منذ اربعين عاما وهو يُصقل ويُحلل علوم الاتصال. دومينيك Wolton / ولتون، عالم الاجتماع المتخصص بوسائل الاعلام، يسلط الضوء على تنميط الافكار الناتج عن استخدام شبكة الانترنت، ويكشف الغطاء عن صحافة اصبح محتواها اليوم شبه موحّد. متفائل، يترقب مجيء اليوم الذي ينقطع فيه كل منا عن الانترنت، من اجل ان يقرأ او ان يطبخ.
اذا قرأنا تحليلك بعنوان " ان نحيا، يعني ان نتواصل" حول شبكة الانترنت والسلوكيات المتولدة عن استخدامها، نشعر بأنك تتندم على بعض الفضائل التربوية التي يتمتع بها التلفزيون…
نحن نحتاج للاثنين معا! ان قوة الراديو والتلفاز والصحافة عامة، هي، في لغة السوق، تمثل العرض، ما يعني ان جميع هذه الوسائل، تسعى للوصول الى الجمهور الواسع، اما شبكة الانترنت فهي تمثل الطلب وليس العرض. من حسنات ذلك اننا نحصل على خدمة افضل. اما الامر السيىء، فهو اننا ننفصل عن كل ما تبقى. الانترنت عالم مجزّأ اكثر يقسمنا الى جماعات. انه معادي لكل ما هو مجتمعي واجتماعي. المشكلة الأخرى والأضخم للانترنت تكمن في انه يُنظر اليها على انها مساحة حرية لكل فرد بيننا، ولكن من خلفها، نجد سيطرة مطلقة لحوت الـ "غافا" (اي غوغل، ابل، فايسبوك وامازون). لم ار في حياتي تناقض كهذا: مكان واحد يتبنى ايديولوجية الحرية الفردية، فيما تحكمه سلطة تسيطر وتراقب وتتّبع كل تفاصيل حياة الفرد. وكأن الناس يعانون من الفصام! فقد اعتدنا انتقاد الراديو والتلفاز لكونهما وسائل اعلام جماهيرية. لكن طموح الانترنت هو في الوصول الى سبع مليارات شخص، الى كل البشر!.
رغم ذلك، غالبا ما تبدو النخب اقل تحفظا تجاه الانترنت.
ترى النخب ان الراديو والتلفاز قاما بتسطيح فكر الناس. لكن، في هذا التحليل تناقض ايضا، فنحن نعترف بذكاء العامة في تحقيق المواطنة، الا اننا نراهم مضللين حين يستهلكون، ونراهم اغبياء مضللين حين يشاهدون التلفاز او يستمعون الى الراديو! اذا السؤال هو: لماذا يتحولون الى اذكياء عندما يتواجدون امام شاشة الحاسوب؟ عندما نفترض ان المواطن ذكي، علينا ان نعطيه المصداقية نفسها في كل الحالات. عندما نشاهد التلفاز نكون متلقين، لكن عند استخدامنا للانترنت، نحس بأننا اصحاب القرار والاختيار.اما في الواقع، الانترنت تقدم وتعرض لنا ما سبق ان استهلكه ملايين غيرنا. وبالتالي، هي مدرسة تنشر منتجات متطابقة ومتشابهة. ان عمق المشكلة، تكمن في اعتقادنا بأنه كلما كان هناك العديد من الوسائل كلما كان هناك تنوع اكثر. وهذا خطأ . الجماهير تقوي التنميط وتلغي التنوع.
وهذا المنطق ينطبق ايضا على المحطات التي تبث الاخبار بشكل متواصل؟
تماما. لم نشهد من قبل انتشارا لهذا الكم الهائل من القنوات ومن نشرات الاخبار، لكن جميعها ثقدّم بنفس المحتوى، ليس هناك اي مسافة مع الخبر، والقنوات لا تقدم اي اخبار جيدة! لكنّ المشاهد لا يعيش على ايقاع هذا الاعلام وهذه الاخبار : نشرة اخبارية مقتضبة، ثلاث مرات في اليوم كافية! وبالتالي نحن نشهد على تنفير الجمهور عندما ندخله في حالة من القلق المستمر الذي لا يُحتمل. ومأساة الصحافيين، في عصرنا، تكمن في غياب التمويل للعمل على تقارير ميدانية، فيلجأون الى رحلة على حواسيبهم بدل القيام برحلة حول العالم.
كتبتم ان الانترنت هي يوتوبيا. لماذا؟
اجل انها يوتوبيا. لان كل فرد يحلم بقناة يستطيع التعبيرمن خلالها، لكن، حين يقوم الجميع بالتعبير، فمن سيستمع اليهم؟ وهو ما اشبهه بحقل من العزلة التفاعلية، حيث الجميع متصل بالانترنت، والكل يرسل الرسائل ولكن دون ان يلتقوا او ان يعيشوا، او يحبوا، او يعملوا… الساسة يعتقدون انهم حين يروون قصصهم علناً لعدد كبير من الناس في لحظة ما، بأننا سوف نصدّقهم. هذه سذاجة! كوننا متصلين بالانترنت لا يعني اننا نصدق كل ما يقال. ان تحلم بما اعتقدت انه حرية تعبير، هو في الواقع يعني " انك ستصدق ما سأقوله لك".
الصحافة، الساسة، مستخدمو وسائل التواصل… تضع الكل في سلة واحدة؟
نفسيا وبتعبير مجازي "هم يضاجعون بعضهم البعض"، والجمهور يلاحظ ذلك جيدا. شركات الاحصاء و الاستفتاءات اصبحت بمثابة الآلهة التي تعرف كل شيء عن كل شيء. أيُعقل ان نجد في اكثر البرامج شهرة، الصحافيين انفسهم والساسة انفسهم والخبراء انفسهم!؟ يأخذون المنابر الاعلامية بدل شخصيات اكثر ذكاء منهم… لذا لم يعد بإمكان الجمهور ان يرى الفارق بينهم، ليبدو ان الجميع غير مؤهل. نحن نحتاج الى الثلاثة: الصحافي والسياسي والخبير، ولكن كل في مكانه!
التلفاز، يسعى الى كسب المشاهدين، والصحافة تريد الاحتفاظ بقرائها…
عندما نقيس العرض بناءاً على الطلب، نكون ديماغوجيين! الرهان اولا هو ان نفهم ان المتلقي ذكي وان العالم متنوع ومتعدد.. من الممكن ان نرى ارتفاعا في نسبة المشاهدين او القراء، لكن في الوقت نفسه، هذا لا يمنعهم من اطلاق احكام سلبية على هذا السيرك الاعلامي. مرشح الحزب الشيوعي جورج مارشيه حقق ارقاما قياسية في نسب المشاهدة، في حين كان حزبه يحصد النتائج السلبية والخسارات المتتالية.
المستقبل، لن يكون اذا لوسائل البث المباشر؟
ان سرعة توصيل المعلومات تتعارض كليا مع عملية التواصل. ولكي نتفاهم مع بعضنا البعض، نحتاج الى الوقت. البطء مكون انساني، والمجتمع يُهاجم بعنف من خلال سرعة نقل الاخبار. ان تعيش يعني ان تُطفىء حاسوبك وان تُعطي موعدا لاحدهم في مقهى ما.
انتقدت القنوات الاخبارية وما وصفته بأحادية المعلومات، لكنك لم تكن اكثر تسامحاً مع بعض المحطات المتخصصة؟
محطة آر تي ، على سبيل المثال، سمحت للطبقة المثقفة والنخبوية ان يكون لها تلفازها. وهذا ما حث المحطات التلفزيونية الكبيرة على عدم تقديم برامج ثقافية. ليبقى التساؤل الجوهري بالنسبة الى الصحافة والتلفزيون هو: كيف نوصل المادة الثقافية للجمهور الواسع؟ دافع الاوروبيون عن التلفزيون الرسمي ولكن النخبة التي تكره وسائل الاعلام الرسمية ، قامت باحتضان قنوات اخرى. المثال على ذلك، canal plus / قنال بلوس التي اراد الرئيس ميتران، من خلال تأسيسها، نزع الشرعية عن اعلام الدولة، اي اعلام القطاع العام.
ما هي خلاصة اربعين عاما امضيتها في البحث الجامعي؟
الخلاصة هي: تراجع قيمة ودور المعرفة. والخاسر الاكبر حتى اللحظة، هو نحن، هو عالم الاكاديميين، نحن ليس لدينا السرعة الكافية. طرق تفكيرنا معقدة ولا نهتم بأخبار المشاهير. وبالتالي، المتضرر الاكبر هي المعرفة والتبحروالعمق والزمن … نحن في عصر الانتفاع من اشياء غير مفيدة.
هل لديك احساس ان كل ما قمت به من اعمال، لا فائدة له؟
بالتأكيد، لدي احساس ان احدا لم يصغ الي، ولكني متفائل ! اليوم، اصبح كل العالم متصلا بشبكة الانترنت. لكن، سنصل الى وقت يقطع فيه كل العالم هذا الاتصال. سيقرف الناس من سيطرة الشركات ومن كل هذه المراقبة وهذا التتبع لحياتهم عبر شبكة الانترنت. وبعد ان يشبعوا من شاشات حواسيبهم في العمل، في الثانوية وفي المنزل، سيشعر الناس بحاجتهم الى اعمال الطبخ والى قراءة الكتب . التجربة الانسانية سوف تستعيد كل قوتها. كل جيل لديه اليوتوبيا الكريمة الخاصة به. واعتقد ان الناس سينفرون يوما ما من انانية التفاعل ومن دكاكين الشائعات، التي تسمى الانترنت.
مركز الحقول للدراسات والنشر
فيليب Minard/ مينار، أجرى الحوار
نجوى زيدان، ترجمت الحوار عن الفرنسية، وأعدته للنشر
8 أيلول / سبتمبر 2017
النص الفرنسي منشور في موقع "لو تلغرام"