تسنّت لنا الفرصة لحضور فيلم وثائقي حول «احتلال العقل الأميركي». عنوان الفيلم، الذي طوله 82 دقيقة، برنامج قائم بحدّ ذاته. منتجو الفيلم أميركيون وليسوا عرباً! الجمهور الحاضر أكثريته الساحقة من الأميركيين وبينهم يهود. عرفنا ذلك خلال مرحلة الأسئلة والإجابات، بعد عرض الفيلم والانتقادات الحادة للكيان وللوبي الصهيوني، كانت من جهات يهودية.
أحد منتجي الفيلم، الدكتور سوت جهالي، أستاذ جامعي أميركي من أصول أفريقية، مختصّ بعلم التواصل في جامعة ماساشوستس، في مدينة أمهرست. وهي من أعرق الجامعات في الولايات المتحدة. عرض الفيلم آليات الخطاب الدعائي الصهيوني والشخصيات المخططة لصوغ سردية تخدم مصالح الكيان وكيف يتمّ ترويجها في وسائل الإعلام الأميركية كافة، خصوصا الإعلام المهيمن. ركّز الفيلم على دور فرانك لونز، أحد أهمّ العقول الدعائية في الولايات المتحدة، الذي اقترح على حكومة الكيان ترويج سردية «الدفاع عن النفس» وتحميل الضحية مسؤولية اضطرار الكيان للدفاع عن النفس. هكذا كان الأمر بالنسبة للعدوان الصهيوني على غزة، منذ عام 2008. طبعاً هناك عقول أخرى روّجت لغزو لبنان عام 1982 ، لكن من دون الاستفادة من وسائل التواصل الحديثة.
أما اليوم، فعلى ما يبدو لم تعد السردية المعهودة، في الإعلام المهيمن، مقبولة لدى شرائح واسعة من الجمهور الأميركي. وهذا ما يثير قلق المواقع ومراكز الأبحاث المؤيّدة للكيان الصهيوني. فمعهد «بروكنز» المرموق، يتحكّم رجل الأعمال الأميركي الصهيوني، حاييم صبّان، بتوجّهاته، في الملفّات العائدة للصراع العربي الصهيوني، حتى أصبح فرع معهد «بروكنز» المعني بالشرق الأوسط، مركز حاييم صبّان للشرق الأوسط. ففي إحدى نشراته اليومية الأخيرة، خبر عن استطلاع للرأي العام الأميركي، حول صفقة المساعدات العسكرية للكيان الصهيوني، المقدّرة بـ 38 مليار دولار. أبرز الاستطلاع المذكور، أنّ الأميركيين منقسمون حول جدوى تلك المساعدات. وأنّ أكثرية الديمقراطيين يعتبرونها غير طبيعية. فبغضّ النظر عن التعليقات التي تصدر عن المعهد وعن مواقع أخرى مماثلة له، هذا اعتراف بالتراجع في التأييد المطلق للكيان. والانتقاد ليس محصوراً في الجهة الديمقراطية، فالنائب السابق الجمهوري، رون بول، اعتبر أنّ المساعدة العسكرية الأميركية للكيان، في غير محلّها. ويعتبر أنّ دولة الكيان غنية بما يكفي وأنّ 38 مليار دولار يجب أن تُنفق على الاحتياجات الأميركية، التي تشكو من نقص في التمويل، خصوصا أنّ حالة الفقر في الولايات المتحدة تتفشّى يوماً بعد يوم. إذاً، هناك عمل تراكمي قد يصل قريباً إلى نقطة اللارجوع، أيّ في مراجعة الدعم الأميركي للكيان، على الأقلّ على الصعيد الشعبي.
الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة تتحسّس بشكل واضح، من تراجع نفوذها بشكل عام وخصوصا عند الشباب وفي الجامعات الأميركية. حركة مقاطعة المنتوجات والاستثمارات في الكيان الصهيوني، المعروفة بحركة «بي، دي، أس» تقدّمت بشكل ملموس في الجامعات الأميركية، مما حثّ مؤيدي الكيان على انتزاع تشريعات في الولايات، لمنع تلك الحركة ووصفها بالمعادات للسامية، خصوصا بعد خسارتها معركة كسب عقول وقلوب الشباب الأميركي. فالمعركة محتدمة وكما يقول فرانك لونز، فإنّ الوضع عند الشباب الأميركي كارثي بالنسبة للكيان وتأييده.
منذ أيام قليلة، قرّرت جامعة كاليفورنيا «يو، سي، ال، أي» إعادة تدريس «فلسطين» في برنامجها، رغم اعتراض الجماعات الصهيونية التي يقودها دانيال بايبس والن درشويتز. كما أنّ جمعية الجامعيين الأميركيين قرّرت، منذ فترة، مقاطعة الأكاديميين الصهاينة. فأينما تتجه ترى مؤشرات عديدة عن التحوّل في الرأي العام تجاه فلسطين والكيان، رغم سيطرة الجماعات الصهيونية على الإعلام المهيمن.
تلك الهيمنة، هي الحافز للجوء إلى الإعلام الموازي، أيّ الإعلام في الشبكة العنكبوتية وعبر وسائل التواصل الحديثة. أحد الجامعيين المهتمّين بالموضوع الإعلامي، أطلعنا على محاولات حثيثة للسيطرة على «الانترنت» من قبل الحكومة والجماعات الصهيونية. حتى الآن، لم تفلح ولكن المحاولات موجودة، ما يدلّ على مدى التراجع في المكانة الصهيونية.
الموضوع ليس مقتصراً على مجمل الجمهور الأميركي، بل يشمل يهود أميركا. ففي مقال في مجلّة «فورين بوليسي» في آذار/ مارس 2016 يتساءل الكاتب بروس ستوكس، إذا ما بدأ يهود أميركا يبتعدون عن الكيان. الصحيفة الصهيونية «هآرتس» طرحت السؤال نفسه، في مقال عام 2009 وتساءلت لماذا يبتعد الأميركيون اليهود عن الكيان؟ كذلك الأمر، في مجلّة «موزايك مغازين» في عددها بتاريخ 4 نيسان/ ابريل 2016، فمهما تعدّدت الأسباب في مختلف المقالات والتحليلات: النتيجة واحدة.
وما يثبت تراجع النفوذ الصهيوني في السياسة الداخلية الأميركية، رغم المظاهر الاستعراضية للقوة والضغط على الإدارة، هو فشل منظمة «أيباك» ومعها حكومة الكيان، في إلحاق الهزيمة بالرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2012. كما أنّ المشهد المقزّز لتصفيق «الكونغرس» الأميركي لـ«نتنياهو» في تحدّيه السافر للرئيس الأميركي، خلق ردة فعل بدأت تتجلّى في الخطاب السياسي لعدد من السياسيين والمحلّلين. فباتريك بيوكانان، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة، يعتبر في سلسلة من المقالات، أنّ «الكونغرس» الأميركي أرض محتلّة من قبل الكيان. وخلال المناظرات بين المرشحّين الجمهوريين وترامب، انتقد كلّ المرشحّين آنذاك، دونالد ترامب، لتصريحه بأنه يقف على الحياد في الصراع في فلسطين. فكان كلام تيد كروز ومارك روبيو، أنّ الحياد في موضوع الصراع في فلسطين، موقف معاد للكيان! رغم ذلك انتصر ترامب. ولذلك، نرى الإعلام المهيمن لا يوفّر انتقاداته لترامب، ليس بسبب مواقفه الداخلية، بل بسبب مواقفه في السياسة الخارجية التي تتنافى مع مصلحة الكيان. فترامب يعتبر أن من الممكن التفاهم مع روسيا والحلّ السياسي في سورية وفي فلسطين. وهذه من الممنوعات عند حزب الحرب في الولايات المتحدة، الذي هو أيضاً حزب الكيان الصهيوني.
حتى المرشح الديمقراطي برني سندرز، اتسم خطابه السياسي بالاعتدال في موضوع الصراع في فلسطين، علماً أنه يهودي! ولذلك، كان من الضروري إقصاءه من التسمية، عبر عملية تزوير الإرادة الشعبية داخل الحزب الديمقراطي وذلك، من قبل قيادة الحزب. فتسريبات «ويكيليكس» قضت على مصداقية تلك القيادة وزرعت الشكوك في القاعدة الديمقراطية، التي قد تخذل المرشحة هيلاري كلنتون يوم الانتخاب.
هذه المؤشرات تدلّ بوضوح، أنه حتى في الخطاب السياسي لرموز لها قاعدة شعبية واسعة، إن سيطرة النفوذ الصهيوني لم تعد مطلقة. ما زالت موجودة ولكنها في تراجع ملموس، يزداد يوما بعد يوم.
زباد حافظ، الأمين العام للمؤتمر القومي العربي