خاص ـ الحقول / لا شيء يشغل “الإسرائيليين” هذه الأيام أكثر من احتمالات حرب جديدة. ورغم وجود إجماع شبه تام في الدولة العبرية حول أن إسرائيل تعيش واحدة من أفضل الحالات في تاريخها من الناحية الأمنية الاستراتيجية لتفكك الأخطار الكبيرة التي كانت تحيط بها، فإن الخوف من الحرب تزداد. ولا يقلل من حجم هذه المخاوف توفر تقنيات ومعدّات تسمح لإسرائيل بالعيش في أمان نسبي سواء تمثل ذلك في الدرع الصاروخي المضاد للصواريخ، من حيتس بأنواعها إلى القبة الحديدية، والجدران الألكترونية حولها وفي داخلها، أو في القوة الجوية والبحرية والاستخبارية الرادعة. بل هناك من يرى أنه كلما تعاظمت القوة المادية لإسرائيل وكلما تراخت الأخطار القديمة حولها تفاقم الشعور لديها بالخوف.
وكثيراً ما حاول قادة إسرائيليون، وبينهم مؤخراً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، توصيف الواقع القائم بأنه «حماية الفيلا في الغابة». وقاد هذا التوصيف نتنياهو وغيره إلى اعتبار المحيط العربي عموماً «حيوانات مفترسة». وإذا كان مثل هذا التوصيف مفهوماً في الماضي حينما كانت العنصرية الصهيونية تجهر برفضها التعاون مع العرب المتخلفين، فإن هذا التوصيف ينطوي حالياً على مفارقة كبيرة. فنتنياهو يحاول في كل يوم التوضيح لأنصاره في الداخل ولخصومه في الخارج أنه أفلح في تحويل «الدول العربية السنية» إلى حلفاء لإسرائيل. وعندما يتحدث نتنياهو عن الحيوانات المفترسة لا يتورع عن إدراج حتى الأنظمة في هذه الدول ضمن هذا التوصيف.
ومن الجائز، رغم ذلك أن مصدر تفاقم الشعور الإسرائيلي بالخوف من الحرب يعود جزئياً إلى إدراك بأنهم فعلاً يعيشون داخل فيلا وسط الغابة وأنه يستحيل عقد السلام مع الحيوانات المفترسة. والمجتمع الإسرائيلي أقنع نفسه على مرّ السنين بأنه حَمَلٌ تداهمه قطعان من الذئاب ولذلك تبدّد مع الوقت الأمل بإبرام السلام وصار الخوف من المستقبل عادة مستطابة. وقد يقول البعض إن التعبير عن الخوف تكتيك إسرائيلي أريد به على الدوام تخليد صورة الضحية كرادع للغرب من الانتقال إلى معاداتها. ومع ذلك، وأياً كانت الدوافع وتفسيرها فإن تجربة الحروب الأخيرة مع كل من حزب الله وحماس أثبتت حقائق لا يمكن القفز عنها.
فالحرب الوحيدة تقريباً التي عاشها الإسرائيليون كأفراد بإحساس بالخطر الملموس كانت حرب العام 1948، حينما لم تكن ثقة الإسرائيليين بقدرتهم راسخة في الأذهان. كل الحروب التالية مع الجيوش العربية، عدا حرب تشرين 1973، كانت بمبادرة إسرائيلية وكانت الغلبة فيها بوضوح للدولة العبرية. أول اهتزاز في صورة الإسرائيلي أمام نفسه كانت في حرب تشرين حين جاءت المبادرة من مصر وسوريا وحين انتهت الحرب من دون انتصار حاسم إسرائيلي. وجاء الاهتزاز الثاني في حرب لبنان الأولى التي رأى الإسرائيليون أنهم دخلوها مغمَضي العيون إلى حيث الأوحال بانتظارهم لوقت طويل. ويمكن، بحدود معينة، اعتبار حرب العراق الأولى والصواريخ التي أطلقها العراق على تل أبيب هزة قوية للداخل الإسرائيلي الذي رأى نفسه للمرة الأولى منذ حرب 48 وسط القتال.
ومن الواضح أنه بالتدريج كانت ترتاح إسرائيل من خطر محاربة الجيوش العربية لتنتقل إلى مرحلة جديدة سرعان ما تطورت إلى حد كبير. وفي البداية عمدت إسرائيل إلى تسمية نمط الحرب الجديد الذي صار ينشأ أساساً مع لبنان ثم بعد ذلك مع المقاومة الفلسطينية، خصوصا في قطاع غزة، الحرب بوتيرة متدنية. ولكن مع الوقت وبعد تراكم القدرات والقوة وتغيير نمط الفعل لدى المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله والمقاومة الفلسطينية ممثلة أساساً في حماس في قطاع غزة صارت إسرائيل تتحدث عن خطر «كيانات ما دون الدولة».
واتسمت المرحلة الجديدة بامتلاك قوى كحزب الله وحماس قدرات صاروخية وأدوات قتالية تفوق جزئياً ما تمتلكه جيوش وبقدرة مناورة ومرونة لا تتوفر للدول. وكانت التجربة الأولى الكبيرة على هذا الصعيد في حرب لبنان الثانية، حينما أفلح حزب الله في إطالة الحرب لأكثر من شهر ظل فيها يمطر الداخل الإسرائيلي إلى «ما بعد حيفا» بصليات صاروخية منتظمة. وللمرة الأولى يلجأ أكثر من ربع الإسرائيليين إلى الملاجئ أو يفرون جنوباً بعيداً عن مدى الصواريخ. وبعد ذلك جاءت الحربان الأخيرتان ضد قطاع غزة في العامين 2012 و2014 واللتان وصلت فيهما صواريخ المقاومة إلى «ما بعد تل أبيب». واستمرت الحرب الأخيرة مع القطاع أكثر من خمسين يوماً دامية شعر كل إسرائيلي تقريباً بمخاطر الحرب ولم تتحقق أمانية في تحقيق نصر حاسم.
وهنا يكمن تفسير الخوف الذي يعتمل في نفوس الإسرائيليين عند الحديث حالياً عن احتمالات الحرب حتى مع قطاع غزة. فالقيادة الإسرائيلية حدّدت أن الخطر الأساسي الذي يستعدّ الجيش الإسرائيلية لمواجهته في المرحلة المقبلة هو حزب الله بما يمتلك من قدرات. وصارت تردّد صبح نهار أن حزب الله يمتلك أكثر من 100 ألف صاروخ، قسم كبير منها بعيد المدى وذا رأس متفجر كبير وقدرة توجيه دقيقة. والأهم القول بأن حزب الله يملك أيضاً القدرة على إصابة كل مكان داخل إسرائيل.
وفي المقابل يتحدث الإسرائيليون عن امتلاك المقاومة في القطاع، خصوصاً حماس والجهاد الإسلامي، عشرات ألوف الصواريخ بمديات قصيرة ومتوسطة لكن بعضها قادر على الوصول إلى حيفا. وعند الربط بين قدرات المقاومة في الشمال وقدراتها في الجنوب يتولد انطباع متزايد لدى الإسرائيليين بأن كل حرب تعني احتمال تعرّض أنفسهم للموت والدمار. وفي ظل القناعة بأن الحرب لم تعُد نزهة وأن الجيش الإسرائيلي لم يعد قادراً على تحقيق انتصارات حاسمة وسريعة صار الجيش الإسرائيلي ميالاً إلى تجنب الحروب. وهذا يدفعه إلى التوجه نحو عمليات محدودة يستغل فيها الأوضاع من دون المقامرة باحتمال تدهور الوضع إلى حرب.
COMMENTS