يطلعنا هذا المقال على أحد الجوانب الداخلية لـ"الترامبية". فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعصبه الإجتماعي ـ السياسي، حسب بعض الخبراء، يطلقون على أنفسهم مسمى "اليمين البديل"، الذي يضم أكثرية من الحزب الجمهوري وأنصاراً من الحزب الديموقراطي أيضا. ويقوم هذا اليمين الجديد بقيادة ترامب نفسه، بتغيير النخبة التقليدية لنظام "ديموقراطية الحزبين" التي تسيطر على السلطة في الولايات المتحدة، بصورة محكمة، وطاغية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
يركز المقال، وكاتبه من أنصار "إسرائيل"، على التوتر في علاقة ترامب بالأميركيين اليهود. هذه وجهة نظر يمكن أن تفيد القارئ العربي لسببين رئيسيين : الأول، أن متابعة هذا الجانب المغفل في الظاهرة الترامبية، مفيد في تحليلها، وفهم الوضع الداخلي في الولايات المتحدة، وما يشهد من متغيرات عميقة، تؤثر في الوضع الدولي، بما يتناسب مع حجم قوة الولايات المتحدة، ومركزها المهيمن في النظام الرأسمالي العالمي. آخذين بعين الإعتبار، أن الإعلام العربي لا ينقل هذه "الصورة" لأسباب "خليجية" معروفة. في كل الأحوال، هذا التوتر "الترامبي" ـ اليهودي الأميركي، لا يؤثر بتاتاً، على "التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل"، كما أكد ترامب وأسلافه في البيت الأبيض.
الثاني، أن المقال يصور بعض تفاصيل المواجهة بين الرأسماليين اليهود الأميركيين وإدارة ترامب، المحجوبة في الإعلام العربي، بعد أن ابتلع "طعماً" أيديولوجياً صهيونياً، هو مفهوم "معاداة السامية". وهذا المفهوم اللاتاريخي، يستغل بعض عقائد المسلمين والمسيحيين وإيمانهم الديني لصالحه. وقد تمكنت الحركة الصهيونية من بث هذا المفهوم ونشره، بدلاً من مفهوم العداء لليهود، بغية إخفاء الروابط العميقة التي توحدها مع رأس المال اليهودي الأوروـ أميركي، الذي اضطهد الشعوب واستضعفها ولم يزل يقوم بذلك. كما تشدد الصهيونية على هذا المفهوم، لكي تشوش الوعي السياسي ـ الثقافي، بشأن عبودية اليهود (الصهاينة) للصهيونية، وواجبهم في تحرير أنفسهم منها، من خلال تنظيم مقاومة يهودية للكيان الإستيطاني العنصري في فلسطين المحتلة.
++++++++ +++++++++ +++++++++
وقعت حادثتان إرهابيّتان في الولايات المتّحدة الأميركية، أواخر شهر تشرين الأول / أكتوبر الفائت. كانت الأول قاتلة، فيما الثانية، حمداً لله، لم تكن كذلك. أعني بالأولى، حادثة قتل 11 يهوديّاً أثناء أدائهم طقوسهم الدينية في كنيس في مدينة "بيتسبرغ"، صبيحة اليوم السابع والعشرين من ذلك الشهر. كما "أُرسِلت" قبلها بأيام، قنابل يدوية الصنع، ـ تبين لاحقاً أنها لم تجهز للتفجير ـ إلى زعماء سياسيين وشخصيات من الحزب الديمقراطي.
فما القواسم المشتركة بين تينك الحادثتين، وما مغزاهما؛ بالنسبة إلى الولايات المتّحدة وكل الشعوب والأمم الأخرى، التي تتطلع إلى الولايات المتّحدة كمصدر للحماية أو الإلهام أو كلا الأمرين معاً؟.
إن كلتاهما مجرد حلقة أخرى في سلسلة طويلة من حوادث الإرهاب الداخلي، بعضها استهدف تلامذة مدارس، والبعض الآخر كان ذو طابع سياسي أكثر وضوحاً، مثل مذبحة "تشارلوتسفيل" بولاية فيرجينيا في صيف عام 2017. كان مألوفاً من قبل أن تطال هكذا حوادث، مواطنين أميركيين مسلمين. لنتذكر مثلاً "فورت هود"، "سان برناردينو"، أورلاندو، وماراثون بوسطن. لكن معظم الحوادث التي وقعت في السنوات القليلة الماضية ما كانت كذلك.
يرجع الكثير من تلك الحوادث إلى الفترة السابقة على الصعود السياسي للرئيس دونالد ترامب. لكنها عرفت تصعيداً وانتشاراً، منذ بدء حملته الرئاسية الانتخابيّة وجولاته خلالها، ثم فوزه وتنصيبه رئيساً. وتركز ذلك في عبارات التعصّب ضد الأميركيّين الأفارقة؛ وكراهية المهاجرين الأجانب الذين أدانهم الرئيس ترامب بسفور، في خطاب تنصيبه، لكونهم مسؤولين عن "مجزرة"، والآن، حان دور اليهود.
عقب حادثتي تشرين الأول/ اكتوبر المنصرم، اللتان ارتُكِب كلاهما مستوحِدٌ عادي، حذّر جميع خبراء الإرهاب من إن الشخصية النمطية للمرتكبين سيزر سايوك وروبرت باورز، موجودة بكثرة في المجتمع. وقد عبر دونالد ترامب من البيت الأبيض، وكذلك نائبه مايك بِنْس، عن إدانات تقليديّة لتلك الحوادث، وقدما لأسر الضحابا تعازٍ سطحيّة.
لم يُشِر الرئيس ولا نائبه إلى الحاجة الماسة للتشدد الصارم في قوانين حمل السلاح. وهذا الإغفال له دلالة في حال باورز. لأن ترامب أنحى باللائمة على كنيس "بيتسبرغ"، لأنه لم يكن يكتري حارساً مسلحاً لحمايته. كما أن كلاهما لم يُصَنّفا الحادثتين كإرهاب مسلّح، مع أن من المستحيل تعريفهما بدقة، بغير ذلك.
الأسوأ، كان تصريح بِنْس إلى برنامج "إن بي سي نيوز ساترداي"، الذي ضاعف الهـالة الأورويليّة[1] المحيطة بواشنطن. حيث رفض إلقاء اللوم على التطرّف أو على خطاب الاستفزاز السياسي المتطرّف، كدافع للتشجيع على العنف. قال نائب الرئيس : "لكلٍّ أسلوبه الخاص، وبصراحة، يستخدم الناس على الجانبين لغة قويّة بشأن خلافاتهم السياسيّة". وأضاف: "لكني لا أظن أنه من الممكن ربطها مع أعمال العنف أو التهديد به".
صحيح ما قاله بِنْس بشأن انخراط كلا الجانبين في استخدام لغة قويّة. مثلاً، ليس يكُ أمراً مجديّاً أن يعمد مشاهير هوليوود، من أمثال روبرت دي نيرو إلى إطلاق شتائم ضد رئيس الولايات المتّحدة الأميركية؛ في محافل عامة، على غرار ما جرى حصل في حفل "جوائز طوني" في حزيران / يونيو الماضي. لأن هكذا لغة ملتهبة تؤتي بنتائج مخالفة لغرض صاحبها. إذ أنها تستفز أنصار ترامب، كما تُظهِر لقاعدته الشعبيّة مدى تطرف اليسار وانفلاته. بمعنى أوضح، تفيد تلك الشتائم البيت الأبيض وقاعدته، ليظهرا، حسب أسلوبيهما، كل من يعارض ترامب بصورة راديكالي، انفعالي، ولا يحترم منصب الرئاسة. نعم، يحب كثيرٌ من الناس أن يرددوا القول المأثور : "حارب النار بالنار"، لكن الحكمة تُملي على الإطفائيّة أن تحارب النار بالماء!
رغم هذا النقد، فإن دي نيرو يبقى مجرد مواطن أميركي عادي. أما ترامب وبِنْس فهما الشخصان الوحيدان المنتخبان في السلطة التنفيذيّة لحكومة الولايات المتّحدة. ولذلك، ما إذا كانا يظنّان حقاً، بل يأملان أيضاً أن يقنعا الجميع، أنه لا يجدر بهما الارتقاء بسلوكهما إلى مستوى أعلى، يتناسب مع مسؤوليّات منصبيهما؟. في هذه الحال، لا يجدر بنا أن نساويٍ، أخلاقيّاً أو سوى ذلك، بين مسؤوليْنِ رفيعيْنِ منتَخَبَيْنِ، وبين مواطنين منتقِدينَ لهما تحركهم العواطف.
أضف إلى ذلك، فإن ما تفوه به بِنْس، وهو يشذ عن الوصف، يعاكس وجهة كل ما تعلمناه من السيكولوجيا الاجتماعيّة. فإن كان مقتنعاً، حقاً، بما قال، عندها يكون غبيّاً؛ بشكل صادم. أما إذا كان غير مقتنع بذلك، حقاً، فيكون مجرد كاذب، وجد تصريحاً ملائماً ليعتّم على العلاقة بين الكلام والأفعال. ومن البديهي أن ينبئ الشر والكلام العنيف عن الشر والسلوك العنيف. فلطالما كان الأمر كذلك، بل إنه سيبقى كذلك أيضاً. فأينما تصاعد دخان الحقد غير المبرر تكون هنالك نار العنف المجنون.
ربما لا يستطيع بِنْس، أو لا يرغب في، وصل النقاط المتفرّقة. لكن أشخاصاً غيره لم يجدوا مشقة في القيام بذلك. لقد لاحظ أحد المراقبين بذكاء، أنه منذ ثلاث سنوات دأب ترامب على الصراخ بعبارة "أطلقوا النار" في مسرح حاشِد. في تلميح إلى قضية "شنِك ضد الولايات المتّحدة" التي ترجع إلى عام 1919 وتخص القاضي أوليفر ويندل هولمز جونيور. وهذه القضية أرست قيوداً معقولة على ممارسة الحق الأول في الدستور[2]. يشتكي دونالد ترامب من تكاثر الحقد، قائلاً : "إنه أمر رهيب، رهيب كل تلك الكراهية في بلادنا، وبصراحة، في العالم بأسره". وهذه أشبه بشكوى مزارع من ثمار زرعه. هذا محصوله. لأن أسلوب عمل ترامب كمستثمر سياسي هو زرع الكراهية وحصاد ثمارها.
تصح صورة "صرخة "أطلقوا النار" في مسرح حاشد" تشبيهاً لوصف أسلوب خطاب ترامب، ولا يحتاج الأمر إلى خبير بارع ليفهم أن ذلك ما تتتجه صوبه الأوضاع منذ فترة طويلة. لقد حذرت في 14 آذار/ مارس 2016، قبل وقت طويل من ترشيح الحزب الجمهوري ترامب للرئاسة؛ بل توقّعتُ أيضاً كل ظاهرة "الأخبار الكاذبة":
"ترامب هو… سياسي يشبه سحرّة القبائل. إنّه بارع في السحر الاجتماعي، وتهييج العواطف وتغيير كل ما لا يحبه إلى شيء آخر يحبه. ولا يملك أتباعه المُنَوَّمين مغناطيسيّاً بواسطة عالَم دراماتيكي من القوى المتضاربة، سوى إحناء الرأس بالموافقة، ليس اقتناعاً بمنطقه، بل بتأثير سحره الشيطاني، الذي يروّج ترامب له بطريقة مُبسّطة".
"إذاً، ليس دونالد ترامب مجرد مرشح جمهوري آخر للرئاسة، ومسألة فوزه لا تقتصر على الاقتراع الرئاسي. إن ترامب هو إنذار بشأن الخيط العميق من اللاعقلانيّة المتصاعدة في الجسد السياسي للولايات المتّحدة. كذلك هو حاضنة لعنف سياسي كامن. إنّه لم يعمل بالطبع على تنظيم قوات مسلحة رديفة، لكنه في كل مرّة يهدّد فيها بأن يلطم أحداً ما على أنفه يكون بالنتيجة، قد أعطى الإذن لأتباعه بأن يكونوا عدوانيّين مع الآخرين، بما في ذلك العنف أيضاً"[3].
لم يوافق كثيرون على توقّعاتي، يومذاك، بشأن العنف المنتظر، مع إنّ مدَّهُ، فعلياً، كان يرتفع. وبنظرة استرجاعيّة، تأخذ بالحسبان مناخ عدم التسامح المتطرف الذي استبق وصول ترامب إلى البيت الأبيض، فإن ذلك المدّ، كان حقاً، عنصراً رئيسياً في سياق نجاحه السياسي.
يمكن البدء في مراجعتنا الانتقائيّة بتذكّر أول مذبحة عنصريّة صريحة حدثت في الأزمنة القريبة، وهي قَتْلُ ديلان رووف 9 مُصَليّن سود في كنيسة في "تشارلستون" بولاية "كارولينا الجنوبيّة" في 2015. وتلا ذلك في صيف 2016، اغتيال 5 ضباط شرطة في "دالاس" على يد ناشط أسود. إذاً، صحيح الإدعاء بأن العنف والإرهاب يصدران إلى حد ما، عن كلا الجانبيّن. ولكن بعد تنصيب ترامب رئيساً، تحديداً في أيار/ مايو 2017، وقع هجوم جسدي مباشر من قِبَل مرشح للكونغرس في ولاية "مونتانا"، على أحد مراسلي الصحف؛ وكان ذلك متوافقاً مع أجواء تلك الفترة. في 14 حزيران/ يونيو، أُطلِّق الرصاص على مجموعة من أعضاء الكونغرس الجمهوريّين، كانوا يلعبون كرة السلّة في بلدة "الاسكندرية" بولاية فيرجينيا، وجُرِح كثيراً منهم. مرَّة اخرى، هناك عنف من الجانبين، مع افتراض أنّ كلَّ عنفٍ يُغذي الآخر. إبّان تلك الحوادث، جرت أعمال شغب انقساميّة في الجامعات ضد متحدثين من اليمين، وصدامات بين يساريّين ونازيّين جدد في شوارع "سكرامانتو"، وكاليفورنيا وغيرها؛ وتُوِّجَ ذلك كلّه بكارثة "تشارلوتسفيل" في 12 آب / أغسطس 2017.
كأن تلك الحوادث كلها لم تكن كافية، حتى جاءت مجزرة "لاس فيغاس" في 1 تشرين الأول /أكتوبر 2018، التي أوت بحياة 58 شخصاً. لم يستطع أحد شرح أسبابها؛ لكنها من نمط الإرهاب اللاعقلاني، الذي يحدُث مُبَرِّراً نفسه بنفسه.
لقد تراكم كل ذلك العنف إلى حدّ، بات هو القاعدة الذي تحدد توقّعات الناس. ولنتذكر أن الضرر الرئيسي للإرهاب لا يتأتّى من عدد قتلاه، بل يحدث أكثره بفعل نسف الثقة الاجتماعيّة التي تُبقي على المجتمعات متفاعلة وموحَّدَة ومتفائلة[4]. وأن الحكومة الأميركيّة ساعدت، بغباء، الإرهابيّين في السنوات التي تلت عام تفجيرات أيلول/سبتمبر 2001. إذ أنها حولت البارانويا أي جنون الإرتياب والإضطهاد والعظمة إلى روتين بيروقراطي. وذلك بتذكير الأميركيّين، يوميّاً، تكراراً، بإمكان حدوث مذبحة جماعيّة. وكذلك بإغراق الأماكن العامة بشعار "إذا رأيت شيئاً ما، قُلْ شيئاً ما". لقد التهمنا نسيج الوضع الطبيعي للأمور، وهو ما يكون متضمّناً في توقّعات الجميع وتنبني عليه الثقة الاجتماعية، في نهاية الأمر. عندما يصبح مجرد ركوب باص أو حافلة مترو أنفاق، عملاً محمّلاً بشحنة إدراكيّة، مهما كانت روتينيّة؛ تكون النتيجة اضطراباً نفسياً سيّئاً.
في هكذا أوقات، بعد وقوع حادثتي إرهاب في أسبوع واحد، يُتَوقّع من القيادة، إذا تصرفت بمسؤوليّة، دور الشافي من الانقسامات والنُصحَ بالخير على المستويات كلها. وبدلاً من ذلك، عمل ترامب والجمهوريون على تسعير الانقسامات، أملاً في نتيجة سياسية مستقبلية أكثر ملائمة لمصالحهم.
حتى بعد "تشارلوتسفيل"، حدثت إنكارات، وظهر أناس لا يريدون رؤية أو أقلّه الاعتراف، بوجود رابط بين التكاثر الواضح للغة العنف وبين السلوك العنيف؛ ورفضوا فهم ما فعلته حملة ترامب من بدايتها، ثم البيت الأبيض؛ بتعمّد شديد. لا أستطيع أن أفهم كيف يتمكن أي شخص من الإصرار على إنكار العنف السياسي في الولايات المتّحدة الأميركية، وكذلك التلاعب به، مثلما فعل ترامب وأنصاره، بعد حوادث الأسبوع الماضي.
ماذا عن اليهود؟
أسفر الهجوم على كنيس "بيتسبرغ" عن أكبر مجزرة ضد اليهود الأميركيّين. وقد جاء بعد تصاعد الحوادث المتسمة بمعاداة اليهود[5] خلال السنتين المنصرمتين. مع الحذر من أن المرجعيّة الأقدم للبيانات عن هذه الحوادث لا يمكن الوثوق بها. فالأعمال الجيّدة التي أنجزتها "رابطة معاداة التشهير" [وهي منظمة صهيونية تعمل في الولايات المتحدة، اسمها “بناي بريث” بالعبريّة، أي “أبناء العهد”] على مدى تاريخها اللامع، إلا أنّها منخرطة في تجارة اكتشاف معاداة اليهود. وتمثّل هذه التجارة سبب وجودها الوحيد، وهو سبيلها إلى تحصيل المال. لقد دأبت “رابطة معاداة التشهير”، ولسنوات طويلة، على تضخيم معاداة اليهود، على غرار ما تفعله بالضبط منظَّمَة “كير” [“مجلس العلاقات الأميركيّة ـ الإسلاميّة” الذي اخترقه “الإخوانيون” في عهد الرئيس السابق باراك أوباما] في تضخيم الحوادث المصنفة ضمن أعمال الـ"إسلاموفوبيا"، وللأسباب عينها تماماً، أي كسب المال.
إذا أخذنا بالحسبان كل ما قلناه، يغدو من غير المنطقي، أن ننكر انتشار حوادث معاداة اليهود اليوم، في الولايات المتّحدة، بأكثر مما كانت عليه في عام 2009. إذاك، انكشفت قِصّة الخداع المُنظّم الذي مارسه برنارد مادوف[6]. وكان من شأن قضية مادوف أن تشكّل عاصفة متكاملة من التوقعات بارتفاع معاداة اليهود: إذ كانت قضية يهوديّة كليّاً. كانت خداعاً عميقاً ومنحرفاً؛ وطاولت المال. وبدا كل من تورّطوا فيها "يهوداً". لم يحدث شيء. لا شيء. لم تظهر نأمة من معاداة اليهود في تلك القضية.
قارن ذلك الصمت المطبق في قضية مادوف مع هجمات الجمهوريّين التي تكاد لا تهدأ على جورج سورس، التي كانت صفارات إنذار واضحة عن معاداة اليهود. في أجواء هجوم وقع يوم سبت على كنيس، رفض مسؤول "لجنة الحزب الجمهوري لحملة انتخابات الكونغرس"، إدانة حملة إعلانيّة تربط مرشحاً ديمقراطيّاً مع جورج سورس وهو من الشخصيات التي تلقت بالبريد إحدى تلك القنابل.
أُطلِق الاعلان ضد المرشح الديمقراطي دان فيهان، الذي يتنافس مع المرشح الجمهوري جيم هيغدورن في تمثيل الدائرة الأولى في "مينوسوتا" في الكونغرس في 18 تشرين الأول / أكتوبر. كان يتضمن مشهداً مُمَنتَجاً يظهر فيه كولن كبيرنك راكعاً[7]، ومحذّراً من أنّه "دُفِعَ مال إلى غوغاء اليسار كي يتظاهروا في الشوارع". ثم يعقب ذلك صورة لسورس محاطاً بأكوام من النقود، بينما يكرّر الإعلان نغمة كلاسيكيّة في معاداة اليهود : "البليونير جورج سورس يموّل المقاومة"[8].
لم يكن إعلاناً واحداً. فقد ادعى عضو الكونغرس الجمهوري مات غايتس في فلوريدا، أن سورس موّل "قافلة" المهاجرين الآتين من هندوراس من دون أن يعرض أدلة. ربما التقط غايتس ذلك من برنامج "لو دوبس تونايت" الذي تبثّه قناة "فوكس نيوز بيزنس". حيث ظهر كريس فاريل من مجموعة "جوديسيال ووتش" [تعني حرفيّاً “مراقبة العدالة”]، في حلقة البرنامج بتاريخ 25 تشرين الأول /أكتوبر، وقال، من دون أدلة أيضاً، إن تلك القافلة مموّلة ومُوجَّهَة من "وزارة الخارجيّة التي يحتلها سورس".
هنالك المزيد. في الأسبوع الماضي، كتب كيفن ماكارثي، زعيم الأغلبية الجمهوريّة في مجلس النواب، تغريدة حذفها بعد الهجوم على الكنيس، جاء فيها : "لا نستطيع أن نترك سورس وستاير وبلومبرغ، يشترون هذه الانتخابات [النصفيّة للكونغرس، التي جرت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي]". والرجال الثلاثة المذكورين في تغريدة ماكارثي هم من الأميركيين اليهود.
كذلك، غرّد الرئيس ترامب في وقت مبكّر من شهر تشرين الأول / أكتوبر، خلال احتجاجات ضد بريت كافاناه الذي أضحى قاضياً في المحكمة العليا، بأن الناس الذين يحتجون ضد كافاناه "دُفِعَ لهم من قِبَل سورس وآخرين"، من دون أن يبرهن قوله بدليل. ثم أعاد رودي جولياني بثّ تغريدة تشير إلى سورس بأنه من "أعداء المسيح" وهم جزء من مؤامرة، ومُلمِّحاً أيضاً إلى أن سورس يدفع للمحتجين ضد كافاناه.
لكن من الأرجح أن تذهب جائزة التهوّر المطلق إلى النائب الجمهوري عن تكساس لوي غوهمرت، الذي شبه سورس بـ[الزعيم الألماني النازي أدولف] هتلر. وقال إن سورس يهيمن على سياسات الحزب الديموقراطي. وأضاف أثناء ظهوره على شاشة "فوكس نيوز" : "ربما رفعوا سواعدهم وفردوا أكفهم وهتفوا هايل سورس". أما زميله النائب الجمهوري عن آريزونا بول غوسار، فمكن الممكن منحه جائزة الجنون المؤامراتي. إذ صرح في مقابلة مع قناة "فايس نيوز" أنّ سورس ربما كان وراء تظاهرة "القوميين البيض" في شهر آب /أغسطس 2017 في "تشارلوتسفيل". وعندما سُئل إن كان يعتقد بأن سورس موّل تظاهرة "النازيّين الجدد" التي سارت في "تشارلوتسفيل". أجاب : "أليس مثيراً أن يتبيّن أنّ ذلك ما كان"؟. من شأن ذلك النوع من التخرّصات المؤامرتيّة التي تمثّل كذبة كبيرة محرّفة، أن يكون إشارة إلى وجود شيء ما يثير الاضطراب في ثقافة الناس، عندما يخترق الخطاب اليومي بعمق كافٍ. إنّه مؤشّر لا يُخطئ عن العنف.
بسبب الغرف المسمّمة على شبكات الـ"سوشال ميديا" التي تُكافئ أقوالاً صادِمَة، بأن تصفها كـ"سَبَق" سماوي، فقد وصلت الأمور الآن إلى حد أنه، وفق وصف رئيس "رابطة معاداة التشهير" جوناثان غرينبلات، "صار طبيعيّاً ومسموحاً الحديث عن مؤامرات اليهود للتلاعب بالحوادث، أو ممولين يهود يسيطرون بطريقة ما على مسارات الأمور". مرّة اخرى، كل مَنْ تُفاجئه هذه الأشياء أو يفكر أنّ دونالد ترامب لا يتحمّل مسؤوليّة عن ذلك التحوّل الدراماتيكي، يكون ببساطة غير متنبّه لما يجري، أو لديه ذاكرة ضعيفة.
إذاً، لنتذكّر أنه حملة ترامب الانتخابيّة وأثناء اجتماع معهم، علّق ترامب مازحاً عن امتناع "تحالف اليهود الجمهوريّين" عن تأييده، قائلاً: "السبب في ذلك هو أني لا أحتاج أموالكم". وتضمّنت حملة تغريدات ضد هيلاري كلينتون، وضع نجمة داوود على أوراق الدولار. في نيسان / إبريل 2016، نشرت جوليا لوف مقالاً نقديّاً في مجلة "جنتلمان" الفصليّة عن ميلينيا ترامب، فكان أن أغرقها اليمين المتطرّف بصور وإساءات معادية لليهود، تُوِّجَتْ بتهديدات بالموت على غرار إرسال صورة يهودي يقتل بطريقة الإعدام أو أشخاص يطلبون توابيت تحمل إسمها. عندما أُعطِيَ ترامب فرصة لإدانة تلك الهجمات التي يشنها أنصاره، قال: "ليس لدي رسالة" لهم[9] وبالطبع، قال ترامب آنذاك أن تظاهرة تفوّق العرق الأبيض في "تشارلوتسفيل"، التي رفعت أعلاماً عليها شعار الصليب النازي المعكوف، ضمّت بعض "الناس الطيّبين".
التوجيه عبر عدم التوجيه
كان ترامب مؤيّداً للفرص المتساوية [في العمل]، ثم حاصداً لغلة كراهية الأجانب والتعصّب، على الرغم من أن لديه إبنة يهوديّة (تحوّلت الى تلك الديانة) وثلاثة أحفاد يهود [من جاريد كوشنر]. وبغض النظر عما يظنه بنفسه أو يفكر به، فإنه مُشَبع بلائحة طويلة من أفكار التنميط السلبيّ، ولم يرتفع عن مستوى إفلات أنصاره لممارسة تعصّبهم لمصلحته السياسية. يحضر إلى الذهن مشهداً كلاسيكياً من فيلم "بيكيت" الذي عرض عام 1964، والمستند افتراضاً إلى حوادث حقيقيّة حصلت عام 1170. في ذلك المشهد، يعطي الملك هنري الثاني التوجيه عبر عدم التوجيه، إذ يقول خلال جلسة استماع في محكمته: "ألا يخلصني أحد من هذا القسّ الذي يدسّ أنفه في ما لا يعنيه"؟.
كلا. لم يأمر ترامب بنقش نجمة داوود على أكوام من النقد، وكذلك لم يطلب من أحد إرسال قنابل يدوية الصنع إلى شخصيات دأب على انتقادها على "تويتر". كما لم يأمر مختل مستوّحد بكتابة تغريدة بأن قافلة المهاجرين من هندوراس يموّلها جورج سورس، قبل أن يهاجم هذا جمع المصلين في كنيس. لا يحتاج ترامب إلى ذلك. كل ما عليه فعله هو ترسيخ تلك النبرة في جمهوره، ثم الإلتفات إلى الناحية الاخرى [متظاهراً بالبراءة]. هناك أشخاص آخرون سيتولوا التخلّص ممن دسوا أنوفهم في ما لا يعنيهم، من يهود ومهاجرين ومعارضين. عندما وصف ترامب نفسه في 23 تشرين الأول /أكتوبر بأنه "قومي"، وهي صفة يمكن أن تعني عشرات الأشياء وفق السياق الذي توضع فيه، فهم اليمين المتطرف ذلك، بأن ترامب اعترف علانيّة، أخيراً، بكونه واحداً منهم. ووفق ما تقارير منشورة، فقد كانوا متأثرين، وشُحِنَتْ صفوفهم مجدداً. عندما يرتكبون مزيداً من أعمال العنف، سيولي ترامب وجهه عنهم، ويضحك في سرّه.
إذاً، لدينا تصاعد جدي في الإرهاب الداخلي، الآن، في الولايات المتّحدة. تدعمه موجة قاتمة من خطابات سياسيّة سامّة، ينسّقها جزئيّاً رئيس الولايات المتّحدة نفسه. على رغم أنه أمر صادم، لكنه يجب ألا يكون مفاجئاً أيضاً. في النهاية، عندما هنّأ ترامب في حزيران/يونيو المنصرم ماتيو سالفيني، رئيس "حزب رابطة الشمال" الإيطالي، وأعضاء آخرين في حكومة أقصى اليمين الجديد في إيطاليا، تعمد بوضوح أن يُضرّ بالاتحاد الأوروبي.
وإذ أثار قضيّة المهاجرين المشحونة سياسيّاً، فكّر ترامب في تجزئة الأوروبيّين داخل كل بلد على حِدَة، وكذلك ضمن الاتحاد الأوروبي ككل. باختصار، بدا توجهه سياسيّاً غير متمايز عن سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين[10].
ما هي الدروس والتحذيرات التي يجب أن يأخذها حلفاء الولايات المتّحدة وأصدقائها القدامى في الخارج؟. الدرس الأول هو أنّ الولايات المتّحدة تغيّرت، أقلّه في الوقت الراهن. فهي لم تعد تعمل وفق بوصلة أخلاقيّة كما لم تعد حليفاً موثوقاً، إلا بالمصادفة؛ أي عندما تتوافق المصالح مؤقتاً.
هل تتغيّر أميركا وتعود إلى سابق عهدها، وتمسك مجدداً بمهمّتها وحسّها البديهي الطبيعي، حينما يرحل ترامب؟. ربما؛ لكن يصعب أن تعود الأشياء تماماً، إلى ما كانت عليه. حدثت مشاكل، وظهرت مزاعم من نُخَبْ، مع يقين متزعزع. لقد هزّ ترامب القضبان بشدّة حقاً. وكما يعرف الجميع فإنّ ردّة ضد ترامب وما يمثّله، ربما تذهب بعيداً في الاتّجاه الآخر نحو أشكال مجنونة من الرؤى الطوباويّة لا تكون بحد ذاتها خالية من توجّهات نحو العنف. لا نحسب أننا نعلم بها. بمجرد أن يتلوث نظام سياسي بالعنف، تؤدّي التوقعات بمزيد من العنف إلى جعل ذلك العنف أكثر إمكاناً. وتتولّد دورة إنحدار إلى العنف يصعب الخلاص منها قبل أن يواجه الجسم السياسي حصاد زرعه. من يبادر إلى كَسْر تلك الدورة. كيف؟.
آدم غارفينكل، محرر فخري في "آميركان إنترست".
نقل النص إلى العربية : غسّان رزق.
مركز الحقول للدراسات والنشر
الجمعة، 5 كانون الثاني/ يناير، 2019
[1] يشير آدم غارفينكل إلى الكاتب الأميركي جورج أورويل (1903- 1950) في روايته الشهيرة "1984" التي وصف فيها نظاماً ديكتاتوريّاً شموليّاً (المترجم).
[2] غابرييل شونفِلد، "صرخة " أطلقوا النار" في مسرح كثيف التسلّح: ذلك ما يفعله ترامب منذ ثلاث سنوات"، "نيويورك دايلي نيوز"، 27 أكتوبر 2018.
[4] ناقَشْتُ تآكل الثقة الاجتماعيّة في الولايات المتّحدة في "بطريقة ما، نؤمن بالقليل جداً"، في "تي. إيه. آل. أون لاين"، 13 كانون الأول/ ديسمبر 2017.
[5] يستخدم غارفينكل تعبير "معاداة السامية"، وهو مفهوم أيديولوجي صهيوني يحمل دلالات تاريخية ـ سياسية زائفة. نحن نستبدله بمفهوم معاداة اليهود أو العداء لليهود حيثما ورد في النص(المترجم).
[6] برنارد مادوف (مواليد نيويورك، 1938)، هو أميركي يهودي، كان يدير أموال صناديق استثمار يهودية، وقام بعملية خداع كبيرة مزمنة لمالكيها. وتم كشفه في عام 2009، واعتقل وحوكم وسيق إلى السجن.
[7] كولن كبيرنك هو لاعب بيسبيول أميركي شهير. التفتت الأنظار إليه في العام 2016، عندما ركع على ركبة واحدة أثناء أداء النشيد الوطني الأميركي، بدلاً من الوقوف، في حركة احتجاج ضد سياسة ترامب تجاه الأفارقة الأميركيّين. وانتشرت حركته في أوساط الرياضيّين الأميركيّين السود.
[8] بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، شاع استعمال مصطلح "مقاومة" أميركيّاً في الإشارة إلى محتجين على رئاسته (المترجم).
[9] جوليا لوف، "ما مدى مسؤولية ترامب عن حادث إطلاق النار في "بيتسبرغ"؟، "واشنطن بوست"، 28 أكتوبر 2018.
[10] أنظر مقالي "الخوف والإرهاب"، في "عين أوروبيّة على التحوّل الراديكالي"، 25 يونيو 2018، وظهر أيضاً على الإنترنت بعنوان "انعدام الأمن القومي: الإرهاب والخوف"، "أميركان إنترست أون لاين"، 17 يوليو 2018.