هناك ظاهرة جديدة ومثيرة للقلق تبلورت تدريجيا عبر السبعين سنة الماضية فى الحياة السياسية والثقافية العربية. وهى ظاهرة تستحق الكثير من الدراسة التحليلية لفهم أسبابها، ووسائل القائمين على ترسيخها، وأخطارها الكارثية التى نراها أمامنا.
إنها ما يمكن تسميتها بظاهرة التأثيرات المتعددة والمتنامية للخليج العربى فى حياة المجتمعات والشعوب العربية، وعلى الأخص التأثيرات السياسية والثقافية والأمنية والإعلامية.
لقد بدأت تأثيرات تلك الظاهرة السلبية عند هجرة الملايين من أبناء الأمة العربية إلى منطقة الخليج العربى للعمل فيها. لم تكتف تلك الملايين بالاستفادة المالية من الثروة البترولية الهائلة التى تدفقت على كل دول الخليج العربية بفعل الارتفاع الكبير فى أسعار المنتجات البترولية، وإنما تشبعت أيضا، على مرور الزمن، بعادات وسلوكيات وأفكار جديدة، والتى كانت خليطا من عادات وسلوكيات البداوة من جهة ومن عادات وسلوكيات الحياة الرغيدة المرفهة التى تصاحب الغنى الفاحش المبنى على ثروة ريعية ليس فيها جهد ولا معاناة من جهة أخرى.
لقد عاد الملايين إلى مختلف أجزاء الوطن العربى بعادات التبذير المظهرى والاستهلاك النهم لكل شيء مادى معنوى، والتفاخر بالأنساب والعلاقات الزبونية، والاحتقار للعمل اليدوى الشاق، والكسل الذهنى أمام تحديات وتعقيدات الحياة العصرية.
وبالطبع عاد المتدنون منهم بأفكار وممارسات فقهية متزمتة، مختلفة وعنفية.
ولقد ساعد على غرس كل تلك القيم والسلوكيات وتجذيرها فى النفوس والعقول إعلام رسمى يشخصن الحياة الساسية، ويبالغ فى المدح والتجميل وتغطية العيوب العامة، ليتبعه بروز إعلام خاص معنى بالدرجة الأولى لخدمة مصالح مالكية الزبونية أكثر من خدمة المصالح العامة وتقديم الترفيه على الثقافة.
وبالطبع توسع الإعلامات، الرسمى والخاص، بصورة مذهلة ليسيطرا على مساحات الفنون والسياسة والدين فى كل أرض العرب ويحدثا ضجيجا سلبيا فى النفوس والقيم والعقول.
لقد لعبت تلك التأثيرات السلوكية والفكرية والدينية دورا واضحا فى تهيئة المجتمعات العربية للانتقال إلى ما نحن عليه اليوم من أوضاع حضارية سلبية.
لكن لم يقف الأمر عند تلك الحدود، إذ أدخلت الثروة النفطية فى رءوس البعض ليعتقدوا خطا بأن امتلاك المال الكثير يجب أن يصاحبه امتلاك النفوذ والقيادة فى الحياة العربية، وعلى الأخص السياسية والأمنية.
فجأة، ودون امتلاك لفكر سياسى عميق ورزين وواضح، رأينا البعض يريد أن تكون له كلمة مسموعة ومطاعة فى كل ما يدور فى وطن العرب الكبير، سواء على المستويات الوطنية المحلية الداخلية أو على المستوى القومى العربى والمستوى الإسلامى. ولا يحتاج الإنسان للتذكير بالأدوار السلبية التى لعبها البعض فى الجامعة العربية ودفعها لاتخاذ قرارات خاطئة بحق هذا القطر العربى أو ذاك.
فجأة رأينا البعض ينغمس فى اللعبة الجهادية التكفيرية المجنونة، تمويلا وتسليحا وتدريبا وتنسيقا مع المعسكر الصهيو ــ أمريكى الاستخباراتى. وها نحن اليوم نرى البعض منغمسا فى أوحال اللعبة التآمرية الدولية الكبرى لتمزيق المجتمعات العربية، ولإغلاق الملف الفلسطينى فى صالح العدو التاريخى الاستيطانى المجرم، ولتأجيج الصراعات المذهبية الطائفية، ولإضعاف النظام الإقليمى العربى. هنا يحق لنا أن نطرح الأسئلة:
ترى متى سيأتى اليوم الذى لا نرى فيه أو نسمع أو نقرأ الأسرار المسربة التى تتحدث عن تورط هذه الدولة الخليجية أو تلك، كشريك فاعل، فى صراع داخلى مدُمر عبثى يفرض على هذه الدولة العربية أو تلك، سواء فى مشرق الوطن العربى أو فى مغربه؟
متى سنصل إلى ألا نسمع ولا نقرأ عن تمويل هذه الجهة أو تلك لهذا الفصيل الجهادى المعتوه، أو عن قيام هذه الجهة أو تلك بعمل وظيفى لخدمة دولة عدوة خارجية، أو تبنى هذه الجهة أو تلك لمعارض انتهازى مرتبط بأجهزة الاستخبارات الخارجية؟
ما لم يؤلم لى حدود الفجيعة أنه كان بإمكان الخليج العربى أن يستعمل ثرواته الهائلة لتكون رافعة اقتصادية وحضارية لكل الوطن العربى، فى مواجهة الفقر والجهل والمرض والتخلف، لكننا، مع الأسف، سمحنا لأنفسنا أن نقلب ظاهرة واعدة مليئة بالخير والإمكانيات الإيجابية إلى ظاهرة مليئة بالسلبيات والتأثيرات الضارة. هذا ما يفعله غياب الفكر العاقل المتزن الإنسانى.
علي محمد فخرو، مفكر عربى من البحرين
نشر فى موقع الشروق، يوم الأربعاء 27 يونيو/حزيران 2018