يستمر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في تنفيذ استراتيجية “المطرقة الجوية” ضد اليمن. أمس، أطلقت القوات المسلحة اليمنية دفعات من الصواريخ البالستية والمجنَّحة والطائرات الحربية المسيّرة على السعودية، في إطار المرحلة الثالثة من عملية كسر الحصار. اليوم، بدأ “التحالف العربي” بتكثيف الغارات الجوية باتجاه مدينة الحديدة وعلى العاصمة اليمينة صنعاء، ضمن “عملية استجابة” هدفها “تحقيق مبدأ الأمن الجماعي”.
لدى الأمير بن سلمان قادة عسكريون ومستشارين كثر، ينصحونه في شأن أحوال البلاد والعالم. لكن المشورة التي يتلقاها منهم، عن أحوال اليمن وشعبه، تنم عن تواضع علمهم. هذا على افتراض ولائهم له. وإلا فكيف يتركون الأمير حاملاً هذه “المطرقة” لمدة سبع سنوات كاملة، عبثاً، يضرب بها. كيف يحدث أن يبقى العقل الإستراتيجي للسعودية دايخاً بحرب اليمن يدور على نفسه كما قطب الرحى. ما نفع المضي بهذا العبث، ونتائج حرب “عاصفة الحزم” ترتد على المملكة من دون “حلفائها”.
نعرف أن القيادة اليمنية الثورية أسقطت كل الأهداف السياسية والإستراتيجية التي ابتغتها القيادة الملكية السعودية من “عاصفة الحزم”. ووفق تصريحات السيد عبد الملك الحوثي فإن السعوديين “يعلمون” أن التصنيع الحربي اليمني من الصواريخ والطائرات المسيرة، يقترب من الاكتفاء الذاتي، وأنه يتم بمشاركة كل فئات الشعب، وأن الدفاع الجوي قيد التطوير. فلماذا لا تسمع السعودية. لمَ لا ترى أن “المطرقة الجوية” التي تضرب بها على كيان اليمن ومجتمعه لم تمنعه من تنمية الإنتاج الصناعي الحربي وتطويره.
وإذا كانت القيادة الشابة في المملكة قد اعتبرت اليمن عدواً، ليس لديه ما يمكن أن تتعلمه منه. فلماذا لا تتعلم من “الصديق الجديد” : “إسرائيل”. لقد دمرت “المطرقة الجوية” للكيان الصهيوني مساحات حضرية شاسعة، إبان عدوانه على لبنان في شهر تموز/ يوليو 2006. بيد أنها فشلت أمام إرادة المقاومة الوطنية، التي يتصدرها حزب الله. فقد صممت المقاومة على القتال وتشبثت بالأرض، وحظيت بتأيد الشعب، ولم تزل، إلى أن هوت “المطرقة” على رأس دان حالوتس رئيس أركان جيش العدو، وطاحته من منصبه.
ولئن اصبحت حرب السعودية على اليمن، طيلة السنوات السبع الماضية، عبثاً وفشلاً للقيادة الملكية ومستشاريها. فإنها الآن، بعدما اندلعت الحرب في قلب أوروبا، ستتحول إلى ضياع مدمر لها. يريد حلف شمال الأطلسي ضم أوكرانيا إلى قوامه السياسي ـ الإستراتيجي، لكي يجعلها منصة الهجوم الأورو ـ أميركي على الإتحاد الروسي. خطة التحالف الأطلسي هي “حل المشكلة” مع روسيا لكي يتفرغ للصين. وقد اتخذت السعودية في أزمة أوكرانيا موقفاً يتسم نسبياً بالحسبان الدقيق والتقدير الصحيح.
لسنا في معرض تقريظ هذا الموقف بل مساءلته أو محاججته. فمن بعد أوكرانيا أصبح ديناميات النظام الدولي الإنتقالي أشد قوة ونشاطاً. لأن كتلة أوراسيا ومركزها في هذه اللحظة روسيا، قد تحركت لصد الكتلة الأطلسية عن المجال الروسي التاريخي وتحجيمها. وهنا لا بد أن نلاحظ أن هذا النظام الدولي الإنتقالي، نشأ بشكل أساسي عن إشكاليات حربية وتكنوعسكرية وتكنوأمنية “تعاني” منها الولايات المتحدة والدول الإمبريالية التي تهيمن على هذا النظام. خصوصاً، وأنها كانت قد عجزت عن ترسيخ هيمنتها عليه بالحروب التقليدية وغير التقليدية التي أشعلتها في الوطن العربي والعالم الإسلامي طيلة العقود الثلاث الأخيرة.
كانت أول نتيجة “عالمية” للعجز الأميركي ـ الغربي هي تراجع موثوقية الأمن الإقليمي للحلفاء. هاكم “إسرائيل”. تركيا. السعودية تعيش هذا التراجع أيضاً. ضف على ذلك، فإن السعودية دولة ومجتمعاً لم تشهد أهوال “الربيع العربي” وفوضاه السياسية وخرابه، بل “مولته” في سوريا ولبنان ودول عربية أخرى، متوقعة أن تحتمي من أذاه. لكن قيادة السعودية سارت طواعية وبحماس، ولكن من دون وعي، إلى “فخ اليمن”. وقعت فيه. حرب الأمير بن سلمان على اليمن، هي النسخة السعودية من “الربيع العربي”.
الذي وضع “المطرقة” بيد بن سلمان، كان يعرف مسبقاً أن حسم الحروب ما عاد ممكناً، بل لم يكن ممكناً أصلاً بالقوى الجوية وحدها. وكان يعلم أنه سيدخل السعودية في دهليز أمني، يؤدي وقوعها فيه إلى تسهيل ابتزازها. وقد تم، بالفعل، ابتزازها سياسياً واقتصادياً ومالياً وثقافياً وأمنياً وعسكرياً. نعم، عسكرياً. فالذي زود الأمير الشاب بكل لوازم الضرب بـ”المطرقة الجوية” على شعب اليمن الشامخ ومدنه وقراه العريقة التي أعزها الله، كان يعلم أن السعودية لا تملك قوى برية تحسم هذه الحرب ولا تقدر على استئجارها. وأنها ستعلق فيها.
الغارات السعودية المدمرة على اليمن هي ضرب من الهذيان العسكري. أمام القيادة السعودية الآن، حرب حقيقية في أوكرانيا. ماذا يرى الأمير بن سلمان هناك. قصف جوي وصاروخي. أم تقدم قوات برية مدعومة بهذا القصف. بعد سبع سنوات من الحرب على اليمن يجب أن تعترف القيادة السعودية بأن الولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” يستخدمون الموارد الوطنية السعودية لبناء ازدهارهم وأمنهم. وأن تصارح الرأي العام السعودي والعربي بأنها تريد وقف هذا الضرر الذي يصيب السعودية واليمن.
كلام الأميركيين عن الإلتزام بأمن المملكة هو من قبيل الوعود الكاذبة. حري بالسعوديين أن يعتبروا مما فعله بهم الأميركيون والإنكليز في سنوات الحرب على اليمن. ليفتحوا سجلات الإبتزاز الأميركي والبريطاني والغربي للعائلة السعودية الحاكمة. في وقت ما كانت إدارة أوباما مستعدة لتسليم السلطة في السعودية إلى تنظيم “الإخوان” التكفيري والإرهابي. ألم تفعل ذلك بمصر والمغرب وتونس. ألم تحاول ذلك في سوريا. الأسوأ من ذلك، هو ما يرتسم في آفاق التحليل الإستراتيجي لبوادر حرب الطاقة الناشبة حالياً، ضمن تفاعلات الأزمة الأوكرانية، من تأثيرات مضرة بمصالح المملكة.
تقف خلف تحرك روسيا لإعادة تشكيل النظام الدولي الكتلتان الأوراسيتان الأثقل : الصين والهند. باكستان مع الصين. دول جوار الصين لا يزال المخطط الأميركي يحضرها لدور مؤجل. الضغط الأكبر عندنا في الإقليم يقع على الدول العربية. لأن إيران حليفة قوية للقوى الأوراسية، وتركيا تحاول التموضع بين طرفي الحرب في أوروبا فتستفيد منهما. يبقى العرب، فإنهم ما خلا سوريا يعتمدون الحياد ما بين هاتين الكتلتين المتصادمتين في أوكرانيا اليوم. وقد يمتد صدامهما إلى أقاليم أخرى. السعودية بحاجة لوقف الحرب على اليمن، لكي تخفف الهشاشة البنيوية الداخلية للكيان الدولتي السعودي، خاصة على المستوى الإجتماعي ـ السياسي. كما أنها بحاجة للخروج من فخ اليمن، لإتاحة المجال أمام ديبلوماسيتها كي ترسي علاقات إقليمية تقوم على مبدأ الأمن المتبادل.
لقد أصبحت آفاق المرحلة الأولى من حرب الدونباس واضحة نوعاً ما. قالت روسيا وهي تتأهب بالسلاح النووي : أوكرانيا أوراسية. قالت وقطعت الطريق أمام حلف شمال الأطلسي لمنعه من التمدد في أوراسيا. وهي تعزز مواقعها العسكرية والإقتصادية والسياسية. النظام الدولي الغربي، رد بحرب العقوبات والإنتشار العسكري الكثيف لحلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا وغربها. لكن هذا النظام العدواني استثنى موارد الطاقة الروسية. أجَّل العقوبات عليها إلى وقت يكون فيه الإتحاد الأوروبي جاهزاً للإستغناء عن الوقود الأحفوري الروسي. هنا، يثير التحليل الإستراتيجي سؤالاً إشكالياً حرجاً أمام القيادة السعودية، هو :
إذا فرضت العقوبات الغربية على قطاع الطاقة الروسي، واتجهت روسيا صوب الأسواق الصينية، كما هو متوقع. وإذا قررت الولايات المتحدة تصعيد حرب العقوبات، مهما أضرت بأوروبا، لتشمل الصين. ثم جاءت بأساطيلها لتضع اليد، مباشرة، على قطاع الطاقة في السعودية والخليج العربي، لكي توجهه إلى أسواق أوروبية وآسيوية معينة، باستثناء الصين. ماذا ستفعل السعودية. لن نستطرد في الأسئلة. لن نضيف إلا سؤالاً واحداً : من يضمن، حينئذٍ، ونحن في نظام دولي انتقالي، استقرار المملكة العربية السعودية؟.
لقد فضح صمود اليمنيين لسبع سنوات وصبرهم وإبداعهم العسكري التكنولوجي ـ الحربي الخلاق، أكاذيب الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا (و”إسرائيل”) عن “التزامهم” حماية أمن المملكة العربية السعودية. ما جرى في الأمس واليوم، هو مثلما يجري منذ سبع سنوات، لا يفيد إلا عن حقيقة واحدة : لا يحمي أمن السعودية إلا السعوديين بالحكمة والحسنى والتدبير والرشاد بينهم وبين أشقائهم وأصدقائهم الحقيقيين. وليبتعد الحلف الأنكلوساكسوني عن شبه الجزيرة العربية وبحر العرب.
في اليوم الأول من العام الثامن للحرب السعودية على اليمن، نقول فلتوقف السعودية هذه الحرب الظالمة، حرصاً على نفسها قبل غيرها.
هيئة تحرير موقع الحقول
السبت، 23 شعبان، 1443 الموافق 26 آذار / مارس، 2022