مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000، تجمع عدد كبير من عناصر جيش العميل أنطوان لحد وعائلاتهم غرب بوابة فاطمة (كفركلا) على الشريط الشائك مع فلسطين المحتلة. كانت سمة ذلك المشهد الشهير، أن العملاء كانوا يتوسلون الاحتلال ويستجدونه ألا يتخلى عنهم، مع شعور بالذل والتحقير، نتيجة إغلاق بوابات العبور إلى فلسطين المحتلة في وجههم. يومذاك، كان المشهد مُركباً: يوم ذل وإنكسار لا مثيل له للعملاء ومشغليهم الذين جرّوا أذيال الخيبة والهزيمة؛ ويوم انتصار تاريخي للمقاومة واللبنانيين.
مشهد إذلال العملاء أخفى في حينه مشهداً آخر للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، التي جهدت قبل القرار التنفيذي الأخير بغربلة عملائها والتأكد من عدم بقاء «الصفوة» منهم في لبنان، وجرّهم جراً إلى إسرائيل. عدد هؤلاء بلغ العشرات، ممن كانوا لصيقين مع مستويات القرار في جهاز الشاباك الإسرائيلي، وكذلك في وحدة تشغيل العملاء لدى الاستخبارات الإسرائيلية (الوحدة 504).
«ميزة» هؤلاء العملاء اللبنانيين، من «الصفوة»، أنهم ساعدوا الاحتلال في بلورة وإنجاز عدد كبير من العمليات الأمنية والعسكرية ضد اللبنانيين، وكانوا مطّلعين على «سر المهنة» وطرق التشغيل وتجنيد العملاء وتنفيذ المهمات والإعداد لها، وغيرها من المستويات الاستخبارية التشغيلية، لدى الاستخبارات الإسرائيلية.
الاتصال بعملاء «الصفوة» جاء نتيجة قرار مسبق، مع الحرص الشديد على ضرورة عدم إغفال أي منهم. ترتيب الانتقال والتأكد من مقدماته وإلزامهم به، كان محل عناية ومتابعة خاصة من قبل الاستخبارات العسكرية. الاتصال جاء تباعاً دون استثناءات، مع حرص على سحبهم إلى إسرائيل مع عائلاتهم أو من دونها.
قبل أسابيع، عرضت صحيفة معاريف، في تقرير خاص، جملة معطيات حول العملاء الـ 17، مع التأكيد أنهم مجرد عيّنة من مجموعة لبنانية أكبر خدمت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ويتجاوز عددها عشرات العملاء.
تشير معاريف في تقريرها إلى أن هذه المجموعة، تعدّ ذات تدريب وقدرة تشغيل عالية جداً، وكان قد جرى اختيارهم على مدى سنوات بعناية تامة، ومعظمهم خدم في ما يسمى «جيش لبنان الجنوبي»، وقامت إسرائيل بتجنيدهم بالكامل في أجهزة الاستخبارات المختلفة: بضع عشرات في الوحدة 504 في الاستخبارات العسكرية؛ عدد آخر في جهاز الموساد؛ وكذلك مجموعة أخرى جنّدت وشغلت لمصلحة جهاز الأمن العام (الشاباك).
في «السيرة الذاتية» للعملاء من «الصفوة»، يرد أنهم خاضوا دورات تدريبية عالية وحازوا شهادات مماثلة لشهادات الضباط الإسرائيليين، وعملوا سنوات في تجنيد العملاء اللبنانيين، واستجوبوا معتقلين وأسرى في سجن الخيام في جنوب لبنان. البعض منهم لم يكن يخفي عمله مع الاستخبارات الإسرائيلية. تقويم هؤلاء، بحسب المحصلة النهائية لعملهم، أن مساهمتهم كانت «حيوية» بشكل استثنائي للاستخبارات الإسرائيلية، وحسب مصادر مطلعة ــــ تضيف معاريف ـــــ كانوا جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة الأمنية، و«يكفي أن يشير الشاباك إلى من يريد، كي يعمل هؤلاء على تجنيدهم، بل إن الكبار منهم كانوا يجرون تحقيقات مستقلة بوصفهم موظفين ميدانيين للاستخبارات. وحظوا، نتيجة جهودهم، برواتب مضاعفة».
في الأشهر التي سبقت الانسحاب في 25 أيار 2000، وفي اجتماعات مع الضباط والمنسقين الإسرائيليين في إسرائيل، وكذلك في لبنان، «جرى إخبارهم أن الاهتمام الإسرائيلي بإخراجهم من لبنان غير مبني فقط على القيم والأخلاق والشعور بالامتنان، بل إن البقاء في لبنان سيسبب لإسرائيل خسائر في المعركة الاستخبارية في الساحة اللبنانية»، ويضيف تقرير معاريف أنه «في اللقاءات التي جرت في مستوطنة المطلة، أعلمناهم أن لا خيارات أمامهم، وليكن واضحاً لكم: ليس لديكم خيار آخر سوى مغادرة لبنان إلى إسرائيل»؛ وبحسب تقرير آخر لمجلة «ميكور ريشون» العبرية قبل أيام «فهم الجميع (عناصر «الصفوة») أن لا خيار في البقاء في لبنان، ومن أراد ذلك كان سيُنقَل بالقوة إلى إسرائيل».
كان واضحاً للعملاء، أن إسرائيل جادة جداً وتعمل على سحبهم من لبنان بعد دراسة المخاطر والتهديدات، وأن هذا هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم. تخيير أحادي الجهة، يخفي في طياته تهديداً بالقتل في حال التملص أو رفض الإذعان للقرار الإسرائيلي، وتحديداً في حال فشل إسرائيل في جلبهم وسوقهم بالقوة إلى ما وراء الحدود مع لبنان. في المحصلة، كل العملاء الذين حددت هوياتهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على اختلافها، وبينهم من لا يُعرف عنه عمالته، مع عائلاتهم أو من دونها، تمّ جرّهم جراً إلى إسرائيل. مشهد هؤلاء كان مغايراً لمشهد معظم العملاء، الواقفين على السياج يستجدون الاحتلال، خشيةً على مصيرهم نتيجة أعمالهم معه، ولكن من دون أن يبدي الاحتلال أي اهتمام بهم.
في تقرير مجلة «ميكور ريشون»، ترد تغطية إخبارية لدعوى قضائية تقدم بها عدد من العملاء اللبنانيين، من «الصفوة»، ضد جهاز الأمن العام (الشاباك)، وكذلك ضد وحدة تشغيل العملاء في الاستخبارات العسكرية (الوحدة 504)، وذلك على خلفية إيقاف رواتبهم من قبل الجهازين المذكورين، بعد سنوات طويلة من الخدمة في لبنان وإسرائيل، قبل الانسحاب من لبنان وبعده. أحد الملتمسين من «الصفوة» أشار مع التشديد على عدم نشر اسمه، إلى أن الراتب الشهري الابتدائي في عام 2000، «بعد انتقالنا إلى إسرائيل، كان بحدود 4000 شيكل (يزيد قليلاً على 1100 دولار)، وهو جزء فقط مما كنا قد وعدنا به. ذلك المبلغ كان يتقلص عاماً بعد آخر، إلى أن توقف تماماً في العام الأخير».
يشير (ص)، أحد العملاء الملتمسين، إلى أن إسرائيل خانت من عمل لحسابها وتراجعت عن تعهداتها لنا بمساواتنا بعناصر الوحدة 504، الأمر الذي أدى إلى الضائقة الاقتصادية التي نعانيها، و«بيننا من حاول مغادرة إسرائيل، والاستقرار في الخارج، لكن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية منعته من ذلك، لاعتبارات أمنية».
في ردها على الالتماس، أشارت الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن الوعود التي تلقاها العملاء غير قابلة للتحقق، إذ من الصعب العودة 18 عاماً إلى الوراء، والبحث في إن كان ومن كان قد تعهد لهم بمساواتهم بعناصر الوحدة 504 من الإسرائيليين.
عملاء «الصفوة» من اللبنانيين، الذين أجبروا على مغادرة لبنان إلى إسرائيل، مع إشارات تهديد بالقتل في حال عدم الإذعان، عوملوا لاحقاً معاملة العناصر العملية الأخرى لجيش لحد، ليس باتجاه عدم مساواتهم بالإسرائيليين فقط، بل أيضاً بقطع رواتبهم، وكل ذلك في موازاة منعهم من الاتصال بلبنان، ومنعهم أيضاً من مغادرة إسرائيل، علماً بأن محاولة تجاوز الإرادة الاستخبارية الإسرائيلية والعمل على الهرب والفرار خارج فلسطين المحتلة، عواقبه معلومة جيداً للعملاء: إما الإذعان، وإما العقوبة التي قد تصل إلى التصفية الجسدية. مصير «خيرة العملاء» في إسرائيل لا يختلف، وربما أكثر قسوة وإذلالاً، عن مصير أدناهم في مراتب العمالة. إنه قانون آل كابوني. العصابة تقوم بتصفية كل من يحاول الخروج منها. هذا هو مصير «الصفوة»!.
يحيى دبوق، الأحبار، 2 آب / أغسطس، 2018