بعد “قمة جدة” : العالم يتغير فما مصير العربي الرمادي؟

بعد “قمة جدة” : العالم يتغير فما مصير العربي الرمادي؟

“معركة بين حربين” في الجولان : صواريخ محور المقاومة تصلي مجمعات عسكرية “إسرائيلية”
غارة أمريكية على مطار الشعيرات : يريدها “الوكلاء” فاتحة حرب، وترامب “بيزنس مان” يحمل مسدساً؟
قمة جدة 2023 : “النظام الرجعي في قطر” غافل عن “عالم فوكا”!

انطلق التسويق الأميركي بسقف عالٍ لـ”قمة جدة للأمن والتنمية” (16 تموز/ يوليو 022). وضعت إدارة الرئيس جو بايدن على جدول أعمال “القمة” بند إعادة بناء هيكل “الشرق الأوسط” الذي سـ”تدمج إسرائيل فيه”. قالت أيضاً إنها تريد أن ينتهي الإجتماع العربي ـ الأميركي في الرياض، إلى إنشاء حلف عربي ـ “إسرائيلي” برعاية الولايات المتحدة، يشبه “حلف شمال الأطلسي”.

كما تحدثت واشنطن عن بنود عملية سوف تُقِرُّها “القمة” مثل إنشاء “الشبكة العربية ـ “الإسرائيلية” للدفاع الصاروخي المشترك، ضد إيران وسوريا واليمن ولبنان وسائر محور المقاومة في المشرق العربي. ودخول الدول العربية في حرب العقوبات الأطلسية على روسيا، بما في ذلك زيادة إنتاج النفط العربي من دول “التعاون الخليجي”، وتحديداً من السعودية.

كان “السقف العالي” الأميركي في “قمة جدة للأمن والتنمية”، مهدداً بالفشل المحتم. لأن التخطيط الإستراتيجي في واشنطن حدد أهدافاً لـ”القمة”، تنافي حقائق الوضع العالمي الجديد. وقد صدف أن بعضاً منها، قد ورد في محاضرة كان طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق، مجرم الحرب في العراق، يقدمها في نفس اليوم، بطلب من مؤسسة “ديتشلي” البريطانية ـ الأميركية. ومن هذه “الحقائق”، حسبما قال بلير :

ـ إن “أكبر التغيرات الجيوسياسية في هذا القرن ستثيرها الصين وليس روسيا”.

ـ “نقترب من نهاية الهيمنة الغربية في السياسة والاقتصاد، وسيصبح العالم على الأقل ثنائي القطب أو ربما متعدد الأقطاب”.

ـ “لأول مرة في التاريخ الحديث يمكن للشرق أن يكون على قدم المساواة مع الغرب”.

ـ إن الصين “هي ثاني قوة عظمى في العالم وإمكاناتها الاقتصادية ودرجة مشاركتها في الاقتصاد العالمي أعلى من روسيا”.

ـ إن “الصين قد لحقت بالولايات المتحدة في العديد من المجالات التكنولوجية وتهدد بالتغلب على الولايات المتحدة في بعضها”.

ـ أن “القيادة الصينية تتصرف بعدوانية أكثر فأكثر ولا تخفي أنها تتعامل مع الغرب بازدراء وتتقرب من روسيا وترغب في حل مشكلة تايوان أخيرا”.

ـ “لا تسيئوا فهمي، أنا لا أقول إن الصين ستحاول الاستيلاء على تايوان بالقوة في أي وقت قريب، ومع ذلك لم يعد بإمكاننا بناء سياستنا على اليقين بأنها لن تحاول”.

ـ أن “روسيا وربما إيران ستصبح بالتأكيد حليفا للصين في المستقبل القريب”.

ـ الخلافات في مواقف دول مجموعة العشرين بشأن الملف الأوكراني هي “تحذير للغرب”.

ـ يجب [على الغرب] بناء علاقات مع الصين على أساس مبدأ “القوة بالإضافة إلى المشاركة”.

ـ “على الغرب زيادة الإنفاق العسكري والبقاء قويا بما يكفي لمقاومة الصين في أي سيناريو مستقبلي، مع الحفاظ على العلاقات مع بكين والتصرف بطريقة براغماتية وليس بعدوانية وإظهار الاستعداد للاحترام المتبادل”.

كان وَقْعُ هذه “الحقائق” على طاولة “قمة جدة للأمن والتنمية” واضحاً. فقد رأينا الأميركيين الذين بلعوا كل كبريائهم الإمبريالي، وهم يجلسون “جو النعسان” إلى طاولة “المنبوذ” ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. سكتوا على كل الصور المهينة لرئيسهم العجوز التي ملأت الصحف شرقاً وغرباً.

كانت صور اللقاء السعودي ـ الأميركي على هامش “القمة” مهينة في الشكل، حيث ظهر المضيف بن سلمان شاباً مستقوياً على ضيفه العجوز بالقبضة ثم بمد الكف الذي ارشد بايدن الى طريقه. كما كانت مهينة في المضمون أيضا. بعد أن وقف بن سلمان أمام “الرجل الأبيض” وأعوانه وصحافته يطعن بـ ـ ما يسمى ـ “القيم الأميركية”.

ولما حاول الأميركيون، إدارة وإعلاماً، التنمر على الأمير السعودي لم يتغاضَ عنهم، وانبرى على رئيسهم، يذكره بجرائم جيش الإحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان، خصوصاً جرائمه في سجن أبو غريب. أما عن مقتل الصحافي “الإخواني” جمال خاشقي، فأكد بن سلمان على مسمع بايدن ومرافقيه، ما كان قد صرح به قبلاً، بأن القضاء السعودي أقفل هذا الملف بإصدار أحكام على المتهمين من بعد التحقيق والمحاكمة.

لقد تخلت إدارة بايدن في ختام “القمة” عن “السقف العالي” الذي انطلقت منه، تشهد على ذلك، تصريحات السعودية بلسان وزير الخارجية فيصل بن فرحان عن موت مشروع “الناتو العربي”. ونفي مصر بأصوات أرفع المسؤولين فيها، مزاعم واشنطن والنظام الصهيوني في تل أبيب عن مشاركة القاهرة في تحالف عسكري إقليمي ضد إيران.

هذا التخلي، جعل الأميركيين يصفقون لإعلان الرياض “فتح الأجواء أمام الطائرات المدنية”، بما يشمل، ضمناً، رحلات طائرات العدو “الإسرائيلي”. وكذلك لقرار بن سلمان رفع الإنتاج النفطي للسعودية إلى 13 مليون برميل يومياً. لكن ما أن انفضت “القمة” حتى بدا وكأن الأميركي قد خُدع. فقد صدرت تصريحات سعودية عن تمسك المملكة بخطط منظمة “أوبك +” فيما خص كميات الإنتاح.

بالتأكيد، كان الأميركيون يعلمون بذلك. لكنهم لاذوا بالصمت. فهم على دراية بأن الزيادة السعودية في إنتاج النفط الخام، لن تهدد موقف روسيا في سوق النفط العالمي. لأن السعوديين يستوردون كميات كبيرة منه ومن المشتقات النفطية من روسيا لتلبية حاجاتهم الداخلية ودعم قدراتهم التصديرية. كذلك، لم ينسَ الأميركيون أن الرياض عندما عرضت بيع 5 % من أسهم شركة أرامكو في العام الفائت، لم يطرح المستثمرون الغربيون أسعاراً عادلة لشرائها وحاولوا ابتزاز الرياض. ما أعطى الصين فرصة والسعودية مبرراً، لتنجزا صفقة مفيدة لكلتيهما.

لقد صمتت واشنطن لأنها تعجز عن تغيير هذه “الحقائق”. ولذلك، أتى ختام “قمة جدة للأمن والتنمية”، كتسليمٌ، مواربٌ، بانتقال النظام الدولي إلى مرحلة التعددية القطبية، على أنقاض مرحلة الأحادية القطبية. هذا الملمح الغامض أثناء “القمة”، كان يتراءى عبره أفول القطب الأميركي الذي هيمن على هذا النظام في ربع القرن الأخير، ما بين انهيار الإتحاد السوفياتي (1991) إلى انسحاب جيش الإحتلال الأميركي من العراق (2013).

هذا الهزال أفرغ حقيبة بايدن من أي مغانم مادية أو سياسية هامة يحملها إلى واشنطن. وبذلك كشفت “قمة جدة للأمن والتنمية” أن “ليس باليد (الأميركية) حيلة (حاسمة)”، بفعل قواعد الردع الإقليمي التي فرضها محور المقاومة على “إسرائيل”.

لكن الفشل الأميركي في “القمة”، أظهر أن الدول العربية المشاركة في “قمة جدة” ما تزال تتخذ موقفاً رمادياً بإزاء “الحقائق الجديدة” في الوضع الدولي. إذ تعشش في أذهان بعض الساسة العرب ومستشاريهم أوهام توفير “الأمن والتنمية” بالإعتماد على “الحليف الأميركي ـ الإسرائيلي”، وهو ما يتنافى مع حقائق الوضع العالمي الجديد.

هؤلاء بأوهامهم وضعوا انفسهم في مأزق. أو أنهم يجرّون أنفسهم إلى مأزق. لأن الأصل في تخطيط “التنمية والأمن” هو حصول دول “قمة جدة” على مقومات “التنمية والامن”، على قدم المساواة وبالتبادل مع إيران وسوريا وقوى محور المقاومة، التي لا بد أن تحصل على المقومات ذاتها.

سيبقى الموقف العربي ضعيفاً طالما أنه مبني على السياسة الرمادية. وإذا كانت الدول التي تعتمد هذه السياسة، خصوصاً السعودية، قد خرجت من “قمة جدة”، بتنازلات محدودة، فذلك لا يعني أن هذه السياسة ناجحة وصحيحة. بل على العكس، فإن ديناميكية النظام العالمي الجديد الحربية، ستعيد الدول العربية التي شاركت في “قمة جدة” إلى آتون الضغوط الأميركية، في وقت … قريب.

هيئة تحرير موقع الحقول
الإثنين‏، 19‏ ذو الحجة‏، 1443، الموافق ‏18‏ تموز‏، 2022