لا زال فنّ القصة القصيرة يثير مزيداً من الجدلِ كلّما نوقشت قواعده وأصوله. بعضُ القراءات تذهب إلى اعتبار العهد القديم مجمَعاً لقصصٍ قصيرةٍ شتّى كان أبطالها الملكَ داوود ويوسف النبيّ وغيرهم. البعضُ الآخر يعتبر أنّ هذا الجنس الأدبيّ هو واحدٌ من مفرزات حركات تحرّر تمرّدت على السّائد وخرجت عن التقاليد الّتي كرّسها السرد القديم.
منذ أن اتّخذ إدغار آلان بو (1809- 1849) الخيالَ العلميّ رافعةً لقصصه القصيرة، الّتي لاقت رواجاً عالمياً كبيراً، سادَت جُملةُ “أصولٍ” ضبطت هذا الشكل من الشغل الأدبيّ، فصارت الأقصوصة محكومةً بشروط المكان والزمان والشخوصِ النافرة الّتي تُسيّر حكايةً سريعةً ومضبوطة وأحادية الحبكة. هذه “القواعد” حضرت في نصوص الروّاد، وليس غي دو موباسان، وتوماس هاردي، وأنطون تشيخوف إلّا غيضاً من فيضهم.
عربيّاً، شكّل كلّ من يوسف إدريس وزكريّا تامر علامةً مميّزة في ميدان القصّة القصيرة، ولم يخرج هذان العلمان عن “سُنّة” القصّ إيّاها وظلّ نتاجهما محكوماً بالعناصر التقليدية الحافظة للمتعة.
في تجربتها القصصية الأولى، تدير نجوى زيدان ظهرها للضوابط سابقة الذكر، وتقدّم من خلال “هذيان فتاة في العشرين” ما يُمكن أن نعتبره مشاهدَ من حياةِ نسوةٍ مررن بها أو مرّت بهن.
في “بيت أمّ جان”، مثلاً، تكتب زيدان عن جارتهنّ العجوز. توصّفها، تتحدّث عن بعض سلوكيّاتها، تحكي عن زياراتٍ إلى بيت السّيدة المُسنة، وتروي تفاصيلاً عن ولدها المهاجر وزوجها الّذي الّذي حزن على موتِ شريكته، فجهدَ ليؤمّن لها جنازةً لائقةً في زمن الحرب الأهليّة. ثمّ لا شيء. لا حكاية واضحة المعالم، ولا حبكة تقومُ على حدثٍ أو حتّى موضوعة.
“الأرملة”، القصّة الثانية في الكتاب، توصّف حالَ أرملةٍ في مجتمعٍ ذكوريّ. نجولُ في طقوسِ ما بعد الوفاة. “لقمة الرحمة” والوداعُ والمُحرّمات وعُدّة الأرامل، توصّف زيدان هذه العوالمَ محاولةً تظهير معاناة نسبةٍ لا بأس بها من الزوجات في بلادنا. تنتهي القصّة مع انتهاءِ التوصيف. ومجدداً لا أثر لتدرّجٍ حكائيّ وفق المعنى التقليديّ لسرد “الحدوتة”.
في قصّة أخرى حملت عنوان “ماريا لاخ”، و”لاخ” هي اللفظة الألمانية لكلمة بحيرة حسب حاشيةٍ دوّنتها الكاتبة، تتناول زيدان زاويةً تقليديةً من زوايا الحنين الّتي يستعيدها المشرقيّون في بلاد ما وراء المحيط. حيثُ هناك من يُسبّح بجمال ألمانيا ويحرص، بصورةٍ مبالغٍ فيها، على عدم خرق البروتوكولات المعمولِ بها في المنتزهات العامّة، بينما تصرّ القاصّة، وهي واحدةٍ من شخصيّات هذه الحكاية، على أنّ لبنان “جنات ع مد النظر ما بينشبع منها نظر”. هذه النوستالجيا تُشكّل، وحدها، قوام واحدةٍ من أقاصيص زيدان، حيثُ تغيبُ الدهشة وتنحسر المفارقة لصالح نصوصٍ توصيفية بحتة.
يؤخذ على زيدان انحيازها لنصّ لا يُنتج المتعة اللازمة لجذب القرّاء إلى أقاصيصها الأولى، لكنّ هذا لا يُلغي وجودَ سلاسةٍ في السردِ والتقديم والإحاطة بتفاصيل المكان واسترجاع الماضيات بصورةٍ تُشعر القارئ أنّه عاد إلى زمن القصّة.
رامي كوسا، كاتب، وناقد من الجمهورية العربية السورية
ليفانت نيوز، 9 كانون الثاني / يناير، 2017