يكشف مقال ألكسندر COKBURN عن دور العلوم الإجتماعية في الحرب الإمبريالية الراهنة التي تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق وفي أفغانستان. ويبين المقال مأساة علم anthropologie/الأنتروبولوجيا بشكل خاص، حيث حولته الأموال الأميركية إلى أداة للتخريب والتجسس على الشعوب الفقيرة، بدلا من أن يرشد تطورها الإجتماعي والإقتصادي والثقافي :
تسود حالة استنفار قصوى في كواليس إدارة التجنيد في صفوف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، والبحث المكثف جارٍ على قدم وساق عن جهابذة الأنتروبولوجيا/علم الإنسان، الذين تمسّ الحاجة إليهم في هذه المرحلة لمد يد العون والإدلاء بدلوهم في غمار “الحرب على الإرهاب” في أفغانستان والعراق. لقد بدأت نشاطات الـ anthropologues/علماء الإنسان المرافقين للقوات المقاتلة في الميدان، تثير سخطاً متزايداً في الأوساط العلمية والأكاديمية وأروقة الدراسات التخصصية في علم الإنسان.
ليست جديدة فكرة مواكبة كوكبة من العلماء لجحافل الجيوش في غزواتها وفتوحاتها، والسعي الحثيث لإلحاقهم بصفوف العسكر، كي يمدوا الجند بخلاصة معارفهم، وليطّلعوا من خلالهم على عورات وثغرات مجتمعات الخصوم. فالجيوش المحتلة أدركت، منذ عهد بعيد، أهمية هذا الدور الذي تنهض به ثلة العلماء، فأولته أهمية قصوى من أيام الصليبيين الأوائل، واغتبطت أيما اغتباط بالخدمات التي تؤديها فرق الخبراء، وكتائب العلماء، لما تزودها به من خبرات ثمينة، تتيح لها معرفة أعمق بأمزجة ونزعات شعوب الدول التي اجتاحها أو سيجتاحها الغزو.
اتّبع الأمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت النهج ذاته يوماً ما، عندما استبد به حلم فتح الدنيا مستهلاً بفتح مصر أم الدنيا، فاصطحب معه السرايا المبجلة من فطاحل العارفين بعالم الشرق وبواطنه وخفاياه.
وعندما كان إيفانز بريتشارد، الأب المؤسس لعلم الإنسان الاجتماعي البريطاني منكبّاً بجد واجتهاد على أبحاثه في عام 1930، منصرفاً إلى إنضاج هذه الدراسات والرؤى وتعميقها في خضمّ مشاريعه الدراسية الكلاسيكية لشعب النوير جنوبي السودان، كان هذا الباحث المنقب العتيد يمد استخبارات الجيش الاستعماري البريطاني بسيل من التقارير البالغة الخطورة، الطافحة بمعلومات استخباراتية سرّية، لا تدع صغيرة ولا كبيرة من شؤون رجال القبائل وتحركاتهم إلا أتت عليه. ومكّن هذا الدفق النفيس من المعلومات الاستخباراتية القوات الجوية الملكية البريطانية من قصف هذه المناطق والقبائل بنيران القنابل.
قبل عامين، بادر البروفسور الأميركي ديفيد برايس، وهو anthropologue بارز، محاضر في كلية سانت مارتينز في ولاية واشنطن، ومؤلف الكتب التي تتناول استخدام مؤسسات ووكالات الحكومة الأميركية لعلماء الإنسان/ anthropologues، إلى كشف النقاب عن دأب “سي آي إيه” على تقديم منح دراسية سرّية، قد تصل قيمة الواحدة منها إلى 25 ألف دولار، لتدريب عملاء استخبارات ومحللين في مدارج وفصول الجامعات الأميركية، كي يصار الى تجنيدهم للعمل في ال”سي آي إيه” وغيرها من الوكالات الإستخبارية.
ويمد anthropologues الـ”سي آي إيه” رعاتهم السرّيين بتقارير منتظمة، تزخر بما يجمعونه من معلومات، وذلك من دون أن يدري بهم زملاؤهم الطلبة، أو يعرفوا ما يقومون به من مهام تجسسية.
الآن، ثمة ضجة مدوية تتصاعد في المشهد العراقي والأنظار مسلطة على مهندس “تعزيز القوات” الأميركية في العراق، وقبطان سفينة العسكر في بلاد الرافدين، الجنرال ديفيد بترايوس، الذي انعقدت عليه آمال الإدارة الأميركيةلوقف تدهور الوضع العسكري والأمني في العراق.
عندما أدلى بترايوس بشهادته أمام الكونغرس في سبتمبر/أيلول 2007، حظي يومها بدفق كبير من تعليقات المعجبين بأدائه على صفحات الجرائد وفي وسائل الإعلام. ولا غرو في ذلك، فالجنرال أكاديمي بارز، ناهيك عن ألمعيته العسكرية، إذ يباهي بحمل شهادة الدكتوراه التي حازها عن رسالته حول الحرب الأميركيةعلى فيتنام.
قوبل بترايوس بترحاب حار، وأغدقوا عليه الثناء بصفته جنرال أكاديمي. لقد حاز الرجل المجد من طرفيه سواء في الأوساط الأكاديمية وبين أسفار المعرفة وكنوز المكتبات، أو في خنادق القتال وساحات الوغى. ودعم بترايوس صيته وأضفى المزيد من البريق على سيرته وصورته بترؤسه لتحرير نشرة الجيش الأميركي الإرشادية الجديدة : “الكتاب الموجز حول مكافحة التمرد في الميدان”، الذي نشرته جامعة شيكاغو وتحظى مبيعاته برواج كبير.
في أواسط تشرين الثاني/نوفمبر 2007، فجر البروفيسور ديفيد برايس قنبلة أكاديمية علمية هزّت كيان بترايوس، بالإضافة إلى مكفيت التي كانت شاركت في كتابة فصل أساسي من فصول “الكتاب الموجز حول مكافحة التمرد في الميدان”، يتناول دور المعرفة الانثروبولوجية في العمليات العسكرية. وقد أحرج بترايوس ومكفيت إلى أبعد الحدود، بعد أن نشر موقع counter punch/كاونتربنش الإخباري مقالا وقعه برايس، تحت عنوان “مادة علمية مسروقة استغلت في منحة دراسية تدمر كتاب الجنرال بترايوس عن مكافحة التمرد”. وتضمن المقال المؤلف من 4 آلاف كلمة، عرضا مفصلا لعدد ضخم من “الاستعارات” أو الإقتباسات المسروقة، لأن أصحابها لم يأذنوا للجنرال الأكاديمي ومساعدته، باستخدامها في الفصل الثالث من “الكتاب الموجز حول مكافحة التمرد في الميدان”. لقد سرقت مادة الفصل من أعمال أخرى.
وفي السنوات الأخيرة كانت وصمة انتحال الأعمال الفكرية أو الأدبية وسرقتها، تعتبر كفيلة بتدمير سمعة كل من تلتصق به هذه التهمة، ورغم أن برايس يتفادى استخدام مفردة “الانتحال” بشكل مباشر، فإن من المشكوك فيه أن يكون الآخرون على هذه الدرجة من الحصافة والتعقل.
ولبتراوس أعداء كثر، وكذلك بالنسبة لماكفيت، بطلة كثير من الأعمال الغثة البالغة الرداءة التي نشرت في الأشهر الأخيرة، والتي يكنّ لها الكثيرون في ميدان تخصصها عداءً شديداً.
ويلتئم شمل اتحاد anthropologues/علماء الإنسان الأميركيين الشهر المقبل (كانون الأول/سبتمبر 2007) لمناقشة التهم الموجهة إلى علماء الأنتروبولوجيا، بأنه جرى امتهان هذا التخصص العلمي، وانحطت ممارسته، فصار الـ anthropologues/علماء الإنسان عرضة لمخاطر جمة في أرجاء العالم، جراء نشاطات “فرق استجلاء التضاريس البشرية واستكشاف توجهات الناس”.
وتواجه دار نشر ومطابع جامعة شيكاغو بريس حملة تدقيق ومحاسبة صارمة جداً، تسائلها عن دورها في تشجيع ما يبدو أنه ممارسات علمية رديئة.
وفي وسع المرء أن يفترض، وهو في غاية الاطمئنان، أن تبادل الحديث بين بتراوس وماكفيت سيكون لاذعاً متفجراً.
COMMENTS