اللغة العربية العريقة تتحدث على لسان شاعر النيل فتقول مدافعة عن نفسها أمام أى تقصير منها فى حق حركة التطور الحضارى متهمة المتحدثين بها بهجرها والتواء ألسنتهم عنها:
وسعتِ كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقتِ عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر فى أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
ظهرت فى الآونة الأخيرة دعوات كثيرة إلى إعداد معاجم لرصد الدخيل من الكلمات على اللغة الفصحي، ومنها دعوة الدكتور عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة قسم اللغة العربية بكلية الآداب إلى إنشاء معجم لرصد العامية المصرية ولغة السوشيال ميديا، لكن من اتجاهات وزوايا لغوية مختلفة، بخلاف ما تم تدشينه فى مرحلة سابقة كالمعجم التاريخى الصادر عن إمارة الشارقة، وموسوعة الاستغراب الصادر فى دولة قطر، خاصة مع اتساع رقعة النمو اللغوى وحركة الرقمنة الحديثة، ودخول مصطلحات وكلمات وعبارات جديدة على اللغة العربية «الأهرام» حملت هذا الملف ووضعته أمام المختصين ليشخصوا المشاكل التى تواجه لغتنا الفصيحة ويضعوا حلولا لها .
ويتفق الدكتور محمود الربيعى نائب رئيس مجمع اللغة العربية مع دعوى العمل على رصد العامية المصرية فى معجم خاص بشرط توافر الإمكانات البشرية المؤهلة لذلك، وضرب مثلا بمعجم لسان العرب حيث نهض به فرد واحد، ويوضح أننا إذا رفضنا رصد العامية فى معجم خاص فعلينا إحراق كل المعاجم التى رصدت العامية فى مختلف العصور، مؤكدا أن الكلمات العامية هى بنات اللغة العربية ولابد أن تكون فى خدمتها، وأيضا لا تتغول عليها، لافتا إلى ان كلمات السوشيال ميديا وأغانى المهرجانات هى طور من أطوار العامية، وأوضح أن الأساس العلمى الذى ينبغى أن يسير عليه أى راصد للعامية هو المسح التاريخى للكلمة بحيث يتضح من خلاله مدى موافقة الكلمة لكلمات الفصحى وهل هى جزء منها أو داخلة عليها من لغات أخرى كالفارسية واليونانية أو الإغريقية والإنجليزية ومدى ما تثرى به الكلمة المعجم العربى وهل يوجد ضرر من اعتمادها ضمن المعجم العربى أو لا؟ لافتا إلى أن رفض كل الكلمات العامية هو نوع من الجمود والتحجر وقد يؤدى إلى الموت لأن اللغة كائن حي.
ضرورة استيعاب النمو اللغوى
أما الدكتور عبد الرحمن سالم عضو هيئة إصدار معجم التاريخ والآثار بمجمع اللغة العربية فيؤكد أن المعاجم التراثية أدت ما عليها تجاه المتحدث العربى خلال العصور المختلفة ولكن دعت الحاجة الآن إلى إصدار معاجم جديدة لعدم توافر شروح مبسطة للكلمات والعبارات المستخدمة، فربما يقرأ المثقف فى معاجم التراث فلا يفهم المراد من شرح الكلمات أو قد يفهم بشكل معاكس وذلك لبعد العهد بين لغة الكتابة وبيئة الكاتب والبيئة الحالية لاستخدام الكلمات، وكأن القارئ يحتاج إلى شرح للشرح ليعرف المدلول المحدد للكلمة التى يبحث عنها، لافتا إلى أن اللغة العربية تنمو كل يوم فالمجال الاقتصادى مليء بالمصطلحات الجديدة وكذلك السياسى والتكنولوجى فلابد من رصد حركة النمو لهذه المصطلحات والكلمات مشيرا إلى أن المعاجم الغربية الحديثة تضمنت شرحا ليس للعبارات والكلمات الجديدة فقط وإنما أضافوا إليها الشخصيات البارزة عبر التاريخ الحديث والعلوم المختلفة وكذلك الحركات سواء السياسية أو الدينية فأصبحت هذه المعاجم كأنها موسوعات علمية بلغة مبسطة سليمة.
ويوضح د. سالم أن اللغة العربية تمر بمأزق حاليا متمثلا فى عدم الاهتمام بها خلال مراحل التعليم المختلفة، داعيا إلى إعادة اختيار نماذج مشوقة للطلاب وتدريسها بطريقة تحبب الطلاب فى اللغة العربية والبعد عن التقعر ومهجور اللغة، لافتا إلى اتساع دائرة النصوص الجميلة المتوافرة فى العصور اللغوية المختلفة منذ العصر الجاهلى ثم صدر الإسلامى فالعباسى فالأموي، رافضا الغزو الممنهج للعامية لقاعات الدرس فى الجامعات خاصة الجامعات الخاصة أو معاجم الفصحي، مؤكدا أن التساهل فى التعاطى بالعامية هو تساهل فى الهوية، وكما قال شاعر النيل: وكم عزَّ أقوامٌ بعزِ لُغَاتِهم، فلا يقبل على سبيل المثال أن يتحدث مذيع الإذاعة البريطانية إلا باللغة الإنجليزية التى تتحدث بها ملكة بريطانيا، بل يوجد قانون فى فرنسا يجرم الحديث بأى لغة غير الفرنسية فى إذاعاتها.
نواجه مأزق طوارئ
ويتفق الدكتور بهاء حسب الله أستاذ الأدب بجامعة حلوان مع الدكتور سالم على أن اللغة العربية تمر بمأزق مضيفا أنه مأزق طوارئ، لافتا إلى أن اللغة العربية لا يوجد لديها موانع بنيوية أو اختصاصات تمنعها من أن تستوعب التطورات اللغوية والمصطلحات الحديثة فى شتى العلوم، ويوضح أن المعاجم الصادرة عن مجمع اللغة العربية ركزت على مناهج بعينها لم تخرج عن تفاسير الفصحى وتأصيلها والتأسيس لها، ولم تمس ألفاظ العامية ومفرداتها من قريب أو من بعيد ، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى بذل الجهود الشخصية من أجل محاولة رصد الدخيل فى اللغة العربية من العامية المصرية متمثلا فى عدد من المشروعات المعجمية على رأسها ما قام به الدكتور فتح الله سليمان الذى رصد الكلمات العامية الدخيلة وقام بتعريفها تحت اسم المعجم الدخيل فى اللغة العربية ولهجاتها.
ويوضح د. حسب الله أن لغة الدراما المصرية أكثر تأثيرا فى المجتمع بالمقارنة بأكبر المعاجم التراثية، وهى القوة الناعمة للشخصية المصرية فى محيطها العربى داعيا إلى إنشاء معاجم تتناول لغة الأدب خاصة الرواية والدراما المصرية لما لها من أصول فصيحة صحيحة الجذر اللغوي، لافتا إلى أن الدعوة إلى رصد العامية ليست دعوة لتقنين استخدام العامية فى لغة الدرس والشرح لكن تأتى من باب المحافظة على اللغة فى إطار من رصد التطور الحادث فى العبارات والكلمات والمصطلحات.
تحديث لكن بشروط
من جهته وضع الشاعر الدكتور احمد بلبولة استاذ الأدب بكلية دار العلوم شروطا علمية لإنشاء معاجم جديدة منها ألا يكون الغرض منها محاربة الفصحي، أو إزاحتها واستبدالها، فالفصحى لغة أمة كاملة، ولغة دين يعزز من استمرارية هذه الأمة، ومصر لم تغير لغتها إلا وفق اختيار حضارى رأت فيه أن كل قيمها السامية نادى بها الإسلام، وكل أسئلتها الحائرة أجاب عنها. إذن مسألة الإزاحة مرفوضة تماما، وهو يرى أن فكرة المعاجم الجديدة مهمة ووجيهة ولها فوائدها فى مجالات شتى منها تعليم اللغة للناطقين بغيرها، والدراما والسينما، بالإضافة إلى كونها تعكس التحولات الاجتماعية والثقافية فى البيئات المختلفة، وإعداد معاجم لها يمكن أن يكون مفيدا فى تعزيز الفصحى وبخاصة حين يكون الهدف هو تضييق الفجوة بينها وبين الفصحي. أما عن إدخال العامية فى معجم الشاعر، فهو من طرق تضييق الهوة بين الفصحى والعامية؛ لأن الشاعر حين يدخل مفردة ما إنما يخضعها لقوانين الفصحي، وهى طريقة قديمة من طرق إثرائها و»عصرنتها» لكن لابد أن يكون ذلك محسوبا وبقدر لا تفريط فيه أو اتخاذه منهاجا ينال من جلال العربية وهو أمر مرفوض بمنطق الفن ذاته، واللغة تلفظه وتسقطه.
وأكد بلبولة ان لغة المهرجانات هى من الموضات التى تأخذ وقتها وتنحسر بعد ذلك، وهى تموجات تنتج عن غياب الوعى بالثقافة فى الفن ذاته، ولاشك أن حالة السيولة التى صنعتها ثورة التواصل الاجتماعى أحد أسباب هذه الظواهر، فبالمقارنة بين ما نعيشه وما كان من قبل نجد أن المطرب الشعبى كان يستمد كلماته من اللغة الجارية على ألسنة العوام وكان تعكس ثقافة مصدرها الإذاعة والتليفزيون حين كان يتبع الخطة الرشيدة للدولة، وأعتقد أن هذا التوجه موجود الآن مع حرص الدولة على إعادة إذاعة مسلسلات لها قيمة تاريخية وحضارية كرأفت الهجان وأرابيسك وليالى الحلمية، لكن للأسف الفضاء مفتوح الآن وهو مولع بالتافه أكثر من ولعه بالمحتوى الذى يعكس قيمنا وأحلامنا، ويخلص إلى أن التحدى كبير ولا بد من تكاتف مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى لأن المسألة ليست مسألة لغة بقدر ما هى مسألة وجود يحدق به الخطر!
إبراهيم فهمى
منشور الأهرام، يوم الأحد 10 من جمادي الأولى 1444 هــ 4 ديسمبر/ كانون الأول 2022 السنة 147 العدد 49671
COMMENTS