عالم إفريقيا كما رآه حلمى شعراوى

عالم إفريقيا كما رآه حلمى شعراوى

الذاكرة الجماعيّة بين الالتزام الوطنيّ والانتماء الكونيّ : دراسة نقديّة لرواية “الزعتر الأخير”                                     
مصر تستضيف اللاجئين الأوكرانيين و”إسرائيل” تطردهم
إيران تفك الحصار النفطي الأميركي عن فنزويلا وتنعش النظام الدولي الإنتقالي

تكاد تكون سيرة حلمى شعراوى الذاتية التى يضعها بين أيدينا والتى أصدرتها دار العين اليوم نادرة من نوعها لأنها بحكم مسيرته هى الملف الذى أسقطته مصر من حساباتها حينما وضعت ٩٩٪ من أوراق مصيرنا فى يد الولايات المتحدة الأمريكية فى نهاية السبعينيات مع كامب ديفيد ولم تسترده ــ وأتحدث هنا عن إفريقيا ــ إلا مع العقد الثانى من الألفية الجديدة.

ثلث صفحات سيرة شعراوى أو أكثر هى عن هذه المسيرة التى بدأت فى ٥ شارع أحمد حشمت بالزمالك مقر ما كان يسمى وقتذاك بالرابطة الإفريقية، مقر حركات التحرر الإفريقية وأصبحت الآن الجمعية الإفريقية، والتى خرج من جنباتها زعماء ورؤساء تولوا رئاسة بلادهم، فى زمن عبدالناصر.

وإذا كانت سيرة شعراوى تجول فى حياته وتجاربه وبعضا من مشاعره، فإنها فى الحقيقة تؤرخ لجانب مهم من تاريخ مصر فى لحظة من لحظات إدراكها التاريخية لذاتها الإفريقية، ولروحها المتشابكة مع القارة منذ فجر تاريخ قطعه استعمار شرقى عثمانى، وغربى فرنسى إنجليزى، فانقطعت السبل بين طريق دارو فى صعيد مصر وتمبكتو فى مالى، وتاه المصريون أزمانا عن أفريقيانتهم.

المسألة الثانية فى هذه الرحلة أنها قد وفرت لصاحبها، ولتلاميذه من بعده والذى يحرص دائما على أن يرفدهم بخلاصة خبراته أقول وفرت معرفة بجذور القضايا الإفريقية الممتدة منذ ولادة دول الاستقلال الوطنى، وحتى وقتنا الراهن، وهى معرفة مقرونة بخبرات ميدانية وعلاقات شخصية عمقها صاحبها بقراءات ومتابعات، جعلت شعراوى يمتاز بنوع من الخبرات هى قليلة نسبيا فى مصر حاليا، وإن كانت قيد تشكل جديد لجيل جديد يتفاعل راهنا فى أطر جديدة سواء فى مؤتمرات الشباب التى تحرص مصر أن تكون بعضويتها حضور إفريقى لافت، أو منتديات وزارة الشباب خاصة المدرسة الإفريقية، وأخيرا ما يقدمه شعراوى نفسه فى إطار مركز البحوث العربية والإفريقية، وخاصة مجموعة أفريقانيون التى تلتئم شهريا لمناقشة القضايا الإفريقية، وتعد بدورها معملا جاذبا لتكوين الخبرات المصرية الجديدة فى المجال الإفريقى.

ولعلى فى هذا السياق لا أنس أن أشير إلى حرص الرجل الممتد على إقامة شبكات تفاعل مع العاملين بالدراسات الإفريقية فى كل أنحاء مصر حاليا، بل ويخصص جائزة سنوية للدراسات الشابة المتميزة فى هذا المجال.

أما المسألة الثالثة فهى ضرورة الإشادة بالاهتمام بالتوثيق فى هذه السيرة؛ والحرص على هيكلتها، وتقسيمها تقسيما مريحا للقارئ بشكل جاذب، بل أنه وفى إطار كل قسم خصوصا وأن عمل حلمى شعراوى فى رئاسة الجمهورية (١٩٦٠ــ ١٩٧٤)، قد أعطاه فرصه توثيق تفاعلاته مع كل المؤسسات المصرية المتداخلة مع السياسات المصرية فى إفريقيا مقدما مشاكلها فى الماضى، وتقييمه لها، وطبيعة علاقتها وتفاعلاتها فى هذا الزمن البعيد نسبيا، ولكنه وفى ذات الوقت لا يبخل علينا بتقديم رؤى للواقع المعاش فى مصر راهنا.

***
وفى هذا السياق يكشف شعراوى وثيقة هامة تشير إلى أن مصر عبدالناصر لم تترك التفاعل مع إفريقيا رهين تنسيقا غائبا أو آليات بيروقراطية تتصارع أحيانا كما نعرف، بل أنها قد صاغت سياستها وفق تخطيط مركزى منذ يناير١٩٥٦ صدر به قرارا جمهوريا، بتشكيل اللجنة العليا للشئون الإفريقية تابعة لرئاسة الجمهورية، وهى اللجنة التى صاغ منطلقاتها وآليات عملها عبدالمنعم القيسونى (1987ــ1916) وزير المالية والاقتصاد ثم التخطيط وقتذاك، حيث نشرت مجلة روز اليوسف خبر إنشاء اللجنة ومجالات عملها، إذن نجاح مصر فى فترة عبدالناصر فى إفريقيا يعود بالأساس إلى تكوين هذه اللجنة تابعة لرئاسة الجمهورية فيكون النظام قد نجا من تقاتل البيروقراطية فيما بينها أو تقاعسها، أو تفريغ السياسيات من مضمونها كما نشهد حاليا أحيانا.

المسألة الرابعة أن كاتب هذه السيرة بذل جهدا بحثيا منظما فى كتابتها فهو لم يعتمد على الذاكرة فقط، ولكنه أيضا حرص على الرجوع لكتابات ومراجع ووثائق عن هذا الفترة أنعش بها ذاكرته من ناحية، وأخرج سفرا مميزا من ناحية أخرى لم يركن فيه إلى تمجيد الذات كما فعل أقرانه فى سير ذاتية نعلم أن حجم الواقعى فيها قد يكون قليلا.
***
أما عن السيرة لمن لم يقرأها فتروى خطوة حلمى شعراوى الأولى فى هذه الرابطة الإفريقية التى كانت مصادفة عام ١٩٥٦ وقبل تخرجه من الجامعة بعام وذلك بصحبة صديقه الذى كان يقابل قريبه «عبدالعزيز إسحق» يصفه شعراوى بنصف الصعيدى باعتباره من محافظة المنيا القابعة فى مصر الوسطى.

وحينما يطلق حلمى شعراوى هذه الصفة على إسحق ينقل لنا تقدير مصرى ممتد تاريخيا للهويات الثانوية فى مصر، وهو أمر يكرره كثيرا فى سيرته الذاتية، فربما هنا يقوم بهوايته فى الاهتمام بالأنثروبولوجيا التى طرق بعض أبوابها فى صدر شبابه من بوابة الفلكلور وهو الرجل خريج قسم الاجتماع كلية آداب القاهرة عام ١٩٥٨.

رحلة شعراوى فى رحاب الرابطة الإفريقية، جعلته يلتقى بأفارقة رموز فى بلدانهم أو مجتمعاتهم المحلية، وأيضا بدبلوماسيين مصريين عاملين فى سفاراتنا بإفريقيا فيصف لنا كيف كان لهؤلاء إدراكا ووعيا بأهمية أدوارهم متجاوزين مسألة مهام الوظيفة إلى رحاب المسئولية الوطنية، كما يعدد أسماء هؤلاء الأكاديميين المعنيين بتدشين معهد البحوث والدراسات الإفريقية، كما عدد بعد ذلك أسماء وممثلى حركات التحرر الوطنى فى القاهرة بجدول لم ينس فيه أحد رغم أنه قد كتب سيرته ما بين٢٠١٦ــ ٢٠١٨ أى بعد خمسين عاما تقريبا من الحدث.

ولعل إشارة شعراوى إلى مجلة نهضة إفريقيا التى كانت صادرة عن الرابطة الإفريقية، مهمة من زاوية اهتمام الرابطة بإتاحة الفرصة لتلاقى الذهنيات الإفريقية على صفحات المجلة سواء كانت مصرية أم من ربوع القارة، وذلك فى جدل مهم حول تجليات القارة الثقافية بتنوعاتها من ناحية، وقضاياها المصيرية من ناحية أخرى، وهى تجربة تبدو لنا درسا مهما وصالحة للتكرار متى توافرت إرادة سياسية فى الجمعية الإفريقية الراهنة، أو القائمين على تفعيل أدوات غير رسمية للاهتمام بالقارة الإفريقية.

ويمكن القول أن مؤتمر الشعوب الأفرو أسيوية كان نقطة فارقة فى مسيرة شعراوى حتى أن تاريخ انعقادها لا يفارق ذاكرته فى 31 ديسمبر ١٩٥٧، ففى هذا المؤتمر قابل زعماء حركات التحرر الوطنى الإفريقى وامتدت صداقته بهم، كما أنه قد انبثق عن هذا المؤتمر قرار لعبدالناصر بتشكيل سكرتارية الشعوب الأفرو آسيوية فى ربيع ١٩٥٨ برئاسة يوسف السباعى (١٩١٧ــ ١٩٧٨)، وهو الرجل الذى تولى حقيبة الثقافة المصرية فيما بعد.

***
وإلى جانب الرابطة الإفريقية كان هناك بيت شرق إفريقيا وهو درس ثان لنا هذه الأيام وهو البيت الذى رعى فيه شعراوى قيادات سياسية واجتماعية من إرتيريا والصومال وغيرهما؛ وكانت مخرجات هذه الفترة على المستوى التوثيقى، مجموعة من الأوراق عبارة عن محاضر لقاءاته برموز حركة التحرر الإرتيرى عام ١٩٥٨ ولكنه تخلص منها للأسف فى فترة لم يذكرها، وسرعان ما كفر عن ذنبه الكبير هذا فى حق المؤرخين، وذلك بتسجيل ١٣ شريطا مسجلا مع ١٣ قيادة إرتيرية تم نشر مستخلصاتها فى دراسة بمجلة السياسية الدولية ١٩٧٧وكتابه «إفريقيا قضايا التحرر والتنمية».

رحلة شعراوى فى بيت شرق إفريقيا استمرت قرابة العامين، حتى صدر قرار تعيينه عام ١٩٦٠ باحثا فى الشئون الإفريقية برئاسة الجمهورية المصرية، وبهذه الصفة بدأ شعراوى تعميق صلاته بعالم مصر الإفريقى وتعمقت قدراته فيما يتعلق بتقدير المواقف بشأن المجريات السياسية هنا أو هناك التى وإن كنت أوافق على أكثرها إلا أن تقييمه لدور صلاح سالم فى السودان اختلف عليه فقد وقع شعراوى فى التقييم العام الذى يسود مصر عن أن سالم مسئول عن انفصال السودان بينما هو كان مجرد كبش فداء للفشل المصرى الناتج عن تطلعات النخب السودانية نحو الاستقلال عن كل من مصر وبريطانيا أكثر منه فشل لصلاح سالم عضو مجلس الثورة المصرى.

لعب أصدقاء شعراوى أدوارا مفصلية فى مسيرته فكما كان صديقه فتحى صالح يذهب لمقابلة قريبه فى الرابطة الإفريقية عبدالعزيز إسحق فيدلف شعراوى إلى طرق باب الاهتمام بإفريقيا إلى أن يكون من رموز العاملين فى شئونها بمصر، فإن صديقه الآخر عبدالحميد حواس يذهب إلى مركز شرباص دمياط وتلعب والدته الدور الأهم فى زواجه من السيدة الجليلة توحيدة توفيق هذه السيدة العظيمة التى وقفت إلى جانب شعراوى محتملة مسيرة صعبة لرجل عنيد تأثرت تركيبته الوجدانية فى رأيى بكونه كان قريبا يوما من سلطة كاريزمية، لعبدالناصر ومحمد فايق كل بطريقته، ولكنه حافظ دوما على روح متسامحة وخلق نبيل جعلته أخا وصديقا للجميع، فقد وضعنا نحن تلامذته ومريديه فى زمرة أولاده الدكاترة أيمن ومى اللذين ورثا قبسا من ضياء روح والديهما النبيلين، وورثا أكثر عن شعراوى ربما انحيازه لضعفاء المصريين من الفقراء، فأعطوا ولا يزالون الكثير فى مجال العمل الأهلى.

أماني الطويل، خبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ـ القاهرة
المقال منشور على صفحة Amani El Tawil في موقع فايسبوك، يوم الجمعة 17 مايو/أيار، 2019 
المقال منشور في جريدة الشروق المصرية، الخميس 16 مايو/ أيار، 2019

Please follow and like us: