لله فى خلقه شئون؟؟ والأمر ذو شجون..!، وفى مجال «التطبيع» مع إسرائيل نجد حالات عربية متعددة نستشف منها ذرائع مستبطنة ضِمْنا أو مُضْمَرة، وربما يقاس فى كل حالة منها على أمثلة، نرى أنه لا يقاس عليها إلا بشِق الأنفس، وأنها قد ترنو إلى اقتفاء أثر نماذج وإن كان يصعب تطبيقها، إن صلح تطبيقها من حيث الأصل.
الحالة الأولى، بدأت المسار، ويبدو أنها تقيس على المثال (الإسرائيلى) نفسه، وربما المثال «السنغافورى» أيضا. وقد شرعت فى ذلك، ابتداء من القطْع مع المنظور العربى، وكأن هذه الحالة منبتة الصلة بالمحيط العربى، المحيط الطبيعى من حيث الهوية التاريخية ــ الحضارية. هذه الحالة تمثل دولة صغيرة الحجم نسبيا (وخاصة من حيث تعداد السكان وليس من حيث قاعدة الموارد الطبيعية والمالية على كل حال!) ولديها قدرات تسمح لها بإمكانات التطور، وتنهج نهج الارتباط التبعى بدولة كبرى على المستوى العالمى، شأنها شأن دول عديدة أخرى فى الإقليم. والقياس على الحالة الإسرائيلية قياس غير سليم، فإسرائيل لها مصدران خاصان للقوة غير متوفرين عند الحالة العربية التى نقصدها. المصدر الأول هو الارتباط العضوى فى الأجل المتوسط والبعيد حتى مستقبل يبدو غير منظور، والذى يعلو فوق مرتبة التحالف، بالولايات المتحدة الأمريكية لأسباب متعددة. هذا المصدر غير متوفر فى الحالة العربية المقصودة، فعلاقتها مع أمريكا علاقة مصلحة ذات طابع طارئ نسبيا، يقصر مداها الزمنى عن نسج خيوط رؤية طويلة الأجل.
وأما المصدر الثانى لقوة إسرائيل فهو أنها امتداد عضوى للتجمع اليهودى فى العالم عامة، وفى أوروبا والولايات المتحدة خاصة، بالإمكانات الهائلة لهذا التجمع، سواء من الجوانب الإعلامية ــ الدعوية، أو الاقتصادية والمالية، أو التنظيمية (قوة اللوبى اليهودى المتغلغل «حتى النخاع» فى نسيج النظام السياسى الأمريكى بالذات). ومن مثار العجب العجاب أن التجمع الوحيد الذى يفترض أن يربط الحالة المقصودة بالعالم الخارجى، هى الجماعة العربية برابطتها القومية العتيدة، وأن ما يجرى فى سياق (التطبيع) قد يتسبب فى قطع هذه الرابطة، ولو جزئيا، أو إرباكها على أقل تقدير.
يبقى الجانب المصلحى الطارىء للعلاقة بين «الحالة المقصودة» وبين إسرائيل، مثل مد خطوط أنابيب الغاز، وصيانة وإدارة بعض الموانىء الإسرائيلية على شاطىء المتوسط، وغير ذلك مما يجرى التهيئة له فى الوقت الراهن. هذا الربط المصلحى يمكن استبداله بسهولة بروابط (مصلحية) أيضا مع دول عربية أخرى، أو غير عربية، فيكون التعجل بتثبيت وتضخيم المتغير المصلحى مع إسرائيل أمرا ربما غير معقول.
أما التمثل بالنموذج السنغافورى فهو غير مطابق لواقع الحال، نظرا لأن سنغافورة، الدولة ــ الميناء، نجحت خلال أربعين عاما ويزيد، فى أن تقيم قاعدة تكنولوجية ذات علاقة تجارية متشعبة على الصعيد الخارجى. وبرغم أن سنغافورة مكونة من عدة شرائح عرقية، أبرزها الشريحة ذات الأصل الصينى، فضلا عن المالاوى، إلا أنها تشكل لحمة اجتماعية مندمجة ذات جذور عميقة فى الواقع المحلى بما يسمح بالقول بانطباق ما يسمى (نموذج النمو الأصيل) أو (الداخلى) عكس الوضع فى (الحالة المقصودة) والتى لا تملك نسيجا بشريا مندمجا وتفتقد العمق الديموجرافى ولا خبرة لديها تسمح بالتخصص التكنولوجى العميق على الصعيد الإقليمى والعالمى، عدا عن «نتوء» معروف ويقال له منذ سنوات «مدينة عالمية!»، متطور تكنولوجيا وتجاريا وسياحيا وإن لم يكن متطورا بنفس القدر على الصعيد العلمى ــ المعرفى.
***
أما الحالة العربية الثانية التى تقف على شفير التطبيع وحافته المائلة، فهى كبيرة الحجم غنية الموارد؛ وهذه يسود رأى فيها بأن العلاقة مع إسرائيل هى (البوابة الملكية لعبور المحيط) نحو أمريكا بالذات، كضامن لا يُشَق له غبار، فى مواجهة الخصم الإقليمى الرئيسى القابع ناحية أقصى الشمال الشرقى بالذات. وربما يتصور بعض راسمى الاستراتيجيات «التخيلية»، إن صح التعبير، أن وضع هذه الحالة العربية مع أمريكا، يكون شأنه شأن «جمهورية كوريا» (كوريا الجنوبية)، التى تلعب دور «حائط الصد» فى مواجهة الصين ومن ثم تكون لها الحظوة مع أمريكا بما لذلك من مزايا متنوعة فى زوايا متعددة، منها ما هو اقتصادى وسياسى وعسكرى وغيره.
لكن حالة الصين غير حال إيران، فالصين (عدو) استراتيجى حقيقى للولايات المتحدة أو قلْ إنها (خصْم عنيد) قوى جدا بجميع المقاييس على الصعيد العالمى، لا يتوقع له تحول جذرى أو انحراف شديد بزاوية الرؤية فى الأجل المنظور، إلا إنْ حدث ما هو غير متيقن منه تماما. هذا بينما إيران قوة إقليمية كبيرة، ولا شىء أكثر من ذلك، برغم سعيها إلى التغلغل السياسى والعقائدى فى منطقة الجوار العربى– الإسلامى، اعتمادا على مصادر للقوة، بشرية كانت أو فكرية، عدا عن العمق (الجغرا ــ سياسى) المشهود.
لذلك إنْ كان يمكن لكوريا الجنوبية أن تعتمد على الظهير الأمريكى فى المستقبل المنظور، فإن ذلك يصعب تصوره فيما يتعلق بالحالة العربية المقصودة والتى لا يزيد تصور دورها فى الإدراك السياسى الأمريكى الراهن كونها (بئر نفط كبيرة) قابلة للنفاد برغم الاحتياطى العظيم، فى حين أصبحت أمريكا المنتِج الأول للبترول على الصعيد العالمى ولم تعد بحاجة إلى استيراده من الخارج كما كان عليه الحال سابقا. ويكون الاعتماد على أمريكا هنا كالاعتماد على «الحائط المائل» كما يقال. وحينئذ، تخسر «الحالة العربية المقصودة» الظهير المتوهم، فى حين يمكن أن تفقد ظهيرها الطبيعى «العربى ــ القومى» العتيد، من جراء ما جرى ويجرى.
***
فى أقصى الطرف الغربى من الوطن العربى، تقع حالة ثالثة، تقايض التطبيع الإسرائيلى مقابل ظرف سياسى طارىء بغيْر مسوغ قوى على كل حال. فهل يتم لعبٌ، فى تصور البعض، على وتر العداء الذى يوشك أن يكون تاريخيا، مع بلد عربى شقيق؟
هل يتطلع هذا البعض فى ذلك الطرف العربى القصى إلى «المثال التايوانى» فى مواجهة الصين..؟ ذاك برغم الاختلاف الجذرى بين موقع تايوان من الدولة– الأم أو «البر الصينى»، وبين موقع الشقيقتين من بعضهما البعض فى واقع الحال. إذْ تايوان، برغم كونها «صينية»، إلا أنها منفصلة عن الصين لدرجة تسمح لها، وقد تدفعها دفعا، إلى الارتباط العضوى بالأمريكيين لحمايتها من العنف المحتمل ــ أو المتوهَم ــ للدولة ــ الأم فى البر اللصيق.
أما الطرف العربى إلى أقصى ناحية «المغرب»، فليس عنده ما يدعوه إلى ذلك الارتباط التبعى، وليس لدى الأمريكيين ما يدعوهم إلى حمايته من تهديد خارجى جدى مزعوم، بالغالى والنفيس. والغريب العجيب حقا أن «الطرف القصى» ليس لديه فى الحقيقة الواقعة باعث للقلق الشديد يدعوه إلى التماس مثل ذلك العون من أمريكا، فهو مسيطر بالفعل على ما يعتبره حقا له إلى حد بعيد، ولا يواجه تهديدا جديا لهذه السيطرة من أى وجه، وخاصة من الجانب العسكرى، وليس لدى خصمهــ الشقيق ما يدعوه إلى خوض مواجهة خشنة من أى نوع مع ذلك الشقيق.
ثم ما هذا القول بأن اليهود يمثلون شريحة ذات وزن نسبى كبير من السكان المغاربة يروح أفرادها ويجيئون بالفعل، من وإلى (إسرائيل)؟ وهل نسلم بأن إسرائيل وِجْهة شرعية ومقبولة لليهود العرب؟ فهذا ربما يمثل نوعا من التسليم بالمنطق الذى تقوم عليه إسرائيل، بادعاء تمثيلها لليهود فى كل مكان من العالم، وكأنهم «قومية» منفصلة تحميها «دولة ــ أمة»..؟ وقد حاول الكيان الصهيونى تأكيد ذلك بإصدار ما سمى «قانون القومية» منذ نحو عامين، صُمِم خصيصا لتهميش أهل البلاد الحقيقيين (العرب الفلسطينيين) كمواطنين (من الدرجة الثانية) أو دون ذلك، ضِمن «بلد الأبارتايد» المتبقى وحده فى العالم المعاصر ملاذا للفصل العنصرى و«التفرقة العنصرية ــ الاحتلالية الاستيطانية».
وتبقى من ذرائع (المطبعين) ذريعتان أو ثلاثة (البحرين بالفعل، وعُمَان على سبيل الاحتمال غير الأكيد). وقد دأب (المنتهية ولايته ــ ترامب)على ممارسة نفوذه إزاءهما لفرض «الامتثال» لما يشاء تطبيعيا قبل الرحيل. امتثالٌ يريده على أُنموذج «جمهوريات الموز» فى أمريكا الوسطى وبحر الكاريبى.
وتكتمل المهزلة التطبيعية فصولا إن أضفنا البلد العزيز الذى طُلب منه (أو ربما أُجْبِر بعض منه على) التطبيع لقاء وعْد بالمال وبالسماح بالتمويل الدولى بعد رفع اسمه مما يسمونه لدى الدولة الكبرى، الولايات المتحدة: «قائمة الدول الراعية للإرهاب». وهذه الدولة الكبرى هى المارقة حقا من أحكام القانون الدولى خاصة «القانون الدولى الإنسانى»، لا سيما فى عهد «ترامب». وهى تلاحقها أخلاقيا تهمة «إرهاب الدولة»، وأحدث شواهدها ما وقع منها فى العراق الذى قامت بغزوه عسكريا واحتلاله عام 2003 وما بعدها بذريعة ثبت بطلانها (حيازة أسلحة التدمير الشامل). ويماثلها فى «الإرهاب الرسمى»، ذلك الكيان الصهيونى القائم على أرض فلسطين المحتلة منذ عام 1948، كما هو معروف.
محمد عبدالشفيع عيسى، مفكر وكاتب عربي من مصر، أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
الجمعة 1 يناير/ كانون الثاني 2021
(ينشر بإذن من المؤلف)