أفادت بعض التحليلات الخبرية الأخيرة بأن التراجعات النسبية التى تعانى منها القوات الروسية على الجبهة الأوكرانية مؤخرًا تطرح تساؤلا حول ما إذا كان من المحتمل أن يؤدى ذلك إلى إمكان لجوء الطرف الروسى إلى «الخيار النووى» باعتباره خيار «الفرصة الأخيرة» لكسب الحرب.
لسنا فى معرض مناقشة هذا الاحتمال من حيث تحققه، وطرق هذا التحقق، ولكنّا نطرحه كمقدمة لسؤال أهم، أكثر عمقًا، وأوسع نطاقًا، يتعلق «بأسلحة التدمير الشامل» Mass Destruction Weapons التى أخذ يسمح بها التقدم التكنولوجى المتسارع، من الثورة الصناعية الأولى فى القرن التاسع عشر، إلى ما يسمى «الثورة الرابعة» حاليًا. إنه ذلك التقدم الذى دعوْناه «غير المُؤَنْسَن»: تكنولوجيا من غير روح، ومن قبل: علم «خال من الضمير ــ بمعنى الوعى» Consciousness. ذلك هو العلم، وتلك هى التكنولوجيا التى فتحت أبوابها «مُشْرعة» للرأسمالية كنظام اقتصادى اجتماعى ممتزجة بالتطور العلمى التكنولوجى كدعامة للتطور فى «قوى الإنتاج» بشكل غير مسبوق حقًا.
لم يقتصر الأمر فى الحقيقة على انحصار تقدم قوى الإنتاج، بالعلم والتكنولوجيا، فى الدول ذات النظام الرأسمالى، فقد أدت ملابسات التنافس والصراع الدولى، وظروف التغير التاريخى فى عدد مما يسمى «الدول الكبرى» أو «القوى العظمى»، إلى احتكار حيازة التقدم التكنولوجى «غير المُؤَنْسَن»، وصولا إلى حيازة الأسلحة الأكثر فتكًا، بفروعها الثلاثة: النووية والكيماوية والبيولوجية. وقد سمحت جملة عوامل معقدة بالنظر إلى الأسلحة الكيماوية والبيولوجية من قبيل «الخيارات المحّرمة»، وأُبرِمت من أجل ذلك اتفاقيات دولية، وأنشئت منظمات خاصة بها. وغدا اللجوء إلى السلاح الكيماوى والبيولوجى فى أى حرب أو نزاع مسلح، وكأنه المحرم الذى لا يدانيه محرّم آخر، برغم تواصل الأبحاث الأساسية والتطبيقية والتطويرات التجريبية فى كلا الحقلين دون انقطاع، وخاصة من قبل تلك (القوى العظمى) وفى الصدارة منها كلّ من الولايات المتحدة وروسيا والصين.
• • •
أما الأسلحة النووية فقد كان لها شأن آخر. فقد تم «الاكتشاف» الابتكارى للقوة التدميرية الكامنة فى نواة الذرّة، الوحدة الأولى فى بنية المادة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبلغ الأمر مدى غير مسبوق بإنتاج القنبلة النووية، الذرية فالإيدروجينية، فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وباستخدام القنبلة الذرية بالفعل فى خواتيم الحرب العالمية الثانية عام 1945 مما يعرف بقنبلة «هيروشيما ونجازاكى»، من أجل وضع «لمسة الختام» على الاستسلام اليابانى فى الحرب، ومن ثم نهاية حقبة تاريخية كاملة، وافتتاح ما يليها مما نعيشه حتى الآن، عبر مراحل مختلفة، وصور متنوعة.
وقد أدى الإدراك العام الدولى المتنامى بالقوة التدميرية الواسعة للأسلحة النووية، إلى إبرام «معاهدة عدم الانتشار النووى» NPT حيث تم التوقيع عليها (بالأحرف الأولى) بتاريخ الأول من يوليو عام 1968، ثم دخلت حيز النفاذ ــ لفترة محدودة ــ باكتمال العدد المطلوب للمصدّقين عليها، وذلك بتاريخ الخامس من مارس عام 1970، وبحيث يتم النظر فى أمر انتهاء أجلها أو تمديدها، كما سنرى.
تحت وطأة التنافس القطبى الثنائى خلال مرحلة «ما بعد الحرب» (1945 ــ 1990) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، ثم روسيا «الدولة الوارثة للسوفييت»، تم عقد اتفاقية للحظر الشامل للتجارب النووية، والتى تبنّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 10 سبتمبر عام 1996، وإن لم يقدّر لها أن تدخل حيز النفاذ حتى الآن. ولعلنا لا ننسى هنا تجارب فرنسا الاستعمارية فى الصحراء الجزائرية منذ نهاية الأربعينيات حتى استقلال الجزائر فى الخامس من يوليو 1962، وما تزال آثار تلك التجارب شاخصة حتى الآن على أوجه البشر والحجر فى الجزائر الشقيقة. ثم كانت هناك معاهدة «ستارت» START حول الخفض المتبادل للأسلحة الهجومية الاستراتيجية ــ من الرءوس الحربية وآليات إطلاقها ــ بين الولايات المتحدة وروسيا، على عدة دورات، تم التوقيع على أولاها (أو ما يعرف بـ «ستارت الأولى») فى 8 إبريل 2010 والتى دخلت حيز النفاذ فى 5 فبراير 2011 وتم تجديدها لعدة دورات. وقد تم الاتفاق فى منتصف 2021 على تمديدها لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة. ولعل أهم العقبات التى تواجه (ستارت) عدم التوافق بين الطرفين ــ الولايات المتحدة وروسيا ــ على آليات محددة للتفتيش والتحقق. وتجدر الإشارة هنا إلى اجتماع فنى مزمع بينهما مكرس لهذا الغرض وذلك فى العاصمة العربية المصرية القاهرة خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2022.
وعودٌ إلى «معاهدة عدم الانتشار النووى»، فقد تفتقت أذهان (القوى العظمى) وخاصة (القوة العظمى الوحيدة!) فى حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، على العمل من أجل «التمديد الأبدى» للمعاهدة، مع عقد مؤتمر للمراجعة الدورية للمعاهدة كل خمس سنوات وكان أحدثها المؤتمر العاشر الذى انعقد فى نيويورك فى 30 أغسطس من هذا العام 2022 مع فشله فى إصدار البيان الختامى، نظرا للخلاف بين القوى النووية الرئيسية، والذى تفاقم على وقع «الأزمة الأوكرانية».
هذا وكان قد تم الاتفاق على «التمديد الأبدى» ــ كاتفاق «إذعان» فى الحقيقة وبضغط قوى من الولايات المتحدة بالذات ــ خلال مؤتمر المراجعة المعقود بمناسبة مرور 25 عاما على دخول المعاهدة حيز النفاذ، بتاريخ 11 مايو 1995، وهى المدة التى كانت مقررة لها أصلا كأجل زمنى مقطوع.
يشار إلى أنه فى ذلك الوقت البعيد، أواسط 1995، حاولت مصر ومعها عدد قليل من الدول، إبطاء وتيرة العمل من أجل «التمديد الأبدى» ثم حاولت ربط مطلب التمديد، بطلب موازٍ لإدخال الكيان الصهيونى إسرائيل فى كنف المعاهدة التى لم تنضم إليها أصلا. ثم حاولت العمل على دفع ذلك الكيان للانضمام، على الأقل، لـ«اتفاقية الضمانات الشاملة والتفتيش المفاجئ على المرافق النووية»، برغم حيازته للقدرات النووية ثم للسلاح النووى منذ 1957، كأداة غير مشروعة للردع الإقليمى، فى ظل ما يسمى «الغموض الاستراتيجى» المتعمّد، أى حيازة السلاح ولكن دون إعلان. كما ذهبت أدراج الرياح المحاولات الرسمية العربية من أجل الاتفاق على جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، بهدف جعل الكيان الصهيونى منزوع الأنياب النووية.
هكذا سيطر مزاج «النفاق الدولى»، وإن شئت فقل التواطؤ الصريح أو الضمنى بين الدول النووية الخمسة المعلنة التى اعترفت لها (معاهدة عدم الانتشار) وحدها برخصة حيازة السلاح، باعتبارها «الدول النووية» الوحيدة، دون قابلية لنشره خارجها. إنها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى (روسيا) والصين وفرنسا وبريطانيا، وغير ذلك وجدت أربع دول وكيانات نووية غير معلنة هى الهند وباكستان وكوريا الشمالية والكيان الصهيونى إسرائيل. مع ملاحظة أن كوريا الشمالية قد أعلنت نفسها ــ مؤخّرا وأخيرًا ــ كدولة نووية، بمقتضى القرار الصادر من برلمان (جمهورية كوريا الديمقراطية) ــ «مجلس الشعب الأعلى» بتاريخ 8 سبتمبر 2022.
• • •
ولقد أخذ يطل علينا شبح الحرب النووية، الذى يتحول سريعًا من حيز التكهن إلى حيز الاحتمال ــ الأكيد أو غير الأكيد، على وقع تطورات الأزمة الأوكرانية الراهنة. فلم يعد الحديث يجرى حول مجرد إمكان نشوب (الحرب العالمية الثالثة)، فقط، ولكن الحرب النووية بالذات. أفرأيتم إذن إلى أين يقودنا الصراع الأعمى، الذى يجرى بقيادة قوة عظمى (بغير ضمير) ــ الولايات المتحدة كقوة عاملة على تأجيل سقوطها بعد اضمحلالها، ولو عن طريق المقامرة بامتلاك ونشر وربما استخدام الأسلحة التدميرية الشاملة، نووية وكيماوية وبيولوجية.
الآن وقد أطلّ الشبح، شبح الحرب النووية العالمية، ليصبح جَدّا من الجَد بدون هزل، هل آن الأوان للعمل على خيار (مسكوت عنه) ــ كما يقولون، وهو الخيار الذى كانت أبرمت معاهدة (عدم الانتشار) تحت ظله الظليل..!، أى التصفية الكاملة للأسلحة النووية..! إن ذلك لم يعد خيارا من أجل شىء من الرفاهية، ولكن من أجل إنقاذ البشرية من الفناء المؤكد، كليا أو جزئيا.
ومن أعجب العُجاب، أن يبتعد خيار التصفية الكاملة للأسلحة النووية، وغيرها من أسلحة التدمير الشامل، والأسلحة الواقعة تحت مستوى «التدمير الشامل» باتجاه «الدمار المتوسط..».! هذا بينما ترتفع عالية نبرة الحديث عن الحرب التدميرية، ولو كانت من قبيل الأسلحة النووية التكتيكية وما يسمى بالقنبلة القذرة، على جبهات ساخنة بالفعل، وذلك على ألسنة، وبأيدى الذيول التى تعمل كبؤر متفجرة التوتر العالمى والإقليمى، فى سياق حروب بالوكالة للدمار البشرى (وما كيانات أوكرانيا وتايوان والكيان الصهيونى إسرائيل ببعيدة).
إنه التناقض الملغز الذى يلفّ عالم «البشرية المعذبة» فى زماننا. فحيث، وحين، يجب البحث عن أى سبيل لتصفية أسلحة الدمار الشامل، وقد أصبح احتمال استخدامها، قريبًا بعد أن كان بعيدًا، يجرى شحذ النقيض على قدم وساق، من أجل زيادة حدة التوتر الحربى، إلى حد التلويح بالحرب النووية.
فإلى أين نسير، وألا يوجد على أرض الكوكب المعذب، (رجل رشيد..!) يبعد خيار الحرب العالمية النووية، ويزيح شبح التدمير الذى لن يبقى ولن يذر…؟!
وإنّا لفى الانتظار على أحرّ من الجمر..!
محمد عبد الشفيع عيسى، مفكر وباحث ومناضل عربي من مصر
نشر في موقع صحيفة الشروق
الخميس، 17نوفمبر/ تشرين الثاني، 2022