هل انتهى ما درج البعض على تسميته «الانزياح الاستراتيجي» لتركيا نحو الكتلة الأوراسية بعيداً من الرابطة الأطلسية؟ التورّط المباشر للجيش التركي في معارك الشمال السوري، والتصريحات النارية للمسؤولين في أنقرة، والمواقف الأميركية الودّية تجاه «دولة حليفة»، جميعها عناصر قد تشجّع على الجواب بالإيجاب عن هذا السؤال. غير أن ألكسندر دوغين، المفكر القريب من دوائر صنع القرار في روسيا، وأحد رواد الفكرة «الأوراسية» في هذا البلد، في مرحلة طغى فيها الهوى الغربي على ما عداه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، مقتنع بأننا أمام أزمة من الممكن تجاوزها، وهي لن توقف عملية الانزياح المذكورة. الرجل الذي يعرف القيادات التركية جيداً، والذي كشف سابقاً لـ«الأخبار» أنه حذّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من المحاولة الانقلابية التي كانت تُعدّ ضده ساعات قبل وقوعها، يجزم بأن مسار إخراج الولايات المتحدة من الإقليم يتسارع، وأن حسم معركة إدلب خطوة في هذا الاتجاه. لدوغين عشرات المؤلفات، أبرزها: «نحو نظرية للعالم المتعدد الأقطاب»، «نداء أوراسيا»، و«من أجل كتلة تقليدية».
ساهم ألكسندر دوغين، عبر سنوات من التفاعل مع النخب السياسية والعسكرية في تركيا، في الحوار بينها وبين تلك الروسية، والذي أفضى إلى تقارب متزايد بين البلدين في السنوات الأخيرة. لكن التطورات الميدانية الناجمة عن احتدام المعركة في منطقة إدلب والشمال الغربي السوري، والتي تشارك فيها تركيا وروسيا في معسكرين متقابلين، والمواقف الأميركية الصادرة بالتزامن معها والمؤكدة «التضامن الأطلسي» مع تركيا، وكذلك تلك التركية التي طلبت مثل هذا التضامن والدعم، عزّزت الاقتناع بأن مسار التقارب المذكور بين أنقرة وموسكو هشّ وقابل للارتداد.
دوغين، من جهته، يرى أن فهماً أدقّ للوضع الشديد التعقيد الحالي، ولمآلاته المحتملة، يتطلّب إدراكاً لطبيعة «الاستراتيجية العامة الروسية في سوريا، المُوجّهة أساساً ضدّ السيطرة الأحادية الأميركية والأطلسية في هذه المنطقة. الغاية الكبرى لهذه الاستراتيجية هي المساعدة على دخول الشرق الأوسط في عصر التعدّدية القطبية الذي سيتيح لشعوبه أن تقرّر مصيرها ومستقبلها وتحافظ على سيادتها. لا يتعلق الأمر باستبدال النفوذ الأميركي بآخر روسي أو هيمنة أحادية بأخرى. غاية روسيا هي توفير الظروف المناسبة لتشكّل منظومة إقليمية متعدّدة الأقطاب تضمّ الدول والقوى السياسية المناهضة للأحادية الأميركية. في سوريا، سعت روسيا إلى تدمير داعش والقوى المتطرفة المدعومة من السعودية، وبشكل غير مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي كانت بمثابة الوكلاء لهذه الدول، ولدعم سوريا كي تستعيد سيادتها واستقرارها. وفي سبيل ذلك، هي تعاونت مع الدولة السورية والإيرانيين، وتقاربت أيضاً مع تركيا. العمل على كسب تركيا وإبعادها عن المشروع الأميركي هما تحدّيان مهمّان بالنسبة إلى روسيا، لأن نجاحها في تحقيق غايتها المشار إليها سابقاً منوط بهما. ومن الممكن القول إن الإنجازات التي تمّت حتى اليوم على الأرض في سوريا، وكثمرة للتعاون بين روسيا والدولة السورية وإيران، وكذلك للتفاهمات مع تركيا، والتي تؤدّي إلى الخروج التدريجي للأميركيين، كانت ستكون أصعب على التحقيق لولا هذه التفاهمات. لكن لهذه التفاهمات أثمان، ونحن ندفعها اليوم بمعنى ما، لأن لإردوغان التزامات حيال بعض فصائل المعارضة السورية. روسيا تجد نفسها الآن في موقف صعب، لأننا من دون تركيا لن نتمكّن من الوصول إلى غاية إنهاء الهيمنة الأحادية الأميركية على الشرق الأوسط، واستعار المواجهة الدائرة حالياً قد يفضي إلى إعادة النظر في التفاهمات معها. لا أعتقد بأن إردوغان يستطيع الاعتماد على دعم الولايات المتحدة أو القوى الغربية. هؤلاء معادون له، وقد تراجعت العلاقات الاستراتيجية بينهم وبين إردوغان بشكل جدي. هو حالياً يناور لأن من الصعب عليه القبول بالفشل، ويهدّد باللجوء مجدداً إلى حلفاء هم ليسوا كذلك بالنسبة إليه في الواقع. المطلوب هو إقناعه بعقم مثل هذه التكتيكات، وبالاستمرار في مشاركته في بناء منظومة إقليمية جديدة».
غير أن مستجدات أخرى، بعضها تركي داخلي وسابق للتصعيد في الشمال السوري، دعمت فرضية محاولة إردوغان إعادة الدفء إلى علاقاته بالأميركيين، ومنها مثلاً إزاحته مجدّداً لعدد من القادة العسكريين المحسوبين على التيار الأوراسي في الجيش التركي، والذين دعموه عندما تعرّض للمحاولة الانقلابية عام 2016. «لا أعتقد بأن هذا التحليل صائب. أنا أعرف جيداً جداً الوضع الداخلي التركي، وحقيقة دعم التيارات القومية العلمانية وقطاعات إسلامية معادية للغرب لإردوغان. أما الليبراليون، بجناحَيهم العلماني والإسلامي، وجميع القوى الغربية الهوى، بما فيها تلك الموجودة داخل حزب إردوغان، فهم يناصبونه العداء. أنصار الخيار الأوراسي، أكانوا من العلمانيين أم من الإسلاميين، هم القاعدة الموالية لإردوغان. وعلينا ألّا ننسى معطى آخر في غاية الأهمية، وهو الدعم الأميركي النوعي والممتدّ زمنياً للأكراد، وهم الخطر الأكبر من منظور إردوغان وقطاع وازن من النخب التركية. لدى إردوغان ما يكفي من الذكاء ومن الحسّ الواقعي لعدم الوقوع في الفخ المنصوب له. هو يريد من روسيا المزيد من المرونة حياله حتى لا يفقد ماء الوجه في الشمال السوري، مع ما يترتّب على ذلك من انعكاسات على صعيد العالم الإسلامي وشبكات الإخوان المسلمين. ما يجب إدراكه هو أن بوتين مستعد لأخذ مصالح تركيا الاستراتيجية بالحسبان، لكنه لن يقبل بتلبية طموحات إردوغان المرتبطة بأجندة أيديولوجية إسلامية. ولا يمكن الحصول على أيّ شيء من بوتين عبر استخدام القوة. مَن يعرف بوتين يدرك ذلك جيداً. سيضطر إردوغان، نظراً الى واقعيته التي أشرت إليها، إلى التراجع خطوات عدة إلى الخلف لأنه لن يتمتّع بدعم كافٍ من الغرب الذي لا يثق به، ولا من حلفاء الغرب في الداخل التركي، والذين يريدون استقالته الفورية ونهاية دوره السياسي. صِدام مباشر مع روسيا وإيران والجيش السوري ستكون له نتائج كارثية بالنسبة إليه وإلى تركيا. وأظن، إضافة إلى ذلك، أنه لا ينسى أن الدعم الروسي له في أصعب لحظة في حياته السياسية، خلال المحاولة الانقلابية، كان حاسماً لإنقاذه من نهاية مأسوية، وتجنيب تركيا الانزلاق نحو مآل تدميري. التحليل المنطقي والعقلاني للخيارات المتاحة أمامه، وواقع أنه لا يملك أوراق قوة، يفترض أن يحملاه على التراجع والقبول بالحوار مع الرئيس الأسد والتخفّف من أعباء دعم مجموعات غالبيتها سلفية، تحالف معها في مرحلة سابقة وانطلاقاً من اعتبارات لم يعد لها أساس راهناً. ومعركة إدلب تأتي في سياق استكمال عملية استعادة الدولة السورية سيادتها على أراضيها، وارتفاع حدّة الصراع مع الولايات المتحدة على نطاق الإقليم بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني، ما يشي بأن التراجعات غير واردة وبأن هذه المعركة ستحسم».
ولكن ألا يمكن قراءة الموقف التركي كمحاولة للاستفادة من ارتفاع حدّة هذا الصراع، والحديث المتواتر عن احتمالات حرب كبرى بين أفرقائه؟ «الحرب محتملة دائماً. هذه قاعدة في العلاقات الدولية. بعد اغتيال اللواء سليماني، شاهدنا البرلمان العراقي يُصوّت على إخراج القوات الأميركية، وإعلان أطراف كثيرة داخل هذا البلد وخارجه نيّتها مقاومة هذه القوات. في النهاية، سيتحرّر العراق من الاحتلال الأميركي في الفترة إياها التي تتمّ فيها استعادة سيادة سوريا على أراضيها بعد هزيمة المشروع الأميركي. نحن نرى بالفعل ارتفاعاً لحدّة الصراع، لكن أيّ حرب كبرى ستؤدي إلى نهاية إسرائيل، مهما كانت نتائجها في الجبهة المقابلة، وإلى نهاية الوجود الأميركي في الإقليم. ينبغي الالتفات إلى أن الهيمنة الأميركية دخلت في طور الأزمة والضمور في مناطق عديدة من الكوكب. الأكلاف الباهظة لأيّ حرب ستعني أيضاً نهاية ترامب سياسياً. لقد شكّل اغتيال اللواء سليماني سابقة خطرة في نظر الكثيرين، بِمَن فيهم إردوغان مثلاً، فتجرّؤ الأميركيين على اغتيال مسؤول أساسي في دولة ذات سيادة يعني أن من المحتمل أن يكرّروا مثل هذا الفعل غداً ضدّ مسؤول تركي أو صيني… السياسة الأميركية تُعمّم الفوضى، والحلّ هو في تحالف روسي ـ إيراني ـ سوري ـ تركي يضمّ أيضاً قوى المقاومة، ويؤمّن الشروط الضرورية لقيام نظام إقليمي مستقرّ يسمح بتحقيق تطلّعات الشعوب»، يختم دوغين.
حاوره وليد شرارة، الخميس 27 شباط 2020