لطالما كانت فلسطين أمُّ الجراح العربيّة، جرحاً نازفاً في خاصرة العرب منذ سبعين سنة، وكلّما أراد القطُّ الغربيُّ مداعبة الفأر العربيّ الصريع: لا يقتله فتنتهي اللعبة، بل يبقيه في العناية المركّزة في أروقة معاهداته وتحت وقع اتفاقيّاته، ليكون الوصيّ الحريص على قضم أرضه وارتشاف نفطه، وتدمير تراثه، ليظلّ منتشياً بلعبة القطِّ، التي لن تنتهي قبل أن ينضب معين العرب من الذهب الأسود المدفون في باطن أرضٍ فشل أصحابه في ردّ الطامعين. وها هو الشرق منبع الحضارة القديمة يصبح ببساطة مدفناً لأبنائه ومحرقة لشهدائه وأحراره وشاهداً على حضارة تندثر إلى غير رجعة.
فهل يخرس الأدب أمام هذه الأهوال؟ أم يتحرّك ليقصّ صورة الشقاء المتنقّل الذي شرّد كثيرين، وغرّب أجيالاً مازالت ترزح تحت وطأة النزوح والضياع؟؟ وهل على الأديب أن يتناسى مرارة الواقع فينام على وسادة الأحلام الورديّة، وينسى مهمّته الأساسيّة وهي أن يكون لسان حال الإنسان ومعاناته، وماذا يقول لأولاد الوطن؟ هل يستسلم ويسلّمهم وطناً وهميّاً بلا أرض ولا ماء ولا سماء؟ إلى وطنٍ شبحٍ بلا هويّةٍ؟
لا غرابة أن يطلع من رحم المعاناة أديب وفيّ يعزّ عليه أن يسكت عن الظلم وينضمّ إلى موكب الأدباء الملتزمين، من أدباء المقاومة الفلسطينيّة، إنه مروان عبد العال في روايته" الزعتر الأخير" الذي وثّق بغنائيّة عالية مراحل محو الهويّة الفلسطينيّة، وتأبّط الذاكرة الجماعيّة والتزم قضيّة وطن سليب، ما زال يبحث عن بصمة بعدما أحرقت أصابع المقاومين وجرفت جثثهم جرّافات التعتيم الإعلاميّ لترمي بهم في جوف حوت التاريخ الأبكم.
الالتزام الوطني وفنّيّة الرواية
احتضن عبد العال في روايته الوقائع التاريخيّة، ليصوّر همجيّة رافقت الإنسان بدءاً من معركة قابيل الشرّ أمام هابيل الخير، مركّزاً على تاريخ الكائن العربيّ الذي يتجرّع كؤوس السمّ، فيقصّ لنا حكاية وجع العربيّ في مأساة استمرّت منذ ألقت الحرب العالميّة الثانية أوزارها وجلبت من الغرب ما جرفته آلتهم الحربيّة من شرور، والرواية على نفحتها الفلسفيّة ولمستها الشعريّة هي وثيقة تاريخيّة واجتماعيّة تصف النكبات التي حلّت بالفلسطينيّين، عبر لوحات وحشيّة واقعيّة من مجازر وتهجير وقتل وسلب وحروب وظلم وقهرٌ، في تأطير أسطوريّ لمنمنمات فسيفسائيّة تعرّض لها الفلسطينيّ منذ تهجيره واقتلاعه من جذوره، لذلك تحكم القبضة الروائيّة بشخصيّاتها المعانية الشاردة في أنحاء المعمورة، كما تيس الماعز في البراري- الذي شاء الكاتب تسميته زعتر- فكلّ الوطن زعتر: النبت والحيوان والإنسان في وحدةٍ متآلفةٍ تنتجها أرض الزعتر" فلسطين". تعاني معارك الشرّ النشط التي لا تنتهي، مع الخير الساكن: عارضاً صورة التناقض بين شرٍّ غربيٍّ فاعل مقابلَ خيرٍ ساكنٍ ومنفعل، يتلقّى الضربة تلو الأخرى وكأنّه عاجزٌ عن دفعها بلغةٍ لا تخلو من الشاعريّة خطّ العرب نتفاً من ذكريات متناثرة خبّأها الزمان من نكبة ١٩٤٨ إلى نكسة ١٩٧٦، إلى الحرب في الأردن إلى تل الزعتر في الحرب الأهليّة ١٩٧٥، لتتوالى التسميات المهينة التي لحقت بالفلسطينيّ باحثاً في سراديب الذاكرة عن هويّةٍ مشرّدة في الشتات، بعدما كان جزءاً من زعتر الأرض وزعتر الماشية وزعتر المكان حينما كانت ثقافة الرعي هي السائدة.
بداية الرواية عمائيّة تذكّرنا بأساطير الخلق حينما هبط آدم الأرض وزوجه، فوجد نفسه جزءاً من الطبيعة الوحشيّة مصدر الخير والعطاء ومصدر الشرّ والشقاء، يقول:" تقتحمني اللحظات الوحشيّة" (ص٤١) فندخل معه زمن الرعي حين قاد حيواناته الأليفة، ليسوسها إلى حيثما تشتهي، ويتماهى معها فيتناسى هموم الكون. مع هذه البداية الهادئة تقمّص الكاتب شخصية الراعي الذي يعيش براحة نسبيّة وفقر شديد، ليكتب أرشيف طفلٍ عايش الهجرة القسريّة، ويسجّل هدأة الأمان الظاهر، مدوّناً لحظات سرديّة استرجاعيّة بعدما لفظه القدر على ضفاف بلدٍ شقيق، ليعاني أزمة فقدان الجذور، يقول:" أيّا الزعتر لا يوجد شقاء أخير، فأنت في تجربة مستمرّة لاكتشاف قدرتك على التحمّل"(ص٤١).
والكاتب مع التزامه الوطنيّ بدا وكأنّه لم يهتمّ ببنية الرواية المعهودة من تكوين شخصيّات أساسيّة وأخرى ثانويّة والعمل على تصعيد المشاهد إلّا لماماً، بل عمد إلى تقسيمها إلى هيولى شخصيّات حالمة وأخرى معتدية متوكّئاً على نفحة شعريّة لإشعال النصّ عاطفيّاً، وعلى الوقفات الفلسفيّة لإشعاله فكريّاً، في بنية روائيّة مسطّحة، ركّزت على استعطاف القارئ وتوجيه انتباهه نحو النزاع التاريخيّ بين الخير والشرّ الذي خفت ومع التقدّم في الرواية لترسو أخيراً على شبه استسلام مبطّنٍ بشيءٍ من رفضٍ مقنّع وثورة مكبوتة، في شرقٍ واهٍ كان يحكمه انتدابٌ غربيٌ وضع الأسس لمستقبلٍ يضمن مصالحه، التي وجدها في تسليم فلسطين إلى أغراب اتّبعوا استراتيجيّة والترويع لتشريد شعبها في أطراف المعمورة.
فسيفساء الذاكرة
بعد أن هجرته الأمكنة واقتلع البطل من أرضه، تمسّك الكاتب بما شعّ من فسيفساء الذاكرة ليكون صاعقاً فجّر حلم العودة واستنجد بذاكرة الجماعة لتكون الخرطوشة الأخيرة في معركة تحقيق الحلم في ظلّ تشرّدٍ عانى منه الأمرّين، وحضور مهدّد بالامّحاء والذوبان في مجتمعاتٍ جديدة بحثاً عن لقمة العيش وأملاً في تأمين مستقبل للأجيال القادمة مبنيٍّ على أرض الواقع وإن كان جافّاً، لا في فيافي الأحلام، وإن كانت جناناً. لذلك بدت هذه الذاكرة وكأنّها صرخة رفضٍ ضدّ خطر الذوبان والغربة الداهمة، "فعندما تكون ذاكرتك حصينة لا تشعر بالغربة"(ص٩٩) فهل الذاكرة نعمة أم نقمة؟
يبدو أنّ عبد العال فضّل أن يكون لسان الفلسطينيين قبل أن يصابوا بذاكرتهم الجماعيّة، فراح في روايته يستنطق لحظات ثمينة محفوظة في ردهات الذاكرة، ويتقمّص رجالات الأمس من الجرحى والقتلى جرّاء الاحتلال الإسرائيلي، يصوّر بمرارة أبطال الماضي من الأطفال الذين أحرقوا وشوّهوا ورميت أجسادهم بين الجثث، ليرسم مسارات النزوح الفلسطيني إبّان النكبة، مسطّراً حال السكّان وأغلبهم من الفلّاحين والرعاة المعتمدين على أرضهم وطبيعة بلادهم المعطاء لتكون باب رزقهم، فيؤرّخ لبطولات ويسجّل مدوّنات من النكسات المتتالية كادت تدخل طيّ النسيان، قائلاً: "عدت لأحفر في التاريخ لا لكي أدفنه"(ص٤٢) ويستعين بذلك بذاكرة الجماعة قبل أن ترحل إلى غير رجعة، على أمل أن يتبيّن من خلال تسجيلاته لذاكرة فلسطين الخيط الأبيض من الأسود، فيظهر الحليف من العدوّ، فهل ينبت من الزعتر الأخير زعترٌ آخر؟ ومتى يستفيق العرب من هول الصفعات التي يتلقّاها من الغرب ويتخلّص من وطء هيمنته؟؟وهو يعرف جيّداً أنّ البكاء على أطلال وطن ليس هدفاً وضعه عندما خطّ زعتره الأخير، ولن تكون بالتالي روايته حائط مبكى يتلطّى عليه الفلسطينيّ ليندب وطنه عندما يفرغ من أعماله ويحاول أن يتلمّس وجوده، على مثل قول المجنون في ليلاه: (على الطويل)
نهاري نهارُ الناسِ حتّى إذا بدا ليَ الليلُ هزّتني إليكِ المضاجعُ
فأيُّ مضجعٍ يبحث عنه؟ وقد سكن وطنه الأغراب، وهل يبكي وطناً غاب؟ أم أنه يحاول إقامة الحدّ بين فاقد وطنٍ ومغتصب ٍ، رافضاً الذوبان في المحيط بعد أن فقد صلته بالأديم الجبليّ أو السهليّ، بنبته وحيوانه وناسه، وعاش كابوس اللاإنتماء المخيف، لذلك ركب قطار الذاكرة وأقلع بالقلم صوب تخوم وطنٍ، أو هيولى وطن، مسترجعاً تاريخاً لم يزل حيّاً في بطون الذاكرة، أملاً في استعادة الموروث جسداً وأرضاً وتاريخاً، ودفاعاً عن كينونة الهوية الفلسطينيّة وديمومتها، مثبتاً حقّه بالإقامة على أرضه والعودة إلى دياره.
فلسطين هي نقطة الارتكاز الوائيّة مع تلميع صورة الأنا على التفاعل مع ماضيها عبر لملمة شتات الذاكرة، ورفض سلطة الواقع والحلم المحروق بالعودة. إنّها الذاكرة في محاولة للملمة شتاتها وبناء مشاهد من فيلم العودة المنتظر، مثلما يعتمد الطبيب النفسيّ في علاجه على أسلوب التداعي الحرّ للذكريات المطمورة بعناية، فيساعد بأسئلته المركّزة على أن تطفو من جديد فيتحرّر المريض من وطأتها، كذلك استقرأ عبد العال الذاكرة الجماعيّة ليحرّر قومه ويساعدهم على تزفيت حلم العودة ورسم خارطته عبر استقراء الذاكرة المعتمة المشوّهة والمشوّشة جرّاء التشرّد. وعدوّه في ذلك اثنان: الزمن والغرب، الأوّل خفيٌّ لا يأبه لتشرّده وضياعه ولا يفقه عذابه، والعدو الثاني هو الغرب الذي مهّد لهذا الظلم وغضّ الطرف عن جرائم النزوح العنصريّ والإقليميّ، وسلّم الصهاينة أرضاً غالية تكفيراً عن ذنوبٍ ارتكبها، وأسّس للوباء القاتل الذي استوطن أرض العرب ليحقّق أحلامه بأرض الميعاد ويسلخ أحلام أهلها بالأمان. لقد استعاض الكاتب عن تلوين روايته بشخصيّات كثيرة بتلوينه باللامتوقّع من الأسئلة الشاعريّة لدفع النص نحو واجهة الاهتمام التاريخيّ، يقول:" ماذا يفعل عاشقٌ شريد مثلي بهذا الخيال"؟ (ص١٥٥) ويبحث عن مرفإ لصحراء الذاكرة المتعبة ويتساءل:" كيف تستريح ذاكرتي؟"(ص١٦٣) مستنطقاً الأيّام الدامية، رافضاً أن يتلطّى خلف قلقلة النسيان مع أنّ " في النسيان حرّيّة" (ص٣٨) ويتشبّث بمظاهر وطنه القديمة: الطاحونة والبئر ومعصرة العنب والزيتون، رافضاً الوقوع بين براثن عالم من الخداع يحتقر طيبة البادية (ص٦٧) أو أن تبتلعه "ثقوب المدن الكبيرة"(ص ٦٧) ومستعمراتها بإنسانيّتها المشوّهة، بعدما أضاع تراب وطنه وحجارته، (ص١٩٢) ويستذكر لحظات توحّد الإنسان مع الطبيعة وعناصرها ليرقص مع التيس "زعتر" رقصة ثنائيّة دائريّة درويشيّة تجسّد حميميّة العلاقة التي تخلّى عنها عند تخلّيه عن رباطه بالطبيعة وارتدائه إنسانيّة مشوّهة تتكبّر عليها وتحتقرها. لذلك راح يحتضنها بمحبّة: "أحضنك يا صديقي الماعز لأشعر بدفء جسدك"(ص٧٤) وكأن الوطن الحلم يحتضن جميع أنواع الزعتر فهو الأم والأب للجميع. فالذاكرة الجماعيّة في "الزعتر الأخير" لم تستعد فقط ما حصل منذ خمسٍ وسبعينَ سنةً بل استرجعت" غيبوبة مزدحمة بالذكريات"(ص٩٠) في فيلم وثائقيّ يدور باستمرار إلى الوراء ليسترجع موقعنا على الأرض.
الانتماء الكونيّ
وإذا كان لكلّ كتابة أدبيّة أصيلة بعدٌ فلسفيٌ، فإنّ بعد" الزعتر الأخير" الفلسفيّ طقسيٌّ يدفع النص إلى بعده التاريخيّ في وضعٍ احتمائيّ عبر الولادات الروحيّة، إنّه انتشاء الذاكرة تتجدّد باستمرار بضوضاء النشيد الكونيّ، فقد أعلى الكاتب من ثقافة الرعي التي تحتقرها المجتمعات الحديثة وجمّل حياة البدويّ و حين كان يسكن بيوت الشعر متنقّلاً معها، بحثاً عن أرضِ رعيٍ جديدة، ويصغي إلى حيواناته ويرضخ لمتطلّباتها ليبني حياته على هذا الأساس التلاحميّ معها ليفجأ وهو أعزل تقريباً إلّا من سلاح فرديّ يردع الذئاب ويصدّ شرّها، بتنظيمات من مخلّفات الحرب العالميّة الثانية وكأنّ العالم كان ما زال مهيّئاً لمزيدٍ من المجازر تحسم الأمور تنفيذاً لمعاهدات واتفاقيّات جرت وفق أهواء المنتصرين ومصالح هم ولم تراعِ حقوقاً أو تحفظ مقدّسات. فمُحي الزعتر الأصيل في فلسطين، واختفت أيضاً العلاقة الوطيدة مع الطبيعة بعناصرها الوحشيّة، ليصوّر الإنسان وقد قفز في قرنٍ تاركاً قديمه ومتشبّثاً بجديد غريبٍ غير آمن، ليغرف من أرضٍ محدودة القدرات ويستنزفها عن غير وعيٍ، ويجرف معه حقّ الأجيال القادمة في التمتّع بحقوقٍ سُلبت في غفلةٍ منها.
وكأنّنا في حضرة هذه الرواية في غمرة استرجاع لكينونة الإنسان الذي تناسى أصله، أو قل في حفل استرجاعٍ للانتماء الكونيّ، فجاءت لتطارد ذاكرتنا المطموسة، ولم تتوقّف عند الاسترجاع الذاكريّ القريب، بل للتذكير بالماضي الإنسانيّ المشرّد حديثاً في أصقاع متطلّبات حضاريّة باستطاعتنا ببساطة التخلّي عن معظمها، فالكماليّات قد تحوّلت إلى ضروريّات وبتنا أسرى لمتطلّبات مستحدثة تكبّلنا أكثر ممّا تحرّرنا، وتحجزنا أكثر ممّا تطلق سراحنا وتبهجنا، وطمرت الحقيقة عن أعيننا ونسي ابن آدم أصله من أديم الأرض واحتقر حيوانات سخّرها الخالق لخدمته، وراح يطالب بالأخذ متناسياً العطاء.
لقد وظّف عبد العال روايته لخدمة إيقاعين: إيقاعٌ وطنيّ وآخر إنسانيّ كونيّ، في خشونة قد تصدم القارئ فتهزّه من سباته، ليتنبّه إلى حميميّة العلاقة المنسيّة مع الطبيعة وكائناتها، وكأنّ الكاتب في رحلة استعادة حلم العودة، قد حمله يراعه إلى العودة إلى زمن البراءة الأولى، زمن العماء. فلماذا التركيز عليه وقد استحوذ القسم الأكبر من " الزعتر الأخير"؟ أهو لتذكير حضارة الغرب بالماضي وأخذ العبرة؟ أم هو رسالة شرقيّة موجّهة للغرب الصاعد والمنهمك بحماسه لاحتواء العالم؟ أم أنّ عبد العال أراد أن يرشق الجميع بكمشة زعتر لعلّ عطرها الأخّاذ يدفعهم إلى الاستيقاظ ورؤية الأمور من منظورٍ غير نفعيّ، فما من حضارة سادت إلّا بادت، ولن تبقى سيادة الكون بيد شعبٍ واحد، وسرعان ما يختطف المشعل شعبٌ آخر وفق المفهوم الخلدونيّ، وعلى أمل ألّا يكون الزعتر الأخير الصرخة الأخيرة قبل أن يضيع الأمل في تحقيق حلم العودة ويتبخّر وتتغبّش صورته وتصبح ملحمة الزعتر طيف ذكرى يلفّها الضباب.
هلا الحلبي، أستاذة مادة الاسلوبية الشعرية وتجويد المقال ـ الجامعة اللبنانية
ــــــــــــــــــــــــــــ
المحرر : العنوان الأصلي للدراسة هو :
فسيفساء الذاكرة الجماعيّة بين الالتزام الوطنيّ والانتماء الكونيّ
دراسة نقديّة لرواية "الزعتر الأخير" لمروان عبد العال