أقدمت السلطات المصرية خلال اليومين الماضيين على اتخاذ إجراءات اقتصادية طالما حذرنا منها – نحن وجميع الوطنيين المخلصين- من اتخاذها، فقامت بتعويم الجنيه المصرى وترك تحديد سعر صرفه للعرض والطلب فى سوق مضطربة ومختلة من الأصل، وذلك بالتزامن مع رفع الدعم عن كافة أنواع الوقود بنسب مرتفعة تؤثر على أسعار المواصلات والنقل وتكلفة كل السلع فى عموم البلاد.
ويأتى ذلك فى سياق سعيها المحموم للحصول على قرض من صندوق النقد الدولى تتوهم أنه بإمكانها أن تعالج به أوضاع الأزمة الاقتصادية الحادة التى أوصلت إليها مصر بسياسات غير مسؤولة وغير ملتزمة بأى أولويات واضحة لمصلحة الجماهير الشعبية والاقتصاد الوطنى عموما.
لقد فشلت السلطة طوال الفترة السابقة فى السيطرة على عجز الموازنة، وتزايد لجوؤها المتسرع للاستدانة داخليا وخارجيا، حتى وصل الدين العام 3,1 تريليون جنيه، بنسبة مفزعة تصل إلى 115 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، واستنزاف الاحتياطى من العملات الأجنبية بعد فشلها فى إدارة ملفات السياحة والاستثمار، وزاد الطين بلة لجوءها إلى سياسات مرتبكة وغير مسؤولة فى مجال النقد أعطت الانطباع دائما بل صرحت تكرارا بأنها ستخفض الجنيه المصرى، مما أدى لامتناع العاملين فى الخارج عن تحويل العملة الصعبة فى القنوات الرسمية، ولجوء العديد من المواطنين لاكتناز الدولار.
كما تسببت تلك الإدارة غير المسؤولة في وصول سعر الدولار فى السوق السوداء لما يتجاوز 18 جنيها، بما يعني انفلات الوضع الاقتصادى تماما، وعجزها عن معالجة الفوضى التى خلقتها بنفسها. و بدلا من معالجة تلك الفوضى استثمرتها لتمرير اتفاقها مع صندوق النقد الدولى بقرار تعويم الجنيه، وهو قرار لن يضع حدًا لتلك الفوضى، بل سيزيدها ، بدليل وصول سعره فى عطاء للبنك المركزى نفسه إلى 14,30 جنيها ، وفى بنوك خاصة إلى 16 جنيها. ثم جاءت قرارات زيادة أسعار البنزين والسولار بنسب تصل إلى 46,9 فى المائة ، ورفع سعر الفائدة فى البنوك إلى 20 فى المائة ، وهى بدورها قرارات سيكون لها تأثير مدمر على المواطنين والاقتصاد.
وإذا كانت السلطات المصرية قد أدخلت نفسها و البلاد معها إلى عصر الاقتراض والاتفاق مع صندوق النقد الدولى بشروطه المجحفة المعروفة والمعادية لمصالح الفقراء والطبقة الوسطى، فيهمنا هنا أن نبرز بعض أهم تلك الآثار الضارة بالمواطنين والاقتصاد.
1. زيادة كبيرة فى الأسعار والتضخم ، وانخفاض كبير للقدرة الشرائية للأجور والمعاشات. أما كل الوعود الحكومية بأن الأسعار لن تزيد، بل وحتى الزعم بأنها ستنخفض الشهر القادم ، إن هى إلا أكاذيب فارغة لا معنى لها ولا تستحق حتى محاولة دحضها، فكل المواطنين الواعين يدركون الجوهر الحقيقي لهذه السياسات المحابية للأغنياء ورؤوس الأموال.
وإذا كانت معدلات التضخم الحالية قد وصلت بالفعل إلى 16,2 فى المائة، فإن القرارات الجديدة سترفع الغلاء إلى مستويات لا يتحملها حتى من ينتمون للفئات المتوسطة.
ومن الواضح أن الزيادات السعرية الهائلة ستمتد لتشمل كافة السلع والخدمات الرئيسية من طعام و أدوية ومواصلات. وكأن الحكم يمهد الطريق بنفسه لسيناريوهات الاضطراب والفوضى.
2. سيرتفع الدين العام ارتفاعا جديدا كبيرا، حيث إن الدين الخارجى الذى يصل إلى 55 مليار دولار، سيعاد تقويمه فى الموازنة بسعر الصرف الجديد، وبالتالى سيرتفع بما يزيد عن 300 مليار جنيه، وسترتفع أعباء خدمته فى الموازنة العامة.
3. سيزداد الضغط على الموازنة العامة للدولة، وليس العكس كما يدعون، نتيجة لارتفاع خدمة الدين العام، ونتيجة لارتفاع تكلفة استيراد الوقود وغيره من السلع الأساسية، وتقدر المبالغ المطلوبة لمواجة الزيادة المطلوبة للوقود وحده بما يتجاوز 30 مليار جنيه.
4. ستحدث إعادة لتوزيع الدخل القومى بما يضر كل العاملين بأجر سواء فى الحكومة أو القطاع الخاص وأصحاب المعاشات، ولصالح حائزى العملات الصعبة والمستثمرين الأجانب وكافة المحتكرين للسلع والأصول العقارية الثابتة .
5. سيؤدى قرار رفع سعر الفائدة فى البنوك إلى 20 فى المائة، وعلى عكس ماتدعيه الحكومة وإعلامها، إلى الإضرار الشديد بالاستثمار المحلى، وباستقرار البنوك وسلامة أوضاعها نظرا لما هو متوقع من إقدام المدخرين على تسييل ودائعهم لتحويلها للأوعية الجديدة مرتفعة الفائدة.
إن الحكم وحده يتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه القرارات الكارثية وعواقبها، بعد امتناعه عن الاستجابة لكل الآراء التى نصحته بالمعالجة الحكيمة للوضع، وإصراره على اتخاذ تلك الخطوات وفى وقت غير مناسب نهائيا لمرور الاقتصاد الوطنى بأزمة وخلل كبيرين، فإننا نعيد التأكيد على عناصر السياسة المطلوبة للتنمية والعدالة الاجتماعية والتى تتضمن: ترشيد الإنفاق الحكومى، وإلغاء الصناديق الخاصة، وتنفيذ الحد الأعلى للأجور، وتسريح جيش المستشارين الذي يشكل عالة على الوزارات والهيئات، وتحصيل المستحقات عن أراضى الدولة المنهوبة، وتطبيق الضريبة التصاعدية التى نص عليها الدستور، والضريبة على الأرباح الرأسمالية فى البورصة، ووقف كافة المشروعات غير الإنتاجية غير المدروسة، وعلى رأسها ما يسمى العاصمة الجديدة، والإسراع بوضع خطة لتشغيل الطاقات العاطلة عموما، ومن بينها مصانع القطاع العام التى خربوها، مع تشجيع المنتج المحلى، ووقف الاستيراد غير الضرورى، ضمن خطة للتركيز على قطاعات الإنتاج الصناعى والزراعى التى تتيح الاستغناء عن المستورد.
ويؤكد حزبنا مرة أخرى أننا فى الوقت الذى نرفض فيه كافة سيناريوهات الفوضى فى مصر، فإننا نتمسك بكافة الحقوق المشروعة للجماهير المصرية فى تنظيم أنفسها، والتعبير عن مطالبها بشكل سلمى، بما يتيح لها إعلان رفضها لكافة السياسات الجائرة التى تنتهك حقوقها الإقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وانطلاقا من المسؤولية الوطنية ندعو كل القوى الوطنية والديموقراطية والشعبية للتشاور العاجل من أجل العمل بأسرع وقت ممكن على تشكيل أوسع جبهة شعبية تتبنى مطالب العدالة الاجتماعية والتمسك بالحقوق الاجتماعية الأساسية للمواطن المصرى، و إعادة بناء الاقتصاد الوطنى بما يحقق اعتماده وتمحوره بشكل أساسى على الذات وتوجهه نحو إشباع الإحتياجات الأساسية للمواطنين.
كما نعيد الدعوة لعقد مؤتمر اقتصادى جديد و بشكل عاجل يناقش المشاكل و الصعاب الخطيرة التى تواجهها البلاد فى اللحظة الراهنة ، والمرتبطة بالأزمة الاقتصادية الراهنة.
وقد سبق لحزبنا أن عقد ضمن التيار الديموقراطى بالمشاركة مع المنتدى الوطنى مؤتمرا اقتصاديا تحت عنوان “مؤتمر مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية” وذلك فى 29 مايو الماضى ، وقدم فيه تشخيصا لأزمة الاقتصاد المصرى وتوصيات بسياسات بديلة للخروج منها ، وأرسلت التوصيات للرئاسة والحكومة ضمن تحذير من المضى فى سياسة الاقتراض المشروط من الصندوق، إلا إن النتيجة كما نرى جاءت سلبية على النحو الذى نراه.
ونعتقد أن من مسئوليتنا ومسئولية الجبهة الشعبية المرتجاة، الخروج ببدائل للخروج من الوضع الراهن، وتقديم رؤية اقتصادية للتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية ، مع الدعوة لإجراءات عاجلة لمواجهة الكارثة الراهنة بخطوات تتضمن العودة فورا لسياسة لسعر الصرف الذى تديره الدولة ولاتتركه لفوضى السوق، وتقييد الاستيراد العشوائى، وتعويض المواطنين تعويضا مناسبا عن الأضرار التى أصابتهم، ومنع الاحتكار و التلاعب، وتدخل الدولة بشكل حازم لضبط انفلات الأسعار، خاصة المواد الغذائية و الأدوية، والوقف القورى لمخططات طرح المزيد من ممتلكات الشعب للخصخصة. إن السلطات الحاكمة بإجراءاتها الأخيرة تلعب بالنار، وهي التي تهدد السلام الاجتماعي بتدليل الاحتكارات الرأسمالية المحلية على حساب الطبقات الكادحة، والرضوخ لتعليمات المؤسسات المالية الدولية على حساب السيادة الوطنية. لكن الشعب المصري المكافح يعرف مصالحه جيدًا، ويعرف كيف يدافع عنها بالوعي والتنظيم.
حزب التحالف الشعبى الإشتراكى
القاهرة، 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016