"الأزمة الخليجية". هذه حرب جديدة تضاف على لائحة الحروب المزمنة التي تورطت فيها المملكة العربية السعودية. يتنوع شكل الحرب تبعاً لأنواع أدوات القتال التي تستعملها السعودية في كل منها، وحسب طبيعة "أعدائها". بدءاً من سوريا، اليمن، العراق، المقاومة الفلسطينية، المقاومة اللبنانية، وحتى قطر، التي تلفحها حرارة "المنطقة الشرقية" للمملكة.
هذه حروب لا نظير لها. أشعلتها أو تخوضها السعودية في وقت واحد، ضد أطراف عربية، وعلى أراضٍ عربية، وتهرق فيها دماء العرب، بمن فيهم "سعوديين". حروب يمضي النظام القبلي ـ الوهابي طالباً الحسم، بتدمير "العدو" أو باستنزافه حتى الموت. منذ أن "انتصر" السعودي في "الجماهيرية الليبية" عام 2011. "كبر رأسه". شطب خيار التسوية وراح يضرب بكل قوة و… يخفق.
الحروب المزمنة لم تقررها السعودية بل وقعت فيها. سقطت في فخها وشرها. الولايات المتحدة الأميركية (ـ "إسرائيل") هي التي باشرتها بحرب "الربيع العربي". أرادت واشنطن من خلالها نشر الفوضى الداخلية والفوضى الإقليمية، واستثمارها في بث الرخاوة الدولتية أو الحفاظ على الوهن الدولتي في الوطن العربي. جند الأميركيون في هذه الحرب الدول الأطلسية، وتركيا (ومعها شبكة التنظيمات "الإخوانية") ودولٍ عربية، تقدمتها السعودية.
ثم كان في مخطط الأميركيين تكرار "السيناريو "الليبي" في الجمهورية العربية السورية. مئات ألوف الإرهابيين من عشرات الجنسيات، دفعتهم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسويد والدانمارك، وكذلك تركيا وماليزيا وعشرات الدول الأخرى إلى أراضي سوريا لتحطيم وحدتها الدولتية وتدمير بنيتها المجتمعية.
مخططو حرب "الربيع العربي" خلبوا عقل "حشود الشارع"، بشعارات ديموقراطية، أو إصلاحية لوقت قصير، ثم انتقلوا إلى الإرهاب الإجرامي المنظم. دول "التعاون الخليجي"، وتحديداً السعودية وقطر، التي ساهمت في الحشد الإرهابي إلى سوريا، أسبغت على جرائم المنظمات الإرهابية غطاءً إسلامياً مذهبياً. سني ـ شيعي.
لكن الصلابة الدولتية التي أبرزتها الجمهورية العربية السورية كشفت طبيعة تلك الحرب وكبحتها. محور المقاومة والإستقلال، الذي يضم روسيا ـ إيران ـ سوريا (ومعهم المقاومة اللبنانية والفلسطينية)، دافع عن نفسه في سوريا بجدراة هائلة. دافع على الأرض السورية عن استقلاله وسيادته الوطنية. برهن أنه أحد الديناميات الرئيسية في النهوض الأوراسي العالمي. كل معركة خاضها الجيش العربي السوري وحلفائه، منذ عام 2011، كانت خطوة في تقويض المكانة العالمية للولايات المتحدة (ـ "إسرائيل).
تجاهلت السعودية هذه الطبيعة الإنتقالية في النظام الدولي. تراجع القطب الأميركي وصعود القطب الروسي، والقطب الصيني وبقية الأقطاب الآخرين. غفلت السعودية عن انحسار القوة الأميركية وانعكاسه على معادلات القوى العربية والإقليمية. وأن تراجع أميركا يعني، حتماً، تراجع "إسرائيل" وتركيا والسعودية وقطر. وما نشهده حالياً من تفسخ في محور العدوان الذي شن حرب "الربيع العربي" ليس غير مظهر لهبوط القوة الأميركية.
لقد رأينا كيف أن تركيا، ومنذ أن ولى الرئيس الأميركي باراك أوباما الدبر عن سواحل سوريا عام 2013، صارت تسعى خلف إيران وروسيا لـ"تدبر رأسها". بينما السعودية التي كانت لا تزال عالقة في سوريا، بقيت في "الإتجاه المعاكس". في حزيران / يونيو عام 2014، جاهرت بتأييد الدولة الإسلامية في العراق والشام/ داعش، لمَّا احتلت مدينة الموصل في العراق. ولم تكتم هذا التأييد إلا عندما رأت جنود داعش يجوسون شوارع الرياض وشعارات "الدولة" تعلو جدران مدارسها.
بعد أقل من سنة، وتحديداً في آذار / مارس عام 2015، شنت السعودية الحرب العدوانية على الجمهورية اليمنية، وما تزال تتخبط هناك. سماسرة سوق السلاح الغربيين يتكسبون من بيعها "الأسلحة الذكية" ويبتزونها بتقارير "حقوق الإنسان". ونيران الحرب تمتد في أراضيها. إنها معادلة قوة سعودية لا مثيل لها.
تصر السعودية على أن إيران هي التي "خلقت" أنصار الله، والرئيس السابق علي عبدالله صالح، وكل الكتلة السياسية ـ الشعبية المعادية لها في اليمن. لا تريد تغيير سياستها اليمنية. ترفض المصالحة بين اليمنيين. وتواصل الحرب الظالمة عليهم.
بررت السعودية توجهها إلى "إسرائيل" بـ"فوبيا إيران". لكن التعاون السعودي ـ "الإسرائيلي" قديم، وسري. الآن بات تعاون الحكم السعودي مع الكيان الصهيوني وثيقاً، وعلنياً. حتى مليك الأردن اشتكى من أن هذا التعاون حرمه من دور السمسار الذي كان يدجل به بين الرياض وتل أبيب.
السعوديون سلموا كل الأوراق إلى العدو الصهيوني. أجبروا مصر على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير شمال البحر الأحمر، لكي يفكوا قبضة الجيش المصري عن عنق خليج العقبة، ويفتحوا طريقاً برية أمام رساميل "إسرائيل" وبضائعها إلى قلب شبه الجزيرة العربية.
تُتهم قطر من السعودية برعاية الإرهاب، وهو اتهام صحيح، وأكيد. وترد قطر باتهام السعودية برعاية الإرهاب، وهو اتهام صحيح، وأكيد أيضاً. تحاصر السعودية قطر، لترفع عدد جبهات الحروب المزمنة التي تغرق فيها. تحاصر السعودية قطر، فيما نيران "الأزمة الخليجية" تقترب من "المنطقة الشرقية" في المملكة.
هذه الحروب تتناسل بأموال وأسلحة السعودية حتى ترضى أميركا ـ "إسرائيل" عن هذا "الشريك العربي". حتى المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية باتت في القاموس السعودي منظمات إرهابية. هذا الحكم البدوي، الذي تكتريه أميركا ـ "إسرائيل"، تكوَّن على قاعدة الخضوع للأقوى والإخضاع للأضعف. ولكن هذه القاعدة الأولية في السياسة السعودية، لئن نفعت النظام القبلي في ظروف صعود القوة الإمبريالية الأميركية (ـ الصهيونية)، فإنها تضره في ظروف تراجع هذه القوة الشريرة. لذلك، أي نتيجة هذا التراجع التاريخي صارت كل حروب السعودية مزمنة.
نقص قوة أميركا (ـ "إسرائيل") لن يعوضه فائض القوة المالية والدينية لدى السعودية. باعتبار القوة العسكرية السعودية هزيلة. الحروب المزمنة التي تنخر في فائض القوة السعودي، هي، كما نرى ونلمس جميعاً، ذات ديناميات تفكيكية للسيادة الوطنية في الدول العربية. والسعودية ليست استثناء. بل إن شدة خطر التفكيك على المملكة العربية السعودية، بسبب أوضاعها الداخلية وأوضاعها الخارجية، أكبر بكثير من شدته على سوريا واليمن والعراق، وحتى على ليبيا.
إنها حروب المتاهة السعودية. بل حروب المغامرة الطائشة في "سبع سنوات عجاف".
نعرف بأن محور المقاومة والإستقلال قادر على حماية نفسه من الطيش السعودي. لكنَّا لا نعرف مَن يحمي السعودية مِن نفسها. مَن يغير (في) الحكم السعودي ذاته، لكي تتحرر السعودية من هذه المتاهة المظلمة.
هيئة تحرير موقع الحقول
الأربعاء، 17 ذو القعدة، 1438، الموافق 09 آب، 2017
الأربعاء، 17 ذو القعدة، 1438، الموافق 09 آب، 2017 / آخر تحديث : 09:21
الجمعة، 19 ذو القعدة، 1438، الموافق 11 آب، 2017 / آخر تحديث : 11:16