قبل أن يداهمنا الموسم الرمضاني لهذا العام ويغدق علينا مسلسلات تلفزيونية خاصة بشهر الصوم، من المفيد أن نلقي نظرة الى الوراء، الى عام 2018، نلاحظ من خلالها كيف كانت حال الدراما العربية جزئياً وحال الدراما السورية بشكل خاص.
قد يرى ناقد لم يتسنّ له أن يتابع حلقات كاملة لمسلسل درامي سوري، أنّ «الدراما تعمل تحت إمرة مجموعة سياسية تمالئ النظام في سوريا وتموّل منه»، فتعرض وجهة نظره عبر حبكة درامية حول الحرب الدائرة منذ ثماني سنوات وتداعياتها على المجتمع السوري، ولا سيما على المستوى الاجتماعي والمعيشي والأخلاقي، وفي ذلك تناسٍ مقصود أو تعامٍ عن أنّ هذه الدراما تمثّل غالبية المجتمع السوري شئنا أو أبينا. إلا أنني لا أنكر أنّ السوريين أجادوا استخدام الدراما كقوة ناعمة، وهذا حق سيادي لكل دولة.
ضاقت سوق الدراما السورية مع استمرار وتصاعد وتيرة الحرب الدائرة، بفعل تماهي المواقف السياسية للمحطات الفضائية العربية مع مواقف دولها، ولا سيما الخليجية منها، ونحت الدراما اللبنانية المنحى نفسه، علماً بأنّها استفادت من أزمة الدراما السورية من خلال أعمال مشتركة رفعت من مستوى الدراما المعروضة أحياناً وأعطتها نسبة مشاهدة عالية بفعل حضور نجوم الدراما السورية فيها. خلال السنتين الأخيرتين، أخذت شركات الإعلان تحجب الإعلانات عن الدراما السورية لمصلحة الدراما اللبنانية والمصرية، ما يفسر لجوء صاحب أهمّ شركة إعلانات في لبنان الى إنتاج الدراما اللبنانية وتوجّه محطات لبنانية والعديد من المنتجين اللبنانيين الى الإنتاج الدرامي المحلي. لكن رغم محاولة سوق الدراما اللبنانية مضاعفة الإنتاج، مستفيدةً من التضييق على الدراما السورية التي شكلت رافعة للدراما العربية ذات يوم، إلا أننا نلاحظ أنّ دراما لبنان لم تكتسب حتى اليوم الطابع الشعبي أو المشاهدة العربية كما السورية، إذا كانت تجوز المقارنة وذلك برأيي لأسباب عديدة، أهمّها أنّها دراما بعيدة عن واقع اللبنانيين وهموم المجتمع اللبناني، فلا زمان ولا مكان يحددان معالم هذه الدراما، ما يجعل المشهد الدرامي اللبناني شبيهاً بالمشهد الدرامي التركي الى حد كبير مع فارق واضح في الشخصيات المتكلمة باللهجة اللبنانية.
وفق مصادر كبار الموزعين لمسلسلات الدراما العربية، فإن صناعة الدراما السورية، قد أجبرت على عرض منتجاتها من دون مقابل، لمواجهة المقاطعة والمنافسة وللحفاظ على وجود المسلسلات السورية على المحطات والفضائيات العربية. فمثلاً، مسلسل «قناديل العشاق» بثته 15 محطة بتوزيع مجاني مقابل العرض فقط. كما أنّ إنتاج السوق الخليجية للدراما المحلية اللاهثة الى تقديم ما يعوّض عن غياب الإنتاج السوري على شاشاتهم، جاء في خضم الترجمة الحرفية لسياسة المقاطعة الرسمية للدراما السورية. إنّ الدراما السورية مع كل ما تعرضت له من تراجع وانقسام في صفوف صنّاعها الى مقاطعة غالبية الفضائيات العربية ــــ تحديداً الخليجية ــــ لأحدث إنتاجاتها مكتفية بعرض ما يتناسب من محتوى درامي مع سياساتها المعادية للنظام وللمجتمع السوري، وتلك التي تم تمويلها بمال خليجي، يُضاف إليها منافسة الدرامات العربية والأجنبية الأخرى، من المصرية الى التركية المدبلجة باللهجة السورية المستساغة لدى جمهور واسع من المشاهدين العرب، الى المكسيكية، وصولاً الى الهندية المدبلجة الى العربية والتي تعرض حالياً على أكثر من شاشة خليجية…
رغم كل ذلك، حافظت الدراما السورية على خصائص عدة، لا يمكن معها للدراما العربية المشتركة، التي تنجح على حساب وجوه التمثيل السورية والإخراج والنص السوريين، أن تضاهيها، وقد ذكرت لي احدى الصديقات انها عندما كانت تشاهد مسلسل «خاتون» في جزئه الثاني، وتحديداً مشهد اعدام احد ابناء الحارة من قبل الفرنسيين، لم تكن قادرة على وقف دموعها لشدة الصدقية في عرض مشهدية الاعدام وردة فعل الناس المتجمهرة والنساء.
إنّ هذه القوة المشهدية التي تترك بصمتها في نفس المشاهد تملك الكثير من المقومات، ولعل اهمها:
ـ أنّها بقيت دراما الشارع السوري بامتياز، نرى فيها النسيج السوري المتنوع بفئاته الاجتماعية من أغنياء وفقراء ومهمشين وعرب وأكراد وأرمن وتركمان.
ـ تمسكت بالواقع، فقدمت حكايات الناس بلغة الناس وتعبيراتهم، على وقع الحرب، بكل ما أنتجته هذه الحرب رغم وحشيتها من مهن جديدة وأمراض اجتماعية وأوجاع نفسية وفيزيولوجية وخسائر مادية لدى عموم السوريين. لقد استطاعت بواقعيتها أن تجسّد انعكاسات الحرب على منظومة العلاقات الانسانية وتحديداً على سلّم القيم الاجتماعية التي كان فيها الكثير من السائد الفاسد والمتخلف.في الدراما السورية، السوريون يسمعون اصواتهم وصراخهم وشكواهم وأنين جراحهم ورجاء آمالهم، ويرون حياتهم أمامهم بكل خيباتها وقسوتها ومكامن الخوف فيها والضعف، يتعرّون من الداخل، فنرى يأسهم وطموحهم وألوان جشعهم وفساد نخبتهم والبعض من قادتهم ومسؤوليهم في أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة: من مرتشين ومتآمرين واستغلاليين ومستفيدين و…
أجل، اعترى الضعف العديد من الأعمال الدرامية السورية، وسقط العديد من صناعها في فخ ما يطلبه السوق، الا أنّ البعض الآخر استمر في إيقاظ المجتمع وفي تبصيره وفي رفع ذائقيته الفنية، وفي شرح وفهم ما حل ببلادهم، لتصبح المسلسلات السورية في جرأتها الراهنة، متقدمة على الدرامات العربية الأخرى. كأنما فارقَ الخوف صناعها، فأقاموا ورشة تنوير وتثوير الى صياغة مفاهيم جديدة للرفض والقبول، للحرية والعبودية للولاء وللمعارضة، للحرب وللسلم، للوفاء وللخيانة، لصياغة مفهوم الوطن الذي يأبه لكل اطياف المجتمع من خلال الكوميديا التي لم تخلُ من هنات، كما في «الواق الواق» للمخرج الليث حجو وللكاتب ممدوح حمادة الذي ضم نخبة من الممثلين السوريين، امثال رشيد عساف وباسم ياخور وشكران مرتجى. ومن خلال الميلودراما ايضاً في «ضبوا الشناتي» والدراما الصرفة مع «الندم» و«غداً نلتقي» و«روزنا» ودراما الحب مع «أهل الغرام»، و«حكم الهوا» ومع هذه الأعمال، شهدنا عودة اسماء كبيرة الى الأعمال الدرامية الملتزمة بالمستوى الدرامي التنويري، سواء لناحية كتابة النصوص امثال نجيب نصير وسامي يوسف، أو لناحية الاخراج أمثال نجدت انزور في «وحدن» وعارف الطويل في «فوضى». اصبح النسيج السوري كما الفسيفساء كما الخارطة على جدول الدراما السورية التي لم تترك «اقلياتها» عرضة للاهمال كما في السابق. لعل بعض النقد نبهها الى الأمر. فأصبحنا نرى في هذه الدراما «الأكراد» و«الدروز» و«الأرمن»، وصار «الحضور المسيحي» اقوى. في مسلسل «روزنا» (اخراج عارف الطويل)، أعطيت مدينة حلب مساحة درامية جميلة تستحق أكبر منها، وعكست طبيعة العلاقات القائمة بين اطياف المجتمع الحلبي ومنهم الارمن، كما رأينا فيه الخوف والوجع والمصير المشترك بين كل فئات المجتمع الحلبي، من خلال مقاربة انهيار طبقة الصناعيين التي تعرضت مصانعها للسرقة وصعود طبقة اثرياء جدد ممن تآمروا على ابناء مدينتهم وسرقوا لمصلحة الأتراك وتقاسموا الغنائم معهم، لنشهد في «روزنا» على الكم الهائل من الدمار الذي خلفته حرب الارهابيين في ابهى المدن العربية.
الدراما السورية تعيش اليوم حالة ما بعد الصفعة اذا جاز التعبير، صفعة المقاطعة والانقسام وضعف الامكانيات والقلق الذي اعترى صناعها، وهي حكماً تحتاج الى مزيد من الوقت لاستعادة مساحتها التي تستحقها. الا أنّ عدداً غير قليل من انتاجات عام 2018 يوحي بنهضة وشحذ الهمم، ومنها مسلسل «فوضى» الذي جمع الثنائي نجيب نصير وحسن سامي يوسف نصّاً وسمير حسين في الاخراج. مسلسل عبّر عن الاضطراب الحقيقي في المجتمع الدمشقي بعدما لجأ الى العاصمة ابناء البلد من أقطار جهاتها الأربع، من ريفها ومدنها، لقد رأينا خليطاً جديداً من سكان دمشق، لم يكن ليتشكل لولا الحرب.
كأنما المجتمع في فوضاه اليوم، يعيد تشكيل نفسه، لن نعرف الأبيض الا اذا اجتزنا الأسود. والخوف من كل هذا العبور مبرر. مسلسل «فوضى» هو التغيير المخيف الذي يعصف بيوميات السوري في دمشق، فنرى الخيبات والحزن والقلق ونرى الحب والأنانية والفساد والتسلط على الناس الضعفاء والأقوياء معاً والتلاعب بمصائرهم. إنّها أيام الفوضى أي زمن التجربة، والتجربة هي الغربال الذي سيتكفل بعملية الفرز، فرز الاستنتاجات التي تصلح أن تكون دروساً بعد محنة الحرب. في «فوضى»، «ما حدا لحدا وما حدا شايف حدا» كما جاء على لسان احد ابطالها، نرى سوريا التي تتخبط امام تغييرات حادّة في العلاقات الاجتماعية وسلّم القيم الأخلاقية وفي موازين القوة وفي مفاهيم الحب والخوف والمتاهة والجوع والتضحية والخيانة والموت. مقولات جديدة ما كانت لتكون لولا هذه الحرب البشعة.
في «وحدن»، أخذ انزور النساء كمحور لرؤيته الدرامية، المرأة تحرص على الأرض على البلاد على الاوطان، بينما الرجال قادرون على ترك الارض أو بيعها أو المقايضة عليها ببضعة من ذهب. يقدم لنا المخرج القدير حكاية، يعمل فيها التخلف والخرافة عمله بكل شخصياتها، من خلال صيغة التعويذة المرتبطة بالذهب، ليقدم امثولته الدرامية. حين يجتمع الجهل والطمع، فإنهما يدمران أيّ مجتمع حيّ. وهذا على ما يبدو حال سوريا التي تعرّضت لأبشع حرب في العصر الحديث. وكي «لا يصبح الزوج المنيح هو الزوج الميت» كما جاء على لسان احدى الشخصيات في «وحدن»، قدم انزور تجربة قاسية موجعة مخيفة الى اولئك الرجال الذين تركوا النساء وحدهن تعصف بهن اشكال القلق على المصير والأبناء والارض. لكنهن تحدّين وبقين رمزاً لبقاء الوطن رغم المحن التي تكاد تنحو به نحو الهلاك.
نقاشات جديدة ومتقدمة نراها في الدراما اليوم حول: توزع الثروة، قانون الاحوال الشخصية والزواج المدني الذي يحمي العائلة الرافضة لثوب الطائفية اذا تزوجت. النساء المتعلمات ودورهن في رفض صفة مذهب. تحرر الفتاة السورية من قيود على علاقاتها الغرامية في مختلف مراحل عمرها، على خروجها ليلاً حتى النوم في منزل حبيبها كما في مسلسل «نبتدي منين الحكاية»، نقاشات تغيّر النظرة الى المطلقين. حتى النظرة الى الامور السياسية ولا سيما مسألة الحوار بين المعارضة والموالاة، «تفقد اهليتك كمحاور اذا لم تكن محايداً»، تراجع الحالة العنترية عند الرجل في اغلب الاعمال، لتتقدم مشاهد دمشق الجميلة بحياة قاطنيها ويومياتهم المعتادة: العلم مرفرفاً فوق اكثر من مبنى والسيارات تعبر لتتوقف أمام الضوء الاحمر. الناس في الاسواق المشبعة بالخيرات. الاطفال في المدارس وفي الجنائن والحمام يطوف فوق المآذن وأجراس الكنائس.
تثير الدراما السورية الإقبال والإعجاب، كظاهرة استجابت للمد ثم المد الى أن اتاها الجزر بفعل الحرب عليها، بصفتها ركيزة من ركائز القوة في الدولة.
تحاول الدراما اليوم الامساك بلجام حصانها، وهي إن فشلت هنا أو هناك، سوف تجد نجاحها ايضاً هنا وهناك لأنها مدرسة وطريقة ومذهب في هذه الصناعة المتلفزة الممتعة المرتبطة عميقاً بالطابع الوطني والمحلي وتجلياته الثقافية والتاريخية والمعرفية والفنية والترفيهية.
إن بقاء الدراما السورية ونجاحها كمساحة غرس للقيم والمبادئ واحتراماً لقيمة هذه الدراما وحفاظاً على مستواها، يفترض بصنّاعها التفكير في إنشاء محطات جديدة وطنية وعربية أو التعاون مع منصات عربية، تُعنى ببث الأعمال الدرامية وبذل الجهد المطلوب لتحقيق ذلك. إنّ بلاداً تصنع أعمالاً تشبهها لن تموت.
نجوى زيدان، كاتبة وصحافية عربية من لبنان
منشور في الأخبار، يوم الأربعاء 10 نيسان، أبريل 2019