عولمة موارد المياه والهيمنة الجيوبيئية ـ مناخية في أجندة واشنطن؟

عولمة موارد المياه والهيمنة الجيوبيئية ـ مناخية في أجندة واشنطن؟

مصر وإيران : مبررات القطيعة لم تعد قائمة
“إسرائيل” أحرقت جنوداً مصريين وهم أحياء في عام 1967 وأخفت قبرهم
قضايا "الثورة اللبنانية" : "الحذر من التحول نحو العنف" …!

تتجه الولايات المتحدة الأميركية نحو استغلال مشكلات البيئة والمناخ الإقليمية والدولية لتحقيق مكاسب جيواستراتيجية. ويتكامل هذا التحرك إلى الهيمنة الجيوبيئية ـ مناخية، مع سياسة الكولونيالية الجديدة التي تعتمدها دول الحلف الأوروـ أميركي. لقد أمعن  الحلف الغربي بالتدخل في الشؤون الداخلية للكثير من دول العالم، وهدد سيادتها وأمنها مستتراً بذرائع مختلفة، خصوصاً، بعدما أوقد الأميركيون نيران “الحرب على الإرهاب” قبل نحو ربع قرن، لكي يمدوا قوى العولمة الأميركية بالديناميكية اللازمة.

وتحاول واشنطن، اليوم، أن تدمج استراتيجية “الحرب على الإرهاب” باستراتيجية الهيمنة الجيوبيئية ـ مناخية التي تسعى إليها.  ويمكن أن تختصر الأهداف المدمجة بهدف واحد مركزي ألا وهو : الحد من الإمكانات الإقتصادية الكامنة لدى الدول المنافسة للولايات المتحدة الأميركية كما لدى حلفائها. ضمن هذا السياق، تنم “إستراتيجية المياه العالمية للولايات المتحدة الأميركية للفترة 2022 ـ 2027”، عن رغبة عارمة بالسيطرة على الموارد المائية في العالم، من خلال اختلاق منظومة إدارة معولمة تُخْرِجْ هذه الموارد عن سيادة الدول التي تمتلكها. فما يسمى “اللجنة العالمية لاقتصاديات المياه” تطلب بكل صفاقة “بأن تُتخذ التدابير اللازمة بشأن المياه ودورة المياه باعتبارهما سلعاً مشتركة عالمية”.

إن هذه الآلية الإدارية ـ الفنية لموارد المياه في العالم التي تتلاءم مع استراتيجية الحكومة الأميركية أو تدعمها، ليست إلا صيغة لتنظيم الخداع القانوني ـ السياسي. إذ أن تسليع موارد الماء وعولمة إدارتها، كما ترى “اللجنة” المذكورة، يعني أن ترضى الدول مالكة هذه الموارد أو المتشاركة بملكيتها، بانتهاك سيادتها طوعاً. فالأميركيون باقتراحهم الخبيث “جعل المياه سلعاً عالمية مشتركة”، يعتدون، طبعاً، على مبدأ حرمة الأراضي الإقليمية للدول، وعدم جواز انتزاع الموارد الوطنية منها. مع أنهم يرفضون في نفس الوقت، وبشكل قطعي، أن يتشاركوا الموارد القومية للمياه في أميركا، مع الدول الأخرى التي تحتاج إلى المياه.

إن عولمة المشكلات البيئية والمناخية التي تتم على حساب الدول الضعيفة، كانت الخيار المفضل لدى الأميركيين منذ عقد التسعينيات. وأحد أدوات هذه العولمة هي قواعد الجيش الأميركي في أفريقيا، مثل تلك القريبة من منابع نهر النيل في الهضبة الإثيوبية والبحيرات الكبرى في أوغندا والكونغو. كما تعد “المنظمات غير الحكومية” أداة محلية رئيسية للعولمة، تُحَرَّك بشكل مكتوم وغامض، لتبرير التدخل الغربي ضد الحكومات الوطنية، لا سيما تدخل الأجهزة أو القوات الأميركية. مثلاً، في مؤتمر ديربان/جنوب إفريقيا، الذي عقدته الأمم المتحدة ضد العنصرية في أيلول / سبتمبر 2001، كشف مشاركون عرب من مصر، عن إن الأميركيين وحلفائهم الغربيين كانوا يطوفون على قاعات المؤتمر بحقائب من المال القذر، لشراء “قرارات دولية” تناسب سياستهم.

أصبح الإفساد السياسي في المراحل اللاحقة سمة عمل هذه “المنظمات”، وصار التمويل الأميركي والغربي هو الذي يقرر برامجها وجداول أعمالها، بما في ذلك في قضايا البيئة والمناخ، حيث أبدت “المنظمات” انصياعاً شديداً لاستراتيجية واشنطن التي تستهدف عولمة هذه القضايا. كما أن الأمم المتحدة خضعت للمسار الأوروـ أميركي، حيث كانت قرارات “قمة المناخ” من أولها (كيوتو،1997) وحتى الآن، متساهلة مع الدول الرأسمالية الغربية المسؤولة عن تخريب البيئة وتسخين مناخ الأرض، لا سيما تدمير بيئة “البلدان النامية”، وذلك بفعل اللاتوازن في القوى بين الدول الموقعة على تلك القرارات.

إن الولايات المتحدة التي تدفع بأجندة عولمة إدارة موارد المياه، تخفي عن الرأي العام في شتى أنحاء العالم، جسامة الأضرار البيئية الخطيرة التي يسببها النشاط الصناعي ـ التجاري الأميركي في قطاع المياه في كثير من الولايات الأميركية. فهناك مدن وبلدات أميركية تنهل من أنهار وبحيرات وينابيع ملوثة بالمخلفات الصناعية. وفي السنوات الأخيرة، سمعنا صخب ممثلي “الحزب الجمهوري” و”الحزب الديموقراطي” وهما يتبادلان الإتهامات بالمسؤولية عن “إخفاق الولايات المتحدة في مجال سياسات [البيئة و] المناخ”. مثلاً، “الرئيس السابق باراك أوباما أشرف على ثورة طاقة الغاز الصخري المحلي التي أتاحها ظهور تكنولوجيا التكسير المائي/ الهيدروليكي (التصديع)”. أما خلفه “دونالد ترامب فاتخذت إدارته بالفعل إجراءات لتفكيك أنظمة الحماية البيئية على نطاق غير مسبوق“.

نخلص إلى أن الإنتاج الإقتصادي في الولايات المتحدة وفي كل الدول الرأسمالية معادٍ للنظم البيئية ومدمر للتوازن المناخي للأرض. لأنه يعتمد على تشجيع الطلب الإستهلاكي لزيادة الأرباح بحسابات لاعقلانية. ولذلك، تتدهور أنظمة التوازن البيئي والإستقرار المناخي في العالم، في غياب إجراءات دولية تنفيذية صارمة تحمي الطبيعة من الآثار المدمرة التي يحدثها نشاط الشركات الصناعية الأميركية والدول الغربية في بيئة كوكب الأرض ومناخه. بينما لا تنفك الحكومة الأميركية عن إلقاء تبعات الخراب البيئي والمناخي على الدول الأخرى.

هذه الأنانية العنصرية المتأصلة في الروح الغربية، أكثر ما تجلت في توسيع حلف شمال الأطلسي / ناتو في أوكرانيا على حساب التشريعات البيئية والمناخية في دول الغرب. فها هم الأوروبيون وقد علقوا كل قوانينهم البيئية لدعم هذا التوسع الإمبريالي. نذكر مثلاً، قوانين الإتحاد الأوروبي التي تحظر تكنولوجيا التكسير المائي في استخراج النفط والغاز. بينما يتم، الآن، استيراد الغاز المستخرج في أميركا بهذه التقنية الفظيعة، والإعلام الحكومي الأوروبي يتباهى بـ“غاز الحرية الأميركي”. يا للدجل.

إن توجه الأميركيين لفرض الهيمنة الجيوبيئية ـ مناخية، خصوصاً على موارد المياه، هو تعبير عن فشل نظامهم الإجتماعي ـ السياسي في تحقيق الأمن البيئي ـ المناخي على الصعيد المحلي في بلادهم. وهذا الفشل التنموي، لا ينكره الأميركيون، بل ويعترفون بأن “السياسات الأميركية حول المناخ ربما لا تكون من الناحية العملية قضية مركزية في الحملات الانتخابية لعام 2024” التي سيخوضها المرشحون الرئاسيون لـ”الجمهوريين” و”الديموقراطيين”. ما يؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد قادرة على التحكم بمفردها بالنظام العالمي، وهي تريد من الهيمنة على موارد المياه العالمية، تعويض تراجعها المتسارع.

إن الأوضاع الكارثية التي انجرف إليها السودان منذ تقسيمه عام 2010، تعتبر مثلاً نموذجياً عن كيفية تخطيط الولايات المتحدة الأميركية (وبريطانيا)، لتحويل مسائل الأمن المائي في وادي النيل والهضبة الإثيوبية إلى مشكلات سياسية استراتيجية بين دول الإقليم. فالتقسيم السابق عبر مجلس الأمن في الأمم المتحدة، والتقسيم الحالي بمتاريس الحرب الأهلية، قد تؤدي إلى جعل نهر النيل في السودان خاضعاً للإحتلال الأميركي، ما يعيد رسم توازن القوى بين دول حوض النيل مصر والسودان وإثيوبيا، كما تشتهي واشنطن (و”إسرائيل”).

إن الحفاظ على منسوب مقبول من الإستقلال المائي هو شرط حيوي لوجود الدول كافة. خصوصاً في البلاد العربية وإيران وتركيا، وبعض أرجاء إفريقيا وآسيا، لا سيما في همالايا التي تتشاركها الهند والصين وباكستان. كذلك، في أميركا اللاتينية، وبالأخص في الأرجنتين. حيث اقام الجيش الأميركي فيها، قاعدة عسكرية تتحكم بأكبر مخزون مائي مشترك بينها وبين كل من البرازيل وباراغواي. وقد برر ذلك بذريعة مكافحة المخدرات و”الإرهاب”. ولا يمكن ضمان هذا الإستقلال إلا بحشد دولي واسع، يحبط مبادرة واشنطن إلى فرض الهيمنة الجيوبيئية ـ مناخية على العالم واحتلال موارد المياه العالمية.

قد تكون قمة دول منظمة “بريكس” في جوهانسبرغ بعد ثلاثة أسابيع، دليلاً على نشوء مثل هذا الحشد في مواجهة استراتيجية الهمينة الجيوبيئية ـ مناخية الأميركية. فالدول الخمس الأعضاء في هذه المنظمة، تضم أكثر من 42 في المئة من سكان العالم، وتملك 31 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها تسيطر على 18 بالمئة من التجارة العالمية. وفي إشارة تفاؤل إلى المستقبل هناك 22 دولة من مختلف القارات قدمت طلبات انضمام رسمية إلى “بريكس”.

هيئة تحرير موقع الحقول
‏السبت‏، 19‏ محرم‏، 1445 الموافق ‏05‏ آب‏، 2023
آخر تحديث : ‏الأحد‏، 20‏ محرم‏، 1445 الموافق ‏06‏ آب‏، 2023

COMMENTS