يقول شاهد عيان أن من بين مئات الجرحى السوريين واللبنانيين والأجانب الذين أدخلوا إلى لبنان بعد “معركة القصير”، هناك جرحى وهميون تم تلطيخهم بالدماء، وموهت أجسادهم بالضمادات والأمصال لتمكينهم من الخروج الآمن من جحيم المواجهات. من البديهي أن تكون السلطات الأمنية قد أحصت عدد وهوية “القصيريين” الجرحى، وفقا لما تسمح به حالتهم الإنسانية. لكن وصول هؤلاء المقاتلين إلى بعض المناطق، يثير توقعات مرجحة باحتمال عودتهم إلى النشاط العسكري، بغض النظر عن عددهم. فـ”القصيريون” الذين انضموا إلى كتلة ديموغرافية تزيد عن نصف مليون نازح سوري، ينعمون الآن بحضانة البيئة “المحلية” لهم، وتوحدهم رفقة السلاح والعقيدة التكفيرية. وهؤلاء المقاتلون المجربون لن يتأخروا في العودة إلى الميدان الجهادي كـ”أبطال رمزيون”، ينضوي تحت رايتهم السوداء المزدانة بالشهادتين، رعاع الفقراء والخلاصيون من أبناء الطبقة الوسطى أو انتهازيو البرجوازية، ناهيك عن أرتال الجواسيس ورجال الإستخبارات.
تؤكد معلومات المصادر الميدانية أن كل تجهيزات مسرح “معركة القصير” وصلت من لبنان : الرجال، الأسلحة، الأموال، الألبسة، الأغذية، وسائل النقل والإتصال، الأدوية والمعدات الطبية، والبعثات الإعلامية. بعض التجهيزات “صنع في لبنان”، والباقي استورد عبر اراضيه. يذهب أحد المسؤولين السوريين أبعد من ذلك. يقول إن أخطر أعمال التدخل العسكري الخارجي، وبالضبط في بداية الأزمة السورية، قد استهدفت المنطقة الوسطى من سوريا، عبر شبكة العلاقات الإجتماعية والإقتصادية والأمنية التي تخترق الحدود اللبنانية الشمالية. وقد حصل ذلك بأساليب ووسائل تقنية وعلمية متطورة تدبرتها دول حلف شمال الأطلسي، ثم “إسرائيل” وبعض الدول العربية لاحقا. ولذلك يتساءل عما إذا كانت “معركة القصير” التي انتهت في سوريا، قد انتهت فعلا في لبنان، طالما أن العمق الإستراتيجي لـ”القصيريين” ما زال مفتوحا هناك، على الأقل في البقعة الجغرافية “الشاسعة” ما بين طرابلس وعكار.
ويلفت خبير سياسي بارز إلى انتشار عناصر تكفيرية من الشيشان في لبنان. ويكشف عن ان كثيرا من هذه العناصر تقيم في غير منطقة لبنانية من دون ان كشف هويتها الحقيقية، وذلك لأسباب دينية وثقافية تمنع التمييز ضدهم، ما يسهل تغلغلهم. ولفت إلى أن بعض هؤلاء معروفون بأنهم شراكسة، أو تركمان، فيما هم من قومية الشيشان.
وتحدث عن تطوع مقاتلين شيشانيين من تنظيم القاعدة، في تشكيلات “أحرار الشام”، و”أحرار سوريا” و”كتائب الفاروق” التكفيرية السورية، ومن بينهم عناصر وفدت من لبنان والأردن، ومن الشيشان وكذلك من هولندا وبلجيكا وبريطانيا وألمانيا، بتسهيل من حكومة رجب أردوغان “الإخوانية” في تركيا.
وينبه من أن ما يميز التكفير الشيشاني هو ظاهرة الإرهاب الأسري. وقال إن جوهر وتيمورلنك تسارناييف الذين نفذا تفجير بوسطن الإرهابي، ليسا سوى حالة نمطية عن كيفية انتقال عقائد التكفير وجذور الإرهاب في بنية الروابط العائلية.
وأشار إلى تقارير سرية تبين أن إرهابيي بوسطن كما كثيرا من الإرهابيين الشيشانيين الذين جاؤوا من دول الغرب للقتال في سوريا، هم الجيل الثاني بل والثالث من تكفيريي حروب الشيشان في تسعينات القرن الماضي، وأن آباءهم الذين استقر بهم المطاف في دول الغرب، وحصلوا على جنسيات تلك الدول، لم يلبثوا ان “ربوا” أطفالهم على ذات العقائد التكفيرية التي تبرر القتل السياسي باسم الدين من دمشق وحتى … بوسطن.
ويقول خبير استراتيجي عربي إن اضمحلال الجيوبوليتك الكولونيالي قد يكون من بين النتائج الخفية لما يسمى “الربيع العربي”. وقال إن الفوضى السياسية التي تعم الكثير من الدول العربية، وخصوصا سوريا، قد تسببت بنهوض قوى سياسية لا تعترف بالحدود الجيو ـ سياسية القائمة، بسبب أوهام التاريخ الديني الخاص التي تسيطر على عقول قادتها ونشطائها.
وأوضح أن الحدود بين لبنان وسوريا تضمحل أمام أعين القوى الداخلية والخارجية كافة، من دون أن تقدر على منع هذا الإنهيار البطيئ. وسخر من الدعوات إلى معالجة قضية اللاجئين السوريين في لبنان وغيره من خلال المؤتمرات الدولية. وقال إن هذا السيل الديموغرافي الكاسح، بات خطرا واضحا على الإستقرار الإقليمي في الجنوب والجولان، لا سيما بعد أن أجبرت قوة الأمم المتحدة UNDOF في الهضبة السورية المحتلة على تقليص انتشارها، بضغط من المسلحين الإرهابيين، الذين يلقون مساعدة علنية من “إسرائيل”.
وأكد على أن الكيان الصهيوني سعى إلى خلق فراغ قوة يسمح بتوسيع هامش مناورته في جنوب لبنان. ولذلك نرى أن كل المجموعات السورية المسلحة التي تصل إلى بلدة شبعا وجوارها، تنسق مع جيش الإحتلال “الإسرائيلي” في الجولان قبل عبورها إلى لبنان. وهذا الإضمحلال للحدود الكولونيالية يدركه الغربيون، وقد صرح السفير البريطاني توم فليتشر في ندوة عقدت في بيروت، بأن الأوضاع السائدة في المنطقة حالياً، تشير إلى أن اتفاق “سايكس ـ بيكو ليس أبدياً”، وأنه يلوح في الأفق “سايكس ـ بيكو جديد، يُرسم من دون توقيع فرنسي وبريطاني، بل بتوقيع إيراني ـ سعودي أو روسي ـــ أميركي”.
بعد “معركة القصير” تضخم فراغ القوة في شمال لبنان. أكاذيب السياسيين بأن انتشار الجيش يحل هذه المشكلة، تكشف عن تضليل وتهرب من تحمل المسؤولية السياسية والأمنية والأخلاقية عن الدور “المعروف” الذي لعبوه في تجهيز وإمداد “مجاهدي القصير”. قدرة الجيش على تعبئة الفراغ الشمالي يصطدم بانقسام السياسيين اللبنانيين حول “المسألة السورية”. من دون التوافق السياسي أي من دون إقامة الأمن السياسي في المجتمع، لا يستطيع الجيش فرض الأمن العسكري على الحدود. هذه معادلة بسيطة، غيابها يبقي السؤال ماثلا عمن سيملأ فراغ القوة الشمالي، الذي ما زال يهدد أمن مدينة القصير ومدينة ومحافظة حمص، وكل المنطقة الوسطى من سوريا. هل يكمل الجيش السوري مطاردة “القصيريين” في الأراضي اللبنانية لسد هذا الفراغ. هل تؤدي الفوضى العسكرية والتسيب الأمني في محافظتي طرابلس وعكار إلى “تواطؤ” دولي يدفع دمشق لإرسال جيشها إلى شمال لبنان لإحباط تكفيريي الجهاد ومنعهم من إقامة الإمارة الإسلامية هناك؟. إذا كان التدخل العسكري السوري ضد مسلحي “الجهاد العالمي” في الشمال متعذرا قبل “معركة القصير”، فإن مرحلة “ما بعد القصير” تحمل مؤشرات مغايرة.
الجيش العربي السوري يعود إلى عكار؟
يبدو أن الشائعات التي تروج في منطقة شمال عكار منذ مدة، عن “عودة” القوات السورية إلى بلدات المنطقة بدأت تتحقق. فقد زعمت مصادر محلية متابعة أن قوة سورية راجلة قد عبرت جسرا فرعيا على النهر الكبير، يقابل بلدة صغيرة في ناحية تل عباس الشرقي تدعى المسعودية. وقالت إن القوة المذكورة قد جالت في منطقة زراعية داخل الأراضي اللبنانية نهارا، لوقت قصير قبل أن تغادر من ذات الطريق التي قدمت منها. وحسب هذه المصادر القريبة من حزب المستقبل فإن الجنود السوريين لم يتعرضوا لأي من سكان البيوت المجاورة، كما لم يلق دخولهم أي رد فعل في تلك المنطقة السهلية المكشوفة، من جانب عناصر الأحزاب والمجموعات السياسية الناشطة فيها، ربما بسبب المفاجأة التي أصابتهم، أو لسرعة مغادرة القوة السورية. وإذا صحت هذه الواقعة فإن الشائعات التي كثرت في عكار في الآونة الأخيرة، عن نية دمشق ملاحقة المجموعات الإرهابية المسلحة في داخل الأراضي اللبنانية، ومنعها من استخدام القطاع الحدودي الشمالي للتسلل لقتال الجيش السوري في مدينة حمص وريفها أو لنقل الرجال والأعتدة إليهما، تكون على درجة من الصدقية والجدية. يذكر أن مروحيات سورية كانت قصفت مواقع حدودية سورية تتمركز فيها هذه المجموعات قرب جرد بلدة عرسال في البقاع الشمالي قبل اسبوعين.
COMMENTS