انقسمت السياسة العربية إزاء العملية العسكرية الروسية في دونباس. الجمهورية العربية السورية تفردت بموقف. اعترفت باستقلال دونتسك ولوغانسك، لأن سوريا استثناء. فقد ظلت الحليفة التاريخية لروسيا، وهي قاومت توسع حلف شمال الأطلسي، أصلاً، من موقعها الإستراتيجي بصفتها القطب القومي العربي المقاوم للكيان الصهيوني. وهذا من أهم أسباب الحرب التي يشنها هذا الحلف بكل قواه على سوريا، منذ عقد ونيف، دون أن يفلح في تدمير هذا الموقع ولا في إجبار القيادة السورية على إخلائه.
“بقية” جامعة الدول العربية اتخذت من عملية حماية جمهوريتي دونباس موقف الحذر. يستدل على ذلك من نتائج إجتماع المجلس الوزاري العربي في القاهرة، ونتائج التصويت في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة. حيث وجدنا أن هذه الدول لم تركب ـ حتى الآن ـ خيل أميركا ولا ساندت حقوق روسيا. وقد لجأت إلى التقية الديبلوماسية في التعبير عن موقفها من أزمة أوكرانيا. اذ عمد ممثل المجموعة العربية في مجلس الأمن الدولي، وهي دولة الإمارات، إلى اتباع “حيلة” الإمتناع عن التصويت لصالح المشروع الأميركي حول أزمة أوكرانيا، واستطاع أن “يرضي الجميع”.
انفجار أزمة النظام الدولي الإنتقالي في أوكرانيا، حشر الموقف العربي الرسمي وسط تجاذب جيواستراتيجي حاد. العرب واقعون بين موجات ضغط متضادة من الشرق ومن الغرب. الشرق ينهض مع الجنوب. دول أوراسيا تتلمس مستقبلها، وتملك موارد وإمكانية حل أزمات حاضرها، بينما دول الإتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا و”إسرائيل” وأوستراليا واليابان التي يُغرق الركود اقتصادها من عشرين سنة، تعيش تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية ضياعاً وحالاً من اللايقين بشأن مستقبلها “العالمي” ولا تقوى إلا على إدارة أزماتها في الوقت الحاضر.
اختيار التقية الديبلوماسية في “بقية” جامعة الدول العربية لا يخرج العرب من هذه الحشرة. التقية تعني ألّا تأييد عربياً واضحاً لروسيا التي ارادت من العملية العسكرية الجارية في أوكرانيا، دفع الأسوأ القادم عليها. وهو التطويق الإستراتيجي لكل تخومها الجيوبوليتكية بالبنية التحتية العسكرية الأطلسية. كما تعني التقية الديبلوماسية ألّا تأييد عربياً صريحاً للولايات المتحدة الأميركية التي تريد حماية نظام الهيمنة الغربي في العالم، من خلال عزل روسيا عن دول أوروبا الوسطى والغربية والجنوبية، بما في ذلك أوكرانيا وبيلاروسيا، والتسلل إلى آسية الوسطى، قبل “التفرغ” لمعاركها الكبرى مع الصين و… كوريا الديموقراطية.
في الشكل يبدو الموقف الذي اتخذته “بقية” جامعة الدول العربية، من الصراع المحتدم في أوروبا بين روسيا والقوى الأطلسية موحداً. لكن هذا الإنطباع يتبدد حينما نتمعن بالأسباب الخاصة بكل دولة على حدة. في تقصي آفاق هذا الموقف، يفترض بنا تقسيم الدول المذكورة إلى ثلاث مجموعات.
تأتي، أولاً، مصر والجزائر و(بشكل ما لبنان). وغاية السياسة الخارجية لديهم تعزيز مبدأ الإستقلال الوطني. ودول هذه المجموعة ترتبط بمصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية كبرى مع كلا طرفي الصراع الناشب في القارة الأوروبية. وهذه المصالح، وتحديداً لدى مصر والجزائر، تقوم على أسس تاريخية مع روسيا، تتعلق بقطاعات الصناعة والدفاع وبالتعليم والنقل في هذه الدول. كما لوحظ في السنوات القريبة الماضية تعاون نووي وفضائي بين كل من القاهرة والجزائر مع موسكو.
إن إدراج لبنان في هذه المجموعة لازم، بالرغم من تصويت مندوبته في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد روسيا مع بعض الدول العربية، وبالرغم من اللغط الذي أثاره بيان وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، الذي يرتبط بالأجهزة الأميركية منذ أن كان سفيراً في واشنطن في عهد الرئيس السابق أمين الجميل، الذي حاول “أطلسة” لبنان، بعد الغزو “الإسرائيلي” له في عام 1982. بل إن بو حبيب بات متهماً مع بعض “الحكام” بأنه يضع لبنان في مسار متسق مع أهداف “إسرائيل” وأميركا في أوكرانيا. والسبب الرئيسي لأن ندرج لبنان هنا، مع هذه المجموعة، هو بنية ميزان الردع الوطني والإقليمي الذي راكمته المقاومة الوطنية اللبنانية ضد كيان الإحتلال الصهيوني طيلة أربعة عقود، ما أعطى لبنان مكانة مركزية في محور المقاومة العربية والإقليمية ضد “إسرائيل”.
من المفهوم أن تتخذ دول المجموعة الأولى هذا الموقف الحذر من تمدد الجيوش “الأطلسية” شرقاً، وان تمتنع عن الإنخراط في “الحملة الصليبية” التي تشنها أميركا والإتحاد الأوروبي على روسيا. وبظننا أنه تحت أي ظرف لن يمشي الجيش المصري ولا الجيش الجزائري ولا لبنان المقاوم في أذيال هذه “الحملة” الإجرامية التي يشنها الغرب لإغراق العالم لا أوروبا وحدها، بالحلف الأطلسي الرجعي. وقد سمعنا أن القاهرة رفضت طلباً من واشنطن بإغلاق قناة السويس بوجه سفن البحرية الروسية، كما أبت أن تستجيب للطلبات السياسية الأخرى التي قدمتها إدارة بايدن والأنظمة الأطلسية الغربية، لكي تنضم مصر الى معسكر “حرب العقوبات” التي تشنها على الدولة والمجتمع الروسيين.
لا بد، هنا، من استطراد بشأن دول المحموعة الأولى. فمصر والجزائر، كما سوريا، ترتبطان بعلاقات تاريخية مع روسيا. وكما نعرف فإن هذا النوع من العلاقات الخارجية الإستراتيجية، هو الذي سمح لهذه الدول، بالإقتراب من “عصر الثورة الصناعية” وتوطيد مقومات الأمن المجتمعي / الدولتي والإستقلال الوطني، وذلك من خلال التحالف مع روسيا السوفياتية في زمن “الحرب الباردة” ثم استعادة بعض هذه العلاقات مع روسيا الإتحادية راهناً.
ومع اعترافنا بوجود بعض الخلافات الحساسة، مثلاً، في القضية الفلسطينية، أو في ملف سد النهضة أو في مجال الطاقة وسواها، إلا أنها لا تحجب النظر عن تجربة العلاقات العربية ـ الروسية في التاريخ الحديث وفي التاريخ المعاصر. فهذه التجرية أظهرت قدْراً من التلازم في مسار التطور الإجتماعي ـ السياسي بين الدول العربية الرئيسية وروسيا، بحكم عدد من العوامل الهامة، مثل كيفية تشكل الجيوبوليتيك الدولي الحديث، وديناميات الصراع العربي ـ الصهيوني، وفاعلية مقاومة العرب مشاريع الهيمنة الإقليمية الأورو ـ أميركية على الوطن العربي. في السنوات الأخيرة، تتطور علاقات عربية ـ روسية معينة تحت تأثير صناعات الطاقة وأسواقها. ولذلك، فليس غريباً أن تكتب شخصية عربية مرموقة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أن انهيار الإتحاد السوفياتي لم يبدأ مع “البيريسترويكا الغورباتشوفية”، بل بدأ بعد عدوان “إسرائيل” وأميركا على العرب في حزيران عام 1967، وهذه وجهة نظر تستحق البحث.
مجموعة دول “التعاون الخليجي”، تأتي ثانياً، وهي تابعة بكل معنى الكلمة للنظام الأميركي على المستويين الدولي والإقليمي. هذه المجموعة، وتحديداً السعودية والإمارات، تفتش عن توازن ما وسط هذا التجاذب الهائل في النظام الدولي. وهي حتى الآن، تحاذر إغضاب روسيا، بسبب ترابط مصالحها النفطية معها، فيما يعرف بصيغة “أوبك +” التي ضمنت سقف الأسعار في سوق النفط، وحمت العائدات المالية لهذه الدول. إضافة إلى النفط، هناك “سبب تركي” يشرح موقف قطر وإيقاعه من الوضع الأوكراني. كما أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم ينس ـ بافتراضنا ـ ترحيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين به في قمة العشرين الأخيرة، حينما نبذه “زعماء” الأطلسي وانتصروا لـ”الإخواني” جمال خاشقجي. لكن هذا “الحياد” من عملية تشكل النظام الدولي الجديد لا يستند إلى إرادة سياسية صلبة وليس مبنياً على توجه استراتيجي حاسم. وهذا الضعف في التقية الديبلوماسية سيوقع أنظمة هذه الدول في مأزق وجودي، كلما تصاعدت المواجهة الشرقية ـ الغربية في أوكرانيا وانتشرت آثارها في الدول والمجتمعات المجاورة لها وانتقلت إلى شتى أنحاء العالم. واللافت، أن إعلام هذه الدول، هو الذي يشجع المحللين على الكلام عن هشاشة هذا “الحياد”، خاصة قناة “الجزيرة” القطرية التي تديرها منظمة “الإخوان” ذات الفكر التكفيري الإرهابي، التي تواصل تسميم الرأي العام العربي بالمعلومات والتقارير والأخبار المضللة، حول ما يجري في الميدان الحربي في أوكرانيا على الصعيدين العسكري والإنساني. بما يدل على الولاء الكامل في إدارة إعلام هذه الدول للقيادة الأطلسية ـ الصهيونية.
المجموعة الثالثة، تضم دولاً عربية آسيوية وإفريقية تتوزع بين كلا المجموعتين. وهي تفتقر أصلاً، إلى القدرة على المبادرة الخاصة في مجال السياسة الخارجية. فالعراق مقسم. ونصفه محتل. ثم مع كل الإحترام للعرض الملتبس الذي قدمه نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو بشأن إقامة قاعدة تموين على الشواطئ السودانية على البحر الأحمر، فإن حذر هذه الدول من قبول تأييد التوحش الحربي الأورو ـ أميركي في أوكرانيا، يبقى مؤقتاً، ومرهوناً بعوامل داخلية وإقليمية ودولية كبرى، تؤثر بعمق، في استقرارها الداخلي والإقليمي. ونذكر هنا بالتحديد كلا من مملكة المغرب ومملكة الأردن، اللتان أعطيتا “وضعاً خاصاً” في حلف شمال الأطلسي خلال العقد الماضي.
نخلص من مناقشة مواقف “بقية” جامعة الدول العربية من حرب الدونباس، إلى السؤال عن مدى قدرة الأنظمة السياسية العربية في دول المجموعة الثانية والمجموعة الثالثة، تحديداً، على الإستمرار في موقف “الحياد” (أو “النأي بالنفس” على ما يزعم بعض السياسيين اللبنانيين) تجاه المواجهة الروسية ـ الأطلسية في أوكرانيا؟.
ماذا ستفعل هذه الدول إذا ما قررت الولايات المتحدة وحلفها الإمبريالي أن “تسوقها” إلى جحيم الأزمة الأوكرانية، في إطار “الحشد الدولي” الذي تقوم بتجميعه يومياً في عدوانها على الشعب الروسي والأوكراني. هل ستنصاع صاغرة مثل الإتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا واليابان وأوستراليا (وسويسرا والسويد وفنلندا …) وتمشي في أرداف “الحملة الصليبية” الجديدة. ما هي خطتها لرفض “الأمر الأميركي” الذي لم يصدر بعد، كيف ستحتمل عواقب التحاقها بالصف الأميركي على “الجبهة الأوكرانية”، والعالم بات في غمرة النظام الدولي الإنتقالي الذي تُسبك أعمدته وركائزه، الآن، في نيران هذه “الجبهة”؟.
بشأن العواقب، فإن هذه الدول قد تتعرض لضربات عسكرية قاسية مباشرة أو غير مباشرة. فالجيوش الروسية متأهبة مع حلفائها في كل العالم. والخوف ليس جواباً والحكمة في حرب الدونباس تحتاج إلى أكثر من “السير بجانب حائط الحذر”. فقد يهدم “الحائط” على من يتلطى بجانبه.
هيئة تحرير موقع الحقول
الأربعاء، 29 رجب، 1443 الموافق 02 آذار، 2022