من المعروف أن المرأة تجسّد في الثقافة العربية، مثل في كثير من الثقافات الأخرى، الجنس الضعيف، الجنس الآخر، الجنس غير المساوي، الجنس الذي لا يرث شيئاً ولا حتى اسم عائلته. الجنس الذي يمكن أن يجلب الذرية، أو العار.
عائلتي استقبلتني بالدموع، كنتُ الفتاة الخامسة في العائلة، أو بالأحرى الخيبة الخامسة، وبالنسبة لأمي الهزيمة الخامسة. قبل أن أمرّ كامرأة عربية، بمراحل مختلفة. عشتُ تحولات بسبب تأثيرات عدة، كما إنني ساهمت بتطورات حدثت في المجتمع.
اليوم، حتى العائلات العربية الأكثر محافظةً، يرسلن فتياتهنّ إلى المدارس، حيث يصبحن في ما بعد مدرّسات، طبيبات، مهندسات، صيدليات، كاتبات، صحافيات، موسيقيات وفنانات. وكثيرات منهن يصبحن أساسيات بالنسبة للجماعة، وأكثر قوةً وإبداعاً، وأهميةً من الرجال.
مع ذلك، تُقدّمنا وسائل الإعلام الغربية ككائنات مروّعة مغلّفة بالشادور، ومزينة بأقنعة الجلد، مثل سبايا الحرملك المتواريات خلف حجابهن. أتساءل لماذا يروننا كذلك، مجمّدات في حقيقة واحدة غير قابلة للتغيير؟ هل هم يعتقدون فعلاً أننا خُلقنا مختلفات عن بقية النوع الأنثوي، عاجزات عن التغيير؟
في المدرسة، كان لدي مدرّس يمدح «التغيير» دائماً، مع تنويع نبرته والمعنى المقصود من الكلمة، بحسب سمات الواقع العربي، مثلاً: إعادة توزيع الثروات، وضع النساء، أو الأنظمة السياسية المهترئة. كل محيطي كان يحترمه ومعجباً به. الأصغر سنّاً كانوا يريدون أن يشبههوه، أما الأكبر فكانوا مستعدين لمساعدته على الاختباء حين كان مطارداً من الشرطة.
لم يكن هذا المدرّس المذهل، الوحيد الذي يتكلم عن التغيير وعن العدالة. غالبية الأشخاص المتعلمين، كانوا مقتنعين بهذه الأفكار ويدافعون عنها. وتماماً مثله، كان الرجال المتنورون ملاحقين من الشرطة أو قابعين في سجون الأنظمة المدعومة والمموَّلة من القوى الإنكليزية، الفرنسية، وثم من الأميركية.
عرفت القومية العربية عصرها الذهبي خلال سنوات الخمسينيات والستينيات. وأطلقت شوارعنا الفائرة آنذاك آمالاً بالتغيير. تبنينا سلوكاً ثورياً ونقدياً تجاه أنظمتنا الاجتماعية ــ السياسية التقليدية. كان أدبنا، مسرحنا، أغانينا وموسيقانا تحتضن نماذج التحرير والعدالة الاجتماعية، حتى أن تلك النماذج كانت موجودة في العبارات التي كنا نستخدمها في حياتنا اليومية. الأدب العالمي كان يروي ثقافتنا. مكتباتنا وشوارعنا كانت تزخر بالكتب المنادية بالتحرير، بالثورة وبالتغيير: الأدب الوجودي، الاشتراكي، الأميركي الأسود، إلخ.
لمس هذا الزخم كل الناس، بمن فيهم الفلاحون الأمّيون والنساء اللواتي بدأن يخرجن بلا غطاءٍ على الرؤوس. من بينهن، عشرات الآلاف ممن أنهين الدراسة الجامعية، ومن بينهن أيضاً من كنّ منخرطات في الأحزاب السياسية. هنّ لم يكنّ يرتدين الحجاب، وليس هذا فقط، بل كنّ يرتدين «الميني جوب» وقمصاناً بلا أكمام. كذلك، وهو ما ربما لن تصدقوه، لقد رقصنا «الروك أند رول» و«التويست»، على الرغم من كرهنا للغربيين. رغبنا بأن نعيش مثلهم، ولكن من دون أين يهيمنوا علينا.
هذا المناخ الشاعري تلاشى حين استطاعت إسرائيل، مدعومةً من الغرب، أن تهزم الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1967. هذه الهزيمة كانت تعني أيضاً هزيمة حركتنا القومية وقناعاتنا الاشتراكية؛ فرصةٌ لم يفوّت الأميركيون وحلفاؤهم الإقليميون استغلالها.
لقد قدّموا تأييداً ساحقاً للإسلاميين بهدف خنق القومية التقدمية، بواسطة ملايين الدولارات. تصاعدت قوة «الإخوان المسلمين»، بعدما كان الناس غير مبالين تجاههم حتى ذلك الحين. كان الوضع في المنطقة بين سنوات 1970 و1980 يشبه كثيراً الوضع في أفغانستان، حين مدّ الأميركيون اليد للإسلاميين، ولا سيما لأسامة بن لادن، للإطاحة بالشيوعيين.
تفترض المؤسسات ووسائل الإعلام الغربية، إن كان بالنسبة للصحافة المكتوبة أو الإعلام المرئي، أو السينما والجامعات، أن المرأة العربية عاجزة عن التنفس أو التفكير تحت شادورها الأسود، وأنها ظلّ متحرك يهيم على وجهه، كساحرة شريرة أو شبح مرعب. يُدعى زيّ المخلوق الذي نتكلم عنه في عيونهم «زيّاً إسلامياً». مع ذلك، أنا مقتنعة تماماً أنه ليس إسلامياً ولا عربياً.
كانت أمي تضع على رأسها قطعة قماش شفافة سوداء اللون، تغطي إلى حدّ ما شعرها ووجهها. الباقي من ملابسها كان عبارة عن تنورة أو فستاناً بسيطاً يصل إلى الركبتين، مع سترة قصيرة تفصّل صدرها وقوامها. وهو ما ليس له علاقة بما نعتبره اليوم زيّاً إسلامياً يحول جسد المرأة إلى كيس بلا شكل في كتلة سوداء.
في بداية الخمسينيات، انضمّت أمي إلى حركة «سفور» إلى جانب عدد كبير من نساء جيلها. عددٌ منهن كنّ مثلها، من الطبقات الوسطى، من المدن العربية الكبرى، أما الأخريات فكنّ من أماكن أقلّ حظوةً ومن مدن أصغر. قد تكفي مشاهدة أشرطة حفلات المغنية المصرية أم كلثوم ومغنيات أخريات من الحقبة نفسها، لملاحظة أنه ليس هناك امرأة وسط الحضور تلبس شيئاً من ذلك الزيّ الغريب.
الاحتلال الكارثي لفلسطين من قبل إسرائيل عام 1948 تسبب بتراجع في الوضع الاقتصادي، ما كان له أثر مباشر على حياة النساء. آلاف العائلات فقدوا أرضهم وبيوتهم، منهم رجال اتجهوا إلى المعركة، فيما أُبعدت النساء عن المحيط العائلي وأُرسلن إلى العمل أو الدراسة.
هنا بدأنا نرى آلاف الشابات الفلسطينيات يسافرن بلا حجاب، يعشن بمفردهن من دون أن يكنّ متزوجات، ومع ذلك كنّ يحظين بتقدير أقربائهن ومجتمعهن، وكنّ يَعِلْنَ العائلات ذات المداخيل القليلة. ولقد وصفت حالتهن في روايتي «الميراث» (2002). مع الوقت، لم يكن فقط مقبولاً، تمويل دراسة شقيقاتهن الأصغر سناً، بل مقدراً جداً، في مصر وسوريا ولبنان، ما سمح لهؤلاء بالحصول على شهادات في الطب والصيدلة، الهندسة، الحقوق، أو في اختصاصات أخرى. هؤلاء الشابات صاحبات المؤهلات الشجاعات والمنفتحات على العالم استطعن أن يطلقن موجة تحرير نسوية واجتماعية.
ولكن فوراً، بعد هزيمتنا عام 1967، تحالفت أنظمة عربية ديكتاتورية، معادية للاشتراكية، مدعومة من الولايات المتحدة، مع التنظيمات الإسلامية الأصولية، والتي يموّلونها بسخاء. كل من كانوا، على سبيل المثال، يرتدون الزي الاسلامي تلقوا مساعدة شهرية بقيمة 15 ديناراً أردنياً للرجل، مقابل 10 للمرأة. الرجال الذين يطلقون لحيتهم، ويلبسون دشداشة أو جلابية، وحذاء مفتوح من الجلد، أما النساء فأصبحن يرتدين حجاباً سميكاً على الرأس مع عباءة طويلة تصل إلى أصابع رجليها.
بدأت المؤسسات الاسلامية باستهداف الشبّان المصنفين كأصحاب تأثير على الآخرين. أرادت كذلك هذه التنظيمات الوصول إلى ربّات المنازل. ثم وجهوا أهدافهم إلى المساجد، المدارس والجامعات. كل هذا لم يكن لينجح من دون المساعدة، خصوصاً المادية، من الأنظمة العربية التي تظهر ولاءها، وحتى خضوعها للولايات المتحدة، عبر الانخراط باستراتيجيتها مع الأمل بأن يتخلص الإسلام الايديولوجي من الاشتراكيين والتقدميين في قلب مجتمعاتهم.
مع ذلك، لم يكتف الأصوليون بفرض ملابسهم على الآخرين. فبهدف السيطرة على النفوس من المدارس الابتدائية والثانوية، كانوا يرشّحون أساتذة إسلاميين ليشغلوا مناصب التعليم، رجالاً ونساءً، مع تكليفهم بمهمة «طبع» إيديولوجيتهم في نفوس التلاميذ وأفكارهم. ولإكمال هذه التربية، كان بعض المراهقين يلتحقون بمعسكرات تدرّبهم على الأداء العسكري والفنون القتالية، وقد أنشئت هذه المعسكرات في الصحارى الغربية، وأيضاً في أفغانستان وباكستان.
لسخرية القدر، حين فهمت الولايات المتحدة وحلفاؤها، الفخّ الذي نصبوه لنفسهم، كان «الشرّ» قد وقع، وكانت التنظيمات الأصولية أصبحت تعدّ لإرساء نظام إسلامي معادٍ للغرب.
نحن نعبر اليوم بأزمة رهيبة، فكرية، اجتماعية وسياسية. نحن مهددون من جميع الجهات، من دون أن نعرف أياً من التهديدين أكثر وحشيةً، من جهة هناك الغرب، الذي واجهنا سابقاً مؤامراته، استغلاله، واستعماره، ومن جهة أخرى الإسلام السياسي ذو التغيير المزعوم الذي أعادنا إلى عصور القمع والحرملك. بتعبير آخر، لدينا الخيار بين الغرب الذي هو مرادف للحرية والعلمانية والعلم، ولكن أيضاً للاستعمار، وبين إسلام لا يرحم، ينادي بمقاومة الغرب، ولكن يعارض العلم والحداثة، إلى جانب رفض تحرير المرأة والمجتمع.
هذه الفوضى العامة، لا تقف عند حدود منطقتنا، بل تلامس الغرب نفسه أيضاً. هكذا أصبح الشادور والحجاب مواضيع خوف ونفور، حتى أن بعض الدول منعت الزي الإسلامي وارتداء الحجاب في بعض المدارس والأماكن العامة، وهذه الدول مقيدة غالباً، بالأحكام المسبقة العنصرية.
من جهتي، أعلن للذين يتبنون هذه الرؤية الضيقة، أننا أقرب إليهم مما قد يتصورون. ألسنا نردد أن الكوكب أصبح قرية؟ نحن نأتي بموجات بشرية لتسقط على شواطئكم. ومهما فعلتم لتقليص الهجرة، سنجد دائماً طريقة للوصول إليكم، واجتياز الحواجز التي تقيمونها أمامنا، وتأكيد وجودنا بينكم. فنحن أصلاً هنا، لن تتمكنوا من إنكار وجودنا، لأننا نشكل جزءاً متمماً من عالمكم.
وسائل الإعلام الغربية، تنمّطني، تحاكمني وتشوّهني. عندما يجعلون من البرقع تجسيداً للمرأة العربية، هم يضمرون أن الكاتبة النسوية التي هي أنا، حتى آلاف النساء الأخريات المتعلمات وملايين النساء العرب المعاصرات، مسلمات ومسيحيات، اللواتي يعشن في الدول العربية، يشبهنَ هذا: وجهٌ داكن، رأس مطأطأة، جسدٌ بلا تقاسيم، وكائنات عاجزات عن التفكير والتعبير.
ولكنهم مخطئون، لأن رؤية امرأة بالبرقع تملؤني خوفاً ورعباً. أخاف ألا تخرج، يوماً ما، يدٌ من هذه الصورة، وتجرنا، ابنتي، حفيداتي، أو حتى أنا، من قلب الأنظمة العربية الشريرة، التي تبقينا في الجهل، عبر مناورات تهدف إلى إبقائنا في ما نحن عليه منذ زمن: حقل بترول في خدمة السوق الغربي.
سحر خليفة، روائية عربية من فلسطين
(نُشر هذا النص في ملحق «Manière de voir» من «Le monde diplomatique»
عدد كانون الثاني 2017)