤسسة الدينية السعودية.
فالنظام السعودى ينكر أنه يمول الإرهاب ولكن لاتزال المملكة تمثل نموذجا اجتماعيا وفكريا يسرى عبر المراكز الإسلامية والجمعيات ذات التمويل السعودى الرسمى وغير الرسمى. كما أن النظام الحاكم ــ ووفقا لتصريحات رسمية ــ لا يتحكم فى التبرعات والأموال التى تخرج بشكل فردى إلى جماعات الإسلام السياسى المعتدلة منها المتطرفة فى داخل العالم العربى وخارجه.
ولذلك، فإنه حين ينفى النظام المصرى أى تعامل مع الحركات الإسلامية، فإن ذلك يزيد من شرعيته فى الداخل. أما النظام السعودى، فكلما أعلن موقفا عدائيا من حركات إسلامية متشددة فى الخارج، فإن ذلك يتسبب فى قلق وغضب بعض أعضاء من داخل المؤسسة الدينية السعودية ومن خارجها. فالنظام السعودى يميل احتواء وشراء المعارضة السياسية الإسلامية فى أى مكان، أما النظام المصرى الحالى، مثله مثل نظام مبارك، يسعى إلى محوها.
مصالح ومؤسسات صنع السياسة الخارجية
تختلف درجات ضعف المؤسسات بين الدول العربية، وكلما زادت مأسسة صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، انخفض معدل تغير اتجاهاتها بما فى ذلك التحالفات والعقيدة المحركة. وتتمتع السياسة الخارجية المصرية بمزيج متوازن بين العاملين الشخصى والمؤسسى فى صنع وتنفيذ السياسة الخارجية. فحتى وإن كان من يأخذون القرار النهائى لا يتعدون بضعة أشخاص يختار رئيس الجمهورية وجودهم من عدمه، إلا أن عقيدتهم هم والرئيس نفسه تعد مخرجات لمؤسسات انتموا إليها لمدة العشرين عاما على الأقل.
ولذلك فإن معدل استقرار السياسة الخارجية أكبر من الدول التى تضعف فيها مأسسة صنع القرار أو تلك التى يحصل فيها الشخص على منصبه ليس بناء على انتمائه لمؤسسة معينة وإنما بناء على قربه أو بعده عن الحاكم أو بناء على انتمائه إلى العائلة المالكة. فحتى وإن تشارك جميع أعضاء آل سعود فى مفهوم المصلحة الوطنية ومصلحة النظام السياسى، إلا إن طرق واستراتيجيات تحقيق هذه المصالح تختلف من شخص لآخر ومعه يختلف توجه السياسة الخارجية للمملكة. وفى حين يتشابه النظامان المصرى والسعودى فى وجود رأس الدولة على قمة اتخاذ القرار فى السياسة الخارجية، إلا أن عملية صنع القرار فى مصر تأخذ حاليا شكلا هرميا ينعكس فى قدرة الرئيس على اتخاذ بعض القرارات السريعة التى يتم تداولها فيما بعد إلى المستويات المنخفضة من الهرم، فى حين تأخذ عملية صنع القرار فى المملكة شكل الدائرة التى يقع الملك فى مركزها من حيث ضرورة التفاوض والاستشارة مع باقى أعضاء النخبة الملكية. وعليه، يمكن توقع تغير أساليب ونمط السياسة الخارجية السعودية كلما تغير أعضاء دائرة صنع واتخاذ القرار.
•••
أيا كانت الظروف والأشخاص، فيجب على أعضاء النخبة الحاكمة فى مصر أو السعودية عدم اعتبار أن التحالف بينهما بلا حدود. فالعلاقة بين البلدين متعددة الأبعاد وتضرب بجذورها فى داخل الدولتين، إلا أن كلا من العوامل المذكورة سابقا قد تدخل تغييرا على هذه العلاقة التى لم تكن يوما مؤسسية ولا رسمية بناء على اتفاقيات موقعة من الجانبين. وليس فى العلاقات الدولية ما يجب أن يعتمد على الإخوة فقط، فحتى الإخوة يتحاسبون.
COMMENTS