“نبتدي منين الحكاية” : الحب ترياق الحرب

“نبتدي منين الحكاية” : الحب ترياق الحرب

في الطريق إلى آستانة …
رساله أخرى إلى أحفادي : سيطيب لكم قراءة كتاب”هذيان فتاة في العشرين”
قسنطينة تفقد “عبد الحميد حباطي” احد اعمدة المسرح والسينما في الجزائر

رغم غلبة التنظير والخطابية على المشهد الدرامي في المسلسل السوري ” نبتدي منين الحكاية” الذي حمل عنوان اغنية مطرب الشباب الراحل عبد الحليم حافظ، يسجل للمتألقين سلافة معمار وغسان مسعود منحهما العمل طاقة ايجابية من خلال قصة حب متقطعة جمعتهما في عمر متقدم، ما يمنح الشباب املا في امكانية تحمل وتجاوز المصاعب من خلال هذه العاطفة النابعة من غريزة البقاءولعل في تشبيه بشير (غسان مسعود) حبيبته

ليال(سلافة معمار) بالبلد اسقاط مباشر ( بلدك حتى لو زعلتك مش ممكن تتركها او تتخلى عنها) وهذا يذكرنا بأعمال درامية من الموسم الماضي التي ركزت في طروحاتها عن حاجة السوريين الى الحب في ظل مآسي الحرب ومن بينها ( حديقة الياسمين)

غاص ” نبتدي منين الحكاية” في عمق العلاقات الانسانية والاجتماعية من خلال مفهوم الحب، في ظل حرب ضروس يعيشها المجتمع السوري منذ اواسط العام 2011 ولعل في ذلك منحى درامي لا ينقل واقع المأساة بقدر ما يعكس حجم التغييرات الاجتماعية والفكرية والثقافية التي افرزتها حركة الواقع المتمثلة بعلاقة الخاص بالعام الذاتي بالموضوعي.

قد يكون التيار الدرامي القائل بأنه ليس مطلوبا نقل الجبهة او الحرب واستنساخ الاخبار في الدراما محقاً، بحيث تتنبه الدراما لتداعيات الحرب على مستويات اخرى غير الجبهة وتتنبه لفعل المواجهة والتحدي والدفاع عن الوجود التي يبديها المواطن في ظل الحرب. حيث الدولة والبلد كليهما ساحة للحرب الجديدة التي تستهدف بنى الدولة كافة والكتلة السكانية في الوقت نفسه. هنا تنتقل الدراما الى مستوى اعلى يتمثل في طرح قيم تغييرية ونقدية وجديدة  تحث المجتمع على اعادة النظر وإعمال الفكر في مواجهة قيم اثبتت عقمها وفراغها من اي منحى تقدمي وبناء.

لقد عكست دراما الحب هذه التغييرات التي تصيب المجتمع السوري الذي اصبح افراده مستخدمين ناشطين لوسائل التواصل الاجتماعي، والذين يتلفظون بكلمات اجنبية اثناء تخاطبهم، ان المتغير الاهم حضور المرأة بشكل ملفت في هذا العمل انعكاسا لحضورها في الشارع والمقهى والعمل والجامعة، هي امرأة عصرية ، عاملة، متعلمة، مستقلة، متمردة على العادات والتقاليد، فاعلة ومؤثرة وصاحبة رأي وهي عصرية في مظهرها الخارجي من خلال ملابسها “الفاشن” وتسريحتها ولون شعرها وتبرجها “الستايلش”. انها صورة المرأة السورية اليوم، التي لم نعرفها من قبل، هي تبدلات كبيرة طرأت على المشهد المديني الدمشقي، وهذه الملاحظة سبق وسمعتها ممن زار سوريا في الآونة الاخيرة. في ” نبتدي منين الحكاية” خرجت المرأة من “باب الحارة”. ومن المظاهر الجديدة التي اضاء عليها العمل هو العنصر الشبابي المتفاعل مع المثقف المخضرم بما يمثل من رمزية للمستقبل. اضافة الى مشهد الاختلاط بين الجنسين في المقاهي والمطاعم الذي كان غير شائع سابقا في مشهد المدينة، حيث تقصد المخرج اظهار مشهد المقهى مشهد مديني بامتياز في مدينة عتيقة كدمشق، عرفت المدنية منذ عصورمديدة.

لقد اثبت هذا العمل قدرة الدراما في التعبير عن مصالح المجتمع وطموحات اهله ورغبته في الحياة رغم الالام، وعن نزوعه نحو التوازن في ظل الارتجاج التي احدثته اسلحة الحرب، من خلال الحديث عن التوازن في الشخصية: عدم تبديل المكان والبقاء كما الآخرين والوفاء 365 يوما للبلد.

في هذا العمل، رأينا منحى جديدا في الدراما السورية تمثل بطرح اشكاليات الحاضر وانعكاساتها على سوريا مثل احداث ايلول وحرب العراق الثانية واغتيال الرئيس الحريري. كما ناقش مفاهيم راهنة : ازدواجية المعايير وهي تهمة سورية لمجلس الامن واشعال الفتنة او اداة فتنة، والشيطان كشماعة، كما نظّر لافكار تستدعي التأمل : الرجولة ليست صراخ وتعنيف بل رعاية،  لا يمكن حل مشكلة اليوم بعقلية الامس، التفوه بكلام تقدمي لا يعني اننا تقدميين المطلوب فعل ( في موضوع الزواج بين الاديان).  التخلص من الفاسدين يتطلب ارادة. لا نفقد ايماننا بالبلد اذا وجدنا موظف فاسد هون او هون. كل تجربة حتى لو كانت فاشلة تعلم. ومن اللافت ايضا الحضور الاجتماعي المسيحي كأصدقاء للمسلمين في علاقة طبيعية ( عشرة عمر)

ولعل اكثر المشاهد التي استوقفتني محاولة الام اقناع ابنها بمسامحة اخته التي تزوجت خطيفة من شاب مغاير لدينها وفشلت طالبة العودة الى اهلها “غدا ماذا تقول لاولادك انك قتلت عمتهم ام سامحتها. اي شخصية يفضل اولادك لك وهم سيأتون في عصر مختلف وانت الاصغر والذي يفهم بعقلية هذا العصر يجب ان تسامحها” ويوجه العمل نقدا الى العائلات الميسورة في دمشق المحافظة والمتخلفة “التي تضحك على من يقرأ” اي المثقف والتي تعتبر “من يسمع الموسيقى اهبل”.

هي الحياة اليومية رغم الحرب، تأخذنا الصورة في ايحاء تعظيمي الى دمشق الممتدة جغرافيا، في الصباح الذي يبتدي من شوارعها الضاجة بوسائل النقل وبالمتوجهين الى عملهم، الى الحميدية والجامع الاموي وعجقة المارة وفيروز تصدح في السيارات والمنازل كأنها لازمة ابدية في حياة اهل الشام والياسمين في زوايا الشوارع والعلم السوري يرفرف كما الحمائم المستريحة فوق زخات المطر، انها سوريا الباقية رغم تمدد داعش ورغم الانقسام ورغم التهويل ورغم هجرة الكثيرين وفي المساء جلسة رومنسية في مقهى شامي مميز وقرقعة كؤؤس النبيذ ( في سوريا العلمانية) وانغام اغنية اميركية تقول ” لدي حلم “اي هاف اي دريم”

استطاع ” نبتدي منين الحكاية” ان يأخذنا في رحلة حب وفي رحلة تأمل وتفكير من خلال الطروحات المكثفة التي لم توفر قضية اجتماعية الا وطرحتها: الفساد، الاجهاض، الزواج المختلط والمطالبة بقوانين تحمي هذا الزواج اي المدني، النظرة الى المرأة المطلقة والمرأة المستقلة، الشرطي النزيه( ما عندو كبير بالقانون) ابن سائق التاكسي الذي قال له والده اذا امثالك انسحبوا ستخرب اكتر ما هيي خربانة ، المقاومة( اكتشاف الاخ الشيوعي الذي مضى 35 عاما على غيابه انه استشهد في جنوب لبنان ضد العدو الاسرائيلي) في تلميح واضح الى انخراط السوريين الوطنيين في الدفاع عن القضية الفلسطينية، الاعلام ودور برامج الحوار، لكن اعتماده تقنية ” الفلاش باك” تعزز الاعتقاد بضيق امكانية الحركة والتصوير، فيكثر الكلام تعويضا عن “الاكشن” القليلة، اذا جاز التعبير، وما تكرار نفس المشاهد كلما اراد المخرج ان يذكرنا ان سوريا لا تزال تنبض في شوارعها واماكنها، الا تأكيدا على الامر

يييه انقطعت الكهربا، سمعناها في كل حلقة، لكن حياتهم استمرت في حلوها ومرها واستمرت فيروز تغني احكيلي احكيلي عن بلدي حكيلي …. ساعات الفرح القليلة احكيلي. انه الحب هذا الترياق الذي يشفي ويبني ويخلق رغبة جديدة في الحياة ويخلق فرصة حكاية جديدة مطلعها الغد.

بأرض الشام قصة غرام غنينا ( من كلمات الشارة )، وصفة شفاء للروح والفكر والقلب من كل تخلف ومرض وفساد ونكوص وضياع ( رجل هون ورجل هونيك). هو تحد للحرب ولانقلاباتها او لتحولاتها اذا ما كانت كلمة انقلاب تخيف السوريين.

نجوى زيدان، صحفية وكانبة عربية من لبنان
الخميس، 25 آب 2016

Please follow and like us: