كان قضائى بضعة أسابيع فى إحدى المستشفيات بالقاهرة ، فرصة لاسترجاع ذكريات قديمة نسبيا عن أول زياراتى للقارة فى مطلع الستينات .
كانت أول الملاحظات هى اشتراك النظام الاستعمارى والاستيطانى فى فرض نظام للحياة الاجتماعية يبقى على درجة التخلف والتبعية، وهو ما نجح فى تحقيق الغرض فعلا إلى ما بعد الحرب الثانية تقريبا . كان ذلك ضروريا بالنسبة لهم لإبقاء القوى البشرية المنتجة فى وضع تعمل فيه بهمة لزراعة المحاصيل المطلوبة لتغذية الأسواق والصناعات الأوربية فترة نهوض هذه الفضاءات ( القرن 17-18 ) ، وهو ما يعتبره بعض المفكرين الأفارقة مثل سمير أمين، وآرشى ما فيجى بداية أولية لضروب العولمة.
كان النظام الصحى الاستعمارى والاستيطانى يقوم على رعاية التبشير، بإقامة وحدات صغيرة ومتباعدة لا تعنى أكثر من "عِشة " تسمى " شاليه " يقيم فيها رجل الدين ، وتمتد لاقامة وحدة صحية متواضعة بها مساعد طبيب، وإلى ورشة أخشاب، وتقوم على عزله بين المحليات وخاصة فى النظم الاستيطانية التى ينفرد فيها المستوطنون بالتطور المنفصل (جنوب إفريقيا) الذى جعل البانتوستان تستمر حتى الآن رغم الاعلانات السياسية. وكان ذلك يكفل استمرار النظام واستقرار المصالح .
فى عصر الاستقلال الصورى أو الوطنى بدأت الطبقة الوسطى فى اعلاناتها السياسية تقيم أنماطا من الحياة الاجتماعية فى ظل ما سمى بأعمال التحديث؛ ومنها انتشار المدارس، وإقامة المستشفيات فى جو لا يتسم بالتحديث أو الرعاية الصحية الحقيقية. وكان نظام الحزب الواحد وسيطرة الزعامات الحديثة يكفل ضمان استمرار هذه الانماط ليعض الوقت. وانتقلت المظاهر الحديثة إلى العواصم بضمان سياسة القطاع العام، وادعاء الرعاية المجانية الشاملة. ومع انتشار هذا الأسلوب انتشرت أوبئة حديثة قضت على الملايين بسبب "الإيدز " فى جنوب إفريقيا والكونغو وسيراليون وليبيريا، وكذلك السل والإيبولا، ولم يسأل أحد نفسه عن غياب دور "القطاع " العام رغم القروض ومعونات البنك الدولى …الخ
ومرت القارة من السبعينات حتى الآن تقريبا بأسوأ أشكال الانهيار الصحى على أوسع نطاق فى هذا الوقت كانت سياسة السوق الحرة والانفتاح والتطور السريع للطبقة الجديدة بتطلعاتها التجارية الطموحة ، قد سيطرت على الموقف الاقتصادى بل والسياسى وعادت لتعزل القطاع الصحى الخاص، ليصبح من أكبر مجالات الاستثمار والملكية الخاصة، بل وأصبح الفقراء فى جانب فى قطاع مهمل والقادرون فى أعلى اشكال العلاج الصحى والاستثمار والتأمين، نجده فى جنوب إفريقيا التى تحرز أكبر تقدم فى العلاج الصحى الخاص، كما وجدت مستشفيات هائلة التكلفة .
ولولا نظام التأمينات والمعاشات ما كان مثلى فى مستشفى متميز مثلما كنت لعدة أسابيع.
حلمي شعراوي، مفكر ومناضل عربي من مصر، باحث في الاجتماع السياسي، مدير مركز البحوث العربية والإفريقية السابق في القاهرة.
منشور على صفحة مجموعة أفريقانيون على موقع فايسبوك يوم 29 حزيران/ يونيو 2019