على مشارف السابعة والسبعين، لم يفقد «الحلزون العنيد»، رشيد بوجدرة، شيئاً من عناده وعنفوانه. فضلاً عن إسهاماته الأدبية الضخمة، التي تضاهي 35 مؤلفاً في الرواية والشعر والمسرح والسيناريو السينمائي، يعدّ صاحب «التطليق» (منشورات «دونويل» ـ باريس ـ 1969) مثقفاً صدامياً وإشكالياً بامتياز، يشتهر بمواقفه وتصريحاته النارية، التي لا يكفّ من خلالها عن إضرام الحرائق وإثارة المعارك الثقافية والسجالات الفكرية والسياسية.
بعضهم يرى في رشيد بوجدرة محارباً دونكيشوتياً يقارع طواحين الهواء، بحثاً عن بطولة وهمية أو شهرة زائفة. بينما يراه البعض الآخر بطلاً سيزيفياً يصرّ على الإمساك بجمرة الحقيقة، مهما كانت حارقة، ولا يكلّ عن رشق المستنقعات الآسنة، التي تتخبط فيها الحياة الثقافية والسياسية لبلاده بحصى النقد، أملاً في إيقاظ الضمائر والتأسيس لـ «وعي ثوري متجدد». في رمضان الماضي، شهدت الجزائر حملة تضامن عارمة مع رشيد بوجدرة، على إثر برنامج تلفزيوني حاول تكفيره. التفّ حوله أقرانه من الكُتاب والمثقفين، على اختلاف مشاربهم. وتمخضت قضيته عن حراك ثقافي واعد لمواجهة الهجمة التكفيرية التي تشهدها الجزائر. لكن صاحب «فوضى الأشياء» (منشورات «بوشان» – الجزائر – 1991) سرعان ما عاد لتوجيه سهامه الحارقة إلى عدد من أقرانه الكتاب. وإذا بأصدقائه ومؤيديه ينفضّون عنه، ليجد نفسه في مرمى النيران، التي انفتحت عليه مجدداً من كل الجهات. ووصل الأمر بعدد من المثقفين الجزائريين إلى كتابة مقالة غريبة النبرة، بعنوان: «أما آن لرشيد بوجدرة أن يصمت؟»! ما القصة مع رشيد بوجدرة؟ من يريد إسكات صوت هذا المثقف التقدمي الصلب، المتمسك بماركسيته في بلد بات فريسة للتكفير والعنف الفكري؟ لماذا باتت نبرة بوجدرة النقدية تزعج جميع الأفرقاء في الجزائر، سلطة ومعارضة، إسلاميين ومثقفين تقدميين؟
«الأخبار» التقت بوجدرة في بيته، في العاصمة الجزائرية، وأجرت معه الحوار التالي:
■ كيف ترى «حراك المثقفين» الذي نشأ هذا الصيف في الجزائر، على إثر فضيحة «الكاميرا التكفيرية» التي تعرضتَ لها على قناة «النهار» المقربة من الأوساط المحافظة في السلطة (الأخبار 2/6/2017)؟
الصراع قديم. ليس وليد اليوم. في الجزائر، كما في كل دول العالم، هناك لدى المثقفين، وفي المجتمع ككل، شق تقدمي متفتح، وشق آخر متحجر. هذا الصراع بدأ عندنا منذ الاستقلال، عام 1962. بل حتى خلال الثورة الجزائرية، كان هذا الصراع قائماً. هناك تصفيات طالت المثقفين الذين انخرطوا في الثورة. خذ، مثلاً، قضية اغتيال الشهيد عبان رمضان (أحد القادة المؤسسين للثورة الجزائرية). النص الأدبي الوحيد الذي تحدث عنه هو روايتي «شجر الصبّار» (منشورات غراسيه – باريس – 2010). لماذا اغتيل عبان من قبل رفاقه في السلاح؟ اغتيل بسبب أفكاره. منذ بداية الثورة الجزائرية، كان هناك يسار ويمين متصارعان. والصراع ذاته ما زال قائماً. لكنه الآن صار مغلفاً بالدين. رأينا كيف دخلت الإسلاموية إلى الجزائر وتغلغلت فيها، وفعلت ما فعلت خلال عقد التسعينيات. والآن، بالرغم من أن العنف المسلح اختفى أو تراجع، إلا أن الإسلاميين ما زالوا فاعلين في المجال الاجتماعي. إنهم يتحالفون مع الفئات المحافظة والرجعية في المجتمع. لذا، تراجع العنف الجسدي أو المسلح، وحلت محله أشكال أخرى من العنف الفكري والاجتماعي. الإسلاميون يستعملون الحيلة الآن، ويلجأون الى تغليف خطابهم بمفاهيم الحلال والحرام والدفاع عن القيم. بالنسبة لهم الحرب خدعة. ذلك ما كان ينادي به زعيم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، عباسي مدني، ويشجع عليه منذ عام 1992. ما زلنا نعيش تبعات هذه الحرب المخادعة. حرب لم تعد مسلحة، بل صارت تخاض بوسائل أخرى. انظر إلى هذه القنوات التلفزيونية التي ظهرت في الجزائر: أكثر من 10 قنوات تعمل بشكل غير قانوني. ليست لها رخص بث جزائرية. أغلبها ذات رخص خليجية، وتبث عبر الأقمار الصناعية، رغم أن مكاتبها موجودة في الجزائر. ما هي وظيفة؟ إنها تتلاعب عمداً بعقل الجمهور البسيط، الذي يحب الإثارة والقضايا التهريجية. هي تستغل ذلك لخدمة التيار الإسلاموي، الذي لا يزدهر سوى في ظل التجهيل والخرافة. لكن العيب ليس في تلك القنوات وأصحابها، بل في الدولة. الدولة الجزائرية تبدي على الدوام حرصاً بالغاً على السيادة الوطنية. لذا، لا نفهم لماذا تسكت عن هذه القنوات التي تخدم استراتيجية تخل بسيادة البلاد؟ هذه القنوات أدوات دعائية تعمل على تكريس وتقوية النفوذ الخليجي في الجزائر. نفوذ لم يعد دينياً أو مذهبياً فقط، بل صار يطمح أن يكون اجتماعياً ودبلوماسياً وسياسياً أيضاً. لا أدري لماذا تسكت السلطات الجزائرية عن ذلك؟ هل لأغراض سياسية؟ أم لمصالح مرتبطة بالفساد المالي؟
■ لكن أنت كمثقف تقدمي، لماذا تقبل بالظهور على هذه القنوات التلفزيونية التي تصفها بالرجعية؟
دعني أقول لك، منذ أكثر من 5 سنوات لم يُسمح لي بالظهور في القنوات التلفزيونية الرسمية التابعة للقطاع العام في الجزائر. طوال هذه السنين، لم توجه لي الدعوة للمشاركة في أي نقاش أو برنامج أو حوار، بينما القنوات الخاصة التي نتحدث عنها ـــ رغم أنّها جميعاً ذات خلفيات إسلاموية ـــ توجه لي الدعوات بانتظام للمشاركة في برامجها. خذ، مثلاً قناة «الشروق». لقد نظمت مناظرة فكرية بيني وبين أبو جرة سلطاني (أحد مؤسسي «حركة حماس» الإسلامية الجزائرية). كان النقاش بيننا راقياً ومفيداً. كان البرنامج جدياً والنقاش مفتوحاً ومتوازناً. سلطاني تحدث من خلفيته وثقافته وأنا أيضاً لكن من دون أي تصادم أو إقصاء. هو تقبل أشياء كثيرة مني كشيوعي، وأنا أيضاً تقبلت أشياء كثيرة منه كإسلامي، لأنه منفتح ومتسامح. لماذا لا تقوم القناة الأولى الجزائرية، أو غيرها من قنوات التلفزيون العمومي بتنظيم نقاشات أو سجالات فكرية من هذا النوع؟ لماذا يُترك ذلك إلى قنوات خاصة ذات خلفيات مشبوهة، وتخدم أجندات غير وطنية؟ ونحن، كمثقفين تقدميين، ماذا نفعل؟ هل يجب أن نقاطع تلك القنوات، وهي الأكثر مشاهدة وتأثيراً في الرأي العام، ونترك التيارات الرجعية والمحافظة والإسلاموية تستفرد بالمشاهد الجزائري وتغرقه بالشعوذة والخرافة والغيبيات؟ أنا ممن يفضلون النزول الى المعمعة، وخوض المعارك الفكرية والثقافية، مهما كانت المخاطر. لا يخفى عليَّ أن أغلب هذه القنوات حين توجه لي الدعوة للمشاركة في برامجها، تكون لديها رغبة مبيتة في الإساءة إليّ. من خلال رشيد بوجدرة، يريدون الانتقام من كل ما هو فكر تقدمي أو يساري. يريدون أن يظهروا أمام الشعب بأنهم متدينون ونحن كفار. يستعملون خطاباً شعبوياً وديماغوجياً. لكن الحيلة لا تنطلي على أحد. الكل يعرف أن أصحاب هذه القنوات منافقون وخبثاء وفاسدون أخلاقياً وسياسياً. هؤلاء انتهازيون يلعبون ورقة الدين لكسب ودّ الشعب، بينما هم أصلاً غير متدينين، بل يمكن القول إنهم فَاسِقُون، إذا أردنا توصيفهم من وجهة النظر الدينية. وإذا رجعنا إلى النزاع بيني وبين قناة «النهار»، بسبب ذلك البرنامج التكفيري الذي حاول الإيقاع بي، بحجة إنجاز كاميرا خفية من أجل التسلية، الهدف في الحقيقة لا علاقة له بالفكاهة والتسلية. كان قصدهم الحقيقي التحريض ضدي وتكفيري. لكن الشعب وقف في صفي، ولم يتعاطف معهم إطلاقاً، بل تقزز منهم ومن نفاقهم. لم ينجحوا في استمالة الناس، بالرغم من أنهم حاولوا وصمي بالخبث والإلحاد والعمالة، وأن يعطوا لأنفسهم صفة المدافعين عن القيم وعن الوطنية.
■ بالعودة الى المطبات والمقالب التلفزيونية التي تنصب لك، بشكل دوري، من قبل القنوات المقربة من القوى المحافظة في الجزائر، تعرضت لإشكال تكفيري سابق بسبب مجاهرته بإلحادك في برنامج «المحاكمة» على قناة «الشروق». لماذا يقبل رشيد بوجدرة المشاركة في برنامج عنوانه «المحاكمة»؟ لماذ تمنح لهم شرعية مساءلتك حول معتقداتك التي تندرج ضمن الحريات الشخصية؟
لقد وقعتُ في الفخ عن حسن نية. لم أشاهد ذلك البرنامج من قبل، ولم أكن حتى أعرف عنوانه. وثقتُ في مذيعته، وهي صحافية أعرفها، وتعاطفت معها لأن شقيقها، الذي كان صحافياً في القناة الإذاعية الثالثة، اغتيل من قبل الجماعات الإسلامية المسلحة في التسعينيات. جاءتني لزيارتي هنا في البيت. لم تكن محجبة، ولم تبد عليها أي توجهات متزمتة دينياً. حدثتني عن برنامجها، وأقنعتني بالمشاركة فيه، بعدما اتفقنا على المحاور التي سيدور حولها النقاش. لكن، أثناء التصوير، فوجئت بها تطرح أسئلة وإشكاليات خارجة عما توافقنا عليه. رفضت الإجابة عن الكثير من أسئلتها، مما تسبب في توقيف التصوير مرات عدة. ثم وعدتني بأنه سيكون هناك مونتاج للبرنامج، بحيث لا تُدرج فيه الأشياء التي لم أكن راضياً عنها. لكنني فوجئت بأنها أنجزت المونتاج بشكل مغرض للغاية، واستعملت حتى الأشياء التي تحدثنا عنها خلال الاستراحات التي تخللت التصوير الرسمي. وكان واضحاً أن مونتاج البرنامج بذلك الشكل المغرض، تم بتحريض من قبل مدير القناة، علي فضيل، المعروف بتملقه للإسلامويين، رغم أنه شخص فاسد وأبعد ما يكون عن التديّن. أعرفه منذ فترة طويلة، منذ أيّام الدراسة في تونس، أنا كنت في ثانوية الصديقية وهو في الزيتونة. من خلال معرفتي الطويلة به، أستطيع التأكيد بأنه شخص خبيث ومنافق. يلعب ورقة الإسلاميين، لكنني أعرفه جيداً: ليس لديه شيء من الإيمان والأخلاق الإسلامية. والخطاب الذي يروج له من خلال قناته التلفزيونية يندرج في خانة الانتهازية والنفاق السياسي، لا غير.
■ بعد ذلك البرنامج، اندلعت حملة شرسة ضدك بسبب مجاهرتك بالإلحاد. لكنّ كثيرين ممن تضامنوا معك، دفاعاً عن مبدأ حرية المعتقد، فوجئوا بك تتراجع بعدها بأسابيع، خلال تكريمك في «مهرجان وهران السينمائي»، وتتنكر لما قلته، مؤكداً أنك مسلم ولست ملحداً. كيف تفسر ذلك التراجع؟
لقد تعوّدت على الهجمات التكفيرية منذ الستينيات. لكن الغريب في تلك الحملة أنها قامت على مغالطة. لم أقل في ذلك البرنامج التلفزيوني إنني ملحد. لم أقل ذلك إطلاقاً. تحدثت عن الحق في الإلحاد، وضرورة احترام الإلحاد لا بوصفه أمراً يندرج ضمن حرية المعتقد فحسب، بل أيضاً كونه مفهوماً فكرياً يجب النظر إليه كقيمة فلسفية لا ككفر. ذلك ما قلته، ولم أتحدث عن كوني أنا شخصياً ملحد. هذه القضية شخصية، ولا تخص سواي. أنا لا أتحدث عن إلحادي، لأنني احترم مشاعر الجزائريين، ولا أريد أن أصدمهم. هذا الشعب طيب الى أبعد الحدود. والشارع الجزائري غمرني بحبه وتعاطفه خلال هذه الحملات التكفيرية. لم يسبق أن أحسستُ بحب الناس لي كما أحسست به خلال محنتي الأخيرة مع «النهار». الشعب الجزائري يحب الإنسان الصادق، ولو اختلف معه في الرأي. منذ واقعة «النهار»، أينما حللت، الناس يلتفون حولي، ويسلمون علي، ويقولون لي: نحن معك. هذا الشعب لا أستطيع سوى أن أبادله الحب، وأن أعامله بالقدر ذاته من الطيبة. وذلك يبدأ باحترام مشاعره ومراعاة معتقداته.
■ أتفهم ذلك. لكن ما حاجتك لأن تقوم، خلال تكريمك في وهران، بإشهار إسلامك. ربما كان يكفي أن تقول إنك لم تجاهر بالإلحاد، وأنك تحترم مشاعر المؤمنين، من دون أن يصل بك الأمر الى الحديث عن إسلامك والقول بأنك مؤمن، بعد أن كنت تقول العكس طوال عقود؟
لا، لا. أنا تحدثت عن الإسلام، لا عن الإيمان.
بالطبع أنا مسلم ثقافياً. هل تشك في ذلك؟ هذا انتماء حضاري، وهو جزء من هويتي وثقافتي وفكري. دعني أقول لك صراحة: الذين يروّجون بأنني تراجعتُ واعتذرتُ وقلتُ أنني مؤمن، هم بعض الجبناء الذين يحترفون «القوادة الثقافية». هؤلاء لم يتخذوا موقفاً واحداً طوال حياتهم، ثم يتبجحون بالمزايدة على كاتب ومناضل تقدمي وماركسي مثلي محكوم عليه بالإعدام 8 مرات من قبل المتطرفين الإسلامويين. منذ 52 سنة، وأنا أكتب وأناضل دفاعاً عن أفكاري. لم أخفْ يوماً من التعبير عن أفكاري، حتى في أحلك الفترات. في كل كتبي، أدافع باستماتة عن القيم التقدمية وعن الحريات، بما فيها حرية الإلحاد. ولا يمكن أن أنكر ذلك يوماً أو أتراجع عنه. أما أن أظهر على التلفزيون لأستفز مشاعر شعبي بالقول إنني ملحد، فذلك ما لا أريده. وهؤلاء «الطحاحنة» (جمع «طحّان»، ومعناها باللهجة الجزائرية «القوّاد»)، الذين ينتقدونني بسبب هذا الموقف، الذي ليس جبناً أو تراجعاً بل احتراماً لمشاعر هذا الشعب الطيب، لماذا لا يظهرون هم أنفسهم على التلفزيون، ليقولوا إنهم ملاحدة!؟
■ إذا كان الحديث يتعلق بالانتماء إلى الحضارة الإسلامية، وتثمين هذا التراث الثقافي، فالأمر ليس جديداً عنك. سبق أن احتفيت بالصفحات المشرقة للتاريخ الإسلامي في العديد من رواياتك، من «ألف عام وعالم من الحنين» الى «سقوط جبل طارق».
بالفعل، من خلال رواية «ألف عام وعام من الحنين»، كنت أول من ابتدع فكرة استلهام التراث الثقافي الإسلامي في الرواية المغاربية والعربية. لاحقاً، ظهر روائيون آخرون واصلوا هذا المنحى، كجمال الغيطاني وآخرين. لقد كنت أدافع دوماً عن الحضارة الإسلامية، لأنني أؤمن بأن الفلسفة الإسلامية والعلوم الإسلامية شكلت روافد عظيمة في الثقافة الإنسانية، وقدمت خدمات جليلة لتاريخ البشرية. من هذه الناحية، أعتبر نفسي مسلماً. نعم، مسلم ونص، كما قلت في وهران. بل إنني أكثر إسلاماً من هؤلاء الاسلاميين الذين يتخذون من الدين مطية لخداع الناس والتلاعب بعقولهم لأغراض سياسية. أؤمن بأن الحضارة الإسلامية حضارة عظيمة، واعتبر القرآن الكريم كتاباً عظيماً ومبهراً. أما مسألة الإيمان والمعتقد الديني ووجود دين واحد أو إله واحد، فتلك قضايا فلسفية قابلة للنقاش. ومعتقداتي الشخصية في هذا الشأن لا تخص أحداً غيري، ولا يحق لأي كان أن يسائلني بشأنها.
■ ألا ترَ أنّ هناك من يتعمدون خلط المفاهيم، لإلصاق تهم ازدراء المعتقدات الدينية بكل مثقف يناهض التطرف أو التزمت الديني؟
يستطيع المرء أن يكون مثقفاً ماركسياً أو تقدمياً وأن يلعب دوراً طليعياً في تطوير مجتمعه وتثويره، من دون أن يزدري أو يشتم المعتقدات الدينية لشعبه. يجب احترام الناس ومراعاة مشاعر الآخر. هذا هو المفهوم الصحيح للعلمانية: أن تحترم الآخر وتقبل بالتعايش معه، في جو من التسامح والتآخي، رغم كل اختلافاتك معه. أنا، مثلاً، رغم مواقفي المعروفة من التطرّف الديني، كنت صديقاً للشيخ محفوظ نحناح (مؤسس حركة «حماس» الجزائرية). كان يدعوني بانتظام للعشاء في بيته. كان يعرف أنني ماركسي، وكنت أعرف أنه إسلامي. نشأت بيننا تلك الصداقة بيننا، لأنه كان معتدلاً ومتسامحاً، وأنا متفتح واحترم الآخر. كان معجباً بمواقفي الفكرية، لأنني لا أتملق الغرب، وأدافع عن منجزات الحضارة الإسلامية وأفاخر بها. وكان يحترم أيضاً القرار المبدئي والأخلاقي الذي اتخذته بالتخلي عن الفرنسية والكتابة باللغة العربية. وأنا من جهتي كنت معجباً بمواقفه الوطنية ووقوفه بشجاعة ضد العنف والتطرف الديني.
■ الشيخ أبو جرة سلطاني، وريث الشيخ نحناح على رأس حركة «حماس»، خلال المناظرة التلفزيونية التي جرت بينكما، أعاب عليك تناولك موضوع المثلية الأنثوية في روايتك الأخيرة «ربيع»، واعتبر ذلك مجاهرة بالمثلية وترويجاً لها. لماذا كان موقفك دفاعياً، إذ بررت الأمر بأنه يندرج ضمن التخييل الروائي لا غير، بدل أن تواجهه بأن موضوع المثلية طرقه وجاهر به كتاب وشعار كثيرون في التراث الثقافي الإسلامي منذ القدم؟
لم أكن في موقف دفاعياً أو تبريرياً. كل ما في الأمر أن طبيعة البرامج التلفزيونية لا تسمح بتعميق النقاش كثيراً. خلال مناظرة مدتها ساعة واحدة، تصعب الاستفاضة في الحديث. لكنني أعتقد أنني حققتُ إنجازاً هاماً، فقد جعلت الشيخ أبو جرة سلطاني يعترف بأن المثلية ومختلف أشكال الجنس غير الرسمي، الذي يعتبره رجال الدين زنا، هي أمور موجودة في المجتمعات الإسلامية، كما في غيرها. وهو قال إنّ الإسلام يوصي فقد بعدم المجاهرة بذلك، وتوخي السترة. هذا موقف متقدم، ولا يستهان به، بالنسبة الى رجل دين يتزعم حركة إسلامية. وقد تعرض للكثير من الانتقادات والهجمات بسبب مواقفه تلك.
■ السجالات المتكررة التي تخوضها، تثبت في كل مرة مدى شعبيتك وحب الناس لك في الجزائر. لكن، ألا تخشَ أن تُصاب بـ «متلازمة كاتب ياسين»: كانت الناس، في العقود الأخيرة من حياته، لا تسمع عنه سوى من خلال السجالات العاصفة التي كان يثيرها. وكان له محبون كثر، ومنتقدون لا يقلون كثرة. لكن، لا هؤلاء ولا أولئك كانوا يقرأون أعماله. على المنوال ذاته، الجميع في الجزائر يتابع حالياً أخبار بوجدرة وسجالاته النارية المتكررة، لكن مَنْ مِنْ هؤلاء يقرأ أعمالك؟
لا، لا. كاتب ياسين كتب رواية واحدة ثم توقف، وأنا سأصدر الشهر المقبل عملي الأدبي الـ 36. لا مجال للمقارنة. كاتب ياسين توقف عن الكتابة قبل سنوات طويلة من تحوله للكتابة المسرحية باللغة الشعبية الجزائرية. هذا التحول لم أحبذه، ولم يكن صائباً في رأيي. كاتب ياسين كان شعبوياً. كان ماركسياً، نعم. لكن غلب عليه المنحى الشعبوي. أنا على عسكه تماماً. لست شعبوياً. أحب شعبي، بالطبع، وأعيش وسط ناسي. ولا أؤمن بالمثقف البرجعاجي. لكنني حين أكتبُ عملاً أديباً، لا أراعي أي اعتبار آخر غير الانشغال الفني والهم الإبداعي. في الكتابة، لا أداهن أو أتملق أحداً، ولو كان الشعب. لكن خارج الأدب، حين أنهي عملي، أمارس حياتي وواجباتي كمواطن تقدمي ليس ملتزماً فحسب، بل إنني مندفع شديد الاندفاع في نضالاتي وانخراطي في قضايا شعبي. مجتمعي يحتاج مني هذا الاندفاع وهذه الروح السجالية. الإبداع الأدبي والكتابة السجالية يكملان بعضهما، ولا تناقض بينهما. شرط ألا يتداخل الشأن النضالي بالشأن الأدبي. إذا قادتني قناعاتي الماركسية إلى كتابة رواية ملتزمة في تمجيد الاشتراكية والمرافعة نضالياً باسم الشعب الفقير، ستكون رواية فاشلة للغاية. فأنا حينئذ سأخسر الأدبي لحساب السياسي. وإذا تخليت عن حريتي الإبداعية، لاعتبارات إيديولوجية، لن يكون ما سأكتبه أدباً بل بروباغندا.
■ من الميزات الأساسية لأدب بوجدرة أنه لم يقع في فخ الأدلجة، كما فعل بعض أقرانك من الأدباء اليساريين، كالطاهر وطار وعيد الحميد بن هدوقة وغيرهما، ممن انخرطوا في ما كان يسمى بأدب الواقعية الاشتراكية. كيف ترى هؤلاء؟ ماذا تبقى من أعمالهم اليوم؟
للأسف، حتى كاتب ياسين انساق الى ذلك الفخ، تحت تأثير المحيطين به، حين تحوّل إلى الكتابة المسرحية بالعامية الجزائرية. كنتُ أفضّل لو استمر في كتابة أعمال أدبية من مصاف «نجمة»، بدل الانسياق نحو الكتابة الشعوبية. بالنسبة إلى كُتّاب «الواقعية الاشتراكية»، وأبرزهم الطاهر وطار، للأسف لا أجد في أعمالهم أي زخم أدبي أو قدرة على التجديد والإبداع. لذا، لو أسقط عن أعمالهم الجانب الإيديولوجي والخطاب التقدمي، تسقط عنها ورقة التوت! كاتب مثل الطاهر وطار لم يكن مؤهلاً لكتابة رواية فلسفية أو نفسية، لأن ثقافته كانت محدودة، ولأنه للأسف لم يكن يقرأ! لهذا السبب هاجمني كثيراً حين انتقلتُ للكتابة بالعربية، لأنني برهنت بأن القصور لم يكن في العربية، بل في كُتّاب اللغة العربية في الجزائر. لا أتحدث عن وطار وحده، بل عن تيار أدبي كان مهيمناً آنذاك. إذا قمنا بجريدة حساب اليوم، ماذا تبقى من روايات عبد الحميد بن هدوقة، مثلاً؟ لا شيء، للأسف!
■ لكنك تخليت لاحقاً عن اللغة العربية، وعدت الى الكتابة بالفرنسية. لماذا؟
لم أتخل عن اللغة العربية. ما زلت حريصاً على ترجمة كل أعمالي الى العربية. لكنني عدتُ، بالفعل، إلى الكتابة بالفرنسية. سبب ذلك غياب دور نشر جدية باللغة االعربية. كل دور النشر التي تعاملتُ معها بالعربية، نهبت حقوقي. كان لدي عقد مع «منشورات البرزخ» مثلاً، والمفروض أنها إحدى دور النشر الأكثر جدية في الجزائر، لكنها سرقت حقوقي. اضطررتُ لتقديم شكوى ضدها مرتين الى ديوان حقوق التأليف، ولم تدفع لي حقوقي إلا بعد إلزامها قانونياً. لم يقتصر الأمر على ذلك، صاحب «البرزخ» سفيان حجاج ــ رغم ما بيننا من صداقة ــ لم يكتف بنهب حقوقي في الجزائر، بل باع كتابي «المجتزآت الخمس من الصحراء» الى ناشرين أوروبيين في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، من دون علمي، وتقاضى منها مستحقات لم يخبرني بها أصلاً. لم أعرف بالأمر إلا حين التقيتُ صاحبة دار نشر فرنسية في معرض الكتاب في الجزائر، فهنأتني على الكتاب، وقالت لي: بعثنا لك 3 آلاف يورو، وقريباً سنرسل لك دفعة جديدة من الحقوق. وصُعقتْ بأنني لم أكن على علم بأنها اشترت حقوق الكتاب أصلاً! وحين واجهتها بسفيان حجاج، بدأ يغمزني، ويقول: رشيد صديقي، ولا مشاكل بيننا. إلى أن أخجلني، فقلتُ للناشرة الفرنسية بأنه لا إشكال في الأمر، وأنه مجرد سوء فهم. رغم ذلك، لم يسدد لي تلك الحقوق، سوى بعد عامين كاملين! هذا عن دار كبيرة ولها سمعة كـ «البرزخ»، ناهيك بدور النشر الأخرى. نشرتُ، مثلاً، مقالاتي الصحافية التي كانت تصدر بعنوان «حلزونيات» في كتاب عن «دار الحكمة». لم يمنحني صاحب هذه الدار، أحمد ماضي، حتى نسخة واحدة من الكتاب! كنت مسافراً حين صدر، وحين عدتُ الى البلاد كانت نسخه قد نفدت من السوق. مع ذلك، لم يدفع لي حقوقي إلا بعدما وكّلتُ ضده محامياً. نشرت أيضاً روايتي «الانبهار» عن «منشورات جمعية الاختلاف». وحين طالبتهم بحقوقي، بدأوا يتباكون ويقولون: نحن جمعية ثقافية، وليست لدينا أموال. تبيّن أنها فعلاً جمعية: جمعية أشرار!
■ لماذا لم تجرّب النشر في دول عربية أخرى لديها تقاليد عريقة في مجال النشر؟
أي تقاليد عريقة؟! جرّبتُ أن أنشر عند «دار الفارابي» القريبة من الحزب الشيوعي اللبناني، ولم يكن حظي أحسن على الإطلاق. نشرتُ عندهم ثلاث روايات في نسخها الأصلية المكتوبة بالعربية، لكنهم لم يدفعوا لي أي حقوق. لم يخطر في بالهم أصلاً أن يسددوا لي ولو مئة ليرة! هذه حال الناشر العربي. إنه يعتقد بأنه يسدي لك جميلاً حين ينشر عملك، وعليك أن تكون ممتنّاً وشاكراً لفضله، لا أن تطالبه بحقوق تأليف! هذا الوضع لا يناسبني، فأنا أعيش من كتاباتي. لذا، عدت مضطراً الى الكتابة باللغة الفرنسية. وقد قدّمت 12 رواية مكتوبة مباشرة باللغة العربية، فضلاً عن مجموعتين شعريتين. ألا يكفي ذلك؟
■ كيف تفسر الموقف العدائي تجاهك في الإعلام الفرنسي، رغم عودتك للكتابة بلغة موليير؟
إنه عداء سياسي وليس أدبياً. الإعلام الفرنسي لا يهاجم أعمالي الأدبية بل مواقفي السياسية. يعادونني لأنني لا أداهن الغرب، وأعارضه مواقفه من الأزمة السورية، وقبلها من الاحتلال الأميركي للعراق. هاجموني في فرنسا بسبب موقفي النقدي لما أسمي بـ «الربيع العربي». لكن الغرب الآن بدأ يعترف بخطئه، ويقر بالفشل الذريع الذي مني به هذا الربيع المزعوم. كما أن الكثير من وسائل الإعلام الفرنسية تعاديني لأنني شيوعي ومتمسك بماركسيتي. أتذكر، حين كنتُ أنشر رواياتي عند منشورات «دونويل»، كانوا ينصحونني بتفادي المجاهرة بماركسيتي، لأن ذلك لا يوافق هوى الاستبلشمنت الإعلامي والثقافي المهمين. لكنني كنت أتمادى، لاعناً أمهاتهم في كل مناسبة. لم أهتم يوماً بما يكتبه عني الإعلام الفرنسي. لدي قرائي ومحبو أدبي، ولم أحتج يوماً لمداهنة الاستبلشمنت الثقافي الفرنسي أو المراهنة عليه من أجل الترويج لرواياتي.
■ لا شك في أن الموقف الجذري المناصر للقضية الفلسطينية، الذي تتبناه منذ أن نشرت «يوميات فلسطينية» عام 1972، أسهم أيضاً في تأليب الاستبلشمنت الثقافي الفرنسي ضدك؟
نعم، بكل تأكيد. لكن ذلك لم يثنني عن الدفاع باستمرار عن القضية الفلسطينية. أنا لا أتملق الغرب، ولا أخافه. لا أنظر إليه بانبهار ساذج، كما يفعل بعض مثقفينا الجدد الممجدين للهيمنة الغربية، على غرار بوعلام صنصال أو كمال داوود. بوعلام صنصال وصلت به الصفاقة إلى حد اتهام جيش التحرير الجزائري بالنازية في روايته «قرية الألماني»! هل هذا معقول؟ الجيش الذي قاد الثورة الجزائرية لم يكن على رأسه ضباط نازيون على الإطلاق، بل كان أغلبهم يساريين. هل يجهل صلصال أن اليسار هو الخصم التاريخي الأبرز للنازية؟ وماذا نقول عن كمال داوود، الذي تبجح في أحد البرامج التلفزيونية الفرنسية بأن القضية الفلسطينية لا تعنيه، وأن ما يحدث في غزة ليس مشكلته! هؤلاء الكُتّاب من يروّج لهم ويلمّع صورهم؟ إنه، بالطبع، برنار هنري ليفي وزمرة الصهاينة المحطية به. هؤلاء هم من يسوّقون أعمال صنصال وداوود وغيرهما من المثقفين الممسوخين المتملقين للغرب. انتهيتُ أخيراً من تأليف كتاب سجالي، بعنوان «مهربو التاريخ»، يفضح خمسة من هؤلاء الكتاب الجزائريين المنسلخين عن هويتهم، سيصدر هذا الكتاب، في تشرين الاول (أكتوبر) المقبل، عن منشورات «فرانز فانون» في الجزائر. لا يجب أن نترك المجال لهؤلاء كي يزوروا تاريخ الجزائر، تملقاً لأسيادهم الجدد، من خلال الترويج بأن «الأقدام السود» من المعمرين الأوروبيين الذين استوطنوا الجزائر كانوا يعيشون بتآخ مع الأهالي، خلال الفترة الاستعمارية. من «الأقدام السود» من كانت لهم مواقف مشرفة ومؤيدة للثورة الجزائرية، وخاصة اليساريين منهم. وهؤلاء لا ننكر مواقفهم وتضحياتهم. وهناك معالم بارزة في الجزائر اليوم تحمل أسماءهم، كساحة موريس أودان أو مستشفى مايو. لكن غالبية المعمّرين كانوا إقطاعيين ومستبدين وأعداء للشعب الجزائري. التآخي بينهم وبين الجزائريين لا وجود له سوى في المخيّلات المريضة لبوعلام صنصال وياسمينة خضرا ومن معهم من الكُتّاب التلفيقيين. أذكر، حين كنت طفلاً في قسنطينية، كنت أتجول مع والدي، وأقرأ يافطات معلقة على واجهات بعض المحلات مكتوب عليها: ممنوع على الكلاب والعرب! وإذا بكُتّاب جزائريين يأتون اليوم للتباكي على التآخي الذي كان قائماً بين «الأقدام السود» والجزائريين. تبّاً لهم!
■ من خلال هذا الكتاب سيعود بوجدرة، بروحه السجالية التي نعرف، إلى فن الهجائيات الأدبية، الذي هو صنف أدبي قائم بذاته. هل ستتخذ من هذا الشكل من الكتابة السجالية، التي سبق أن جرّبتها في «الجبهة الإسلامية للحقد» (1992) و«رسائل جزائرية» (1995)، بديلاً عن الجدالات التلفزيونية العقيمة والسطحية التي تسيء كثيراً إلى مكانتك؟
لن أكتفي بهذا الكتاب. سأصدر كتاباً سجالياً آخر، في باريس، مطلع السنة المقبلة. سيكون عنوانه «الغرب الأعمى»، وفيه أفضح ألاعيب برنار هنري ليفي وزمرة الصهاينة ومشعلي الحروب الذين معه. بعد تصفية حساباتي مع الكُتّاب الممسوخين، سأتنقل إلى الضفة الأخرى للمتوسط، لأتصدى لأكاذيب ليفي وأمثاله من المثقفين التلفيقيين في فرنسا، أمثال باسكال بروكنر وألان فينكلكروت وغيرهم!
روايته الجديدة «السلب» عودة إلى صراع الإخوة الأعداء!
ستصدر خلال أسابيع رواية جديدة لرشيد بوجدرة، بعنوان «السلب» (منشورات «غراسيه» ــ باريس). في هذا العمل، يستعيد صاحب «الحلزون العنيد» (منشورات «دونويل» ـ باريس ــ 1977) تيمة دامية سبق أن طرقها في روايتين سابقتين، وهما «التفكك» (أول أعماله المكتوبة بالعربية – منشورات «المؤسسة الوطنية للكتاب» – الجزائر – 1982) و«شجر الصبّار» (منشورات «غراسيه» ــ باريس ــ 2010). تيمة «الإخوة الأعداء»، الذين احتدمت الصراعات بينهم في صفوف الصورة الجزائرية، ووصلت الى حد التصفيات الجسدية.
في «التفكك»، تناول بوجدرة موضوع التصفيات التي تعرّض لها عشرات المناضلين الشيوعيين الذين التحقوا بالثورة الجزائرية، وذُبحوا على أيدي رفاقهم في السلاح، بسبب رفضهم التنكر لقناعاتهم الماركسية. موضوع تناوله أيضاً الراحل الطاهر وطار في روايته الأشهر «اللاز» (منشورات «الشركة الوطنية للطباعة والنشر» ــ الجزائر ــ 1974).
في «شجر الصبار»، خرق بوجدرة تابو اغتيال الشهيد عبان رمضان، أحد القادة الرئيسيّين للثورة الجزائرية، عام 1957. تقول الرواية الرسمية الجزائية إن عبان «استُشهد في ساحة الوغى»، في حين أنه اغتيل خنقاً، في «تطوان» المغربية، من قبل ثلاثة ضباط من رفاقه في السلاح، اشتهروا بلقب «الباءات الثلاثة» (عبد الحفيظ بوصوف، لخضر بن طوبال، كريم بلقاسم).
حين صدرت «شجر الصبار»، يقول بوجدرة إنّه تعرّض لضغوط وتهديدات من قبل عائلة كريم بلقاسم، بسبب فضحه اشتراك الأخير في مؤامرة اغتيال عبان. يقول: «اتصل بي شقيق كريم بلقاسم، وهددني. قال: سأقاضيك. وحين لم أخف، هدّد بضربي أو حتى قتلي. لكنني قلت له: دز معاهم (افعل ما تشاء)! وحين فهم أنني لا أخاف أحداً، اختفى ولم يتصل بي ثانية».
في روايته الجديدة «السلب»، يغلق بوجدرة «حلقة المشاحنات» بين الإخوة الأعداء الجزائريين، راصداً كيف دارت الدوائر بكريم بلقاسم، ليتعرّض بدوره للاغتيال من قبل مخابرات العقيد بومدين، في فندق في فرانكفورت، عام 1970، بعد 13 سنة من اشتراكه في اغتيال رفيقه عبان رمضان.
استقى بوجدرة روايته لوقائع اغتيال كريم بلقاسم من مصدر خاص كان طرفاً مباشراً في المؤامرة. يقول: «روت لي ما حدث مجاهدة سابقة، وهي ابنة عمتي. كانت في العشرين، حين تخرّجت من مدرسة الممرضات في «أقبو» (منطقة القبائل)، والتحقت بالثورة الجزائرية هناك، تحت قيادة العقيد عميروش. حين أُحكم الحصار على الثوار في المنطقة، أرسلها عميروش إلى تونس. هناك تعرفت إلى كريم بلقاسم، عام 1957، وكسبت ثقته. صار يعتبرها مثل ابنته. هذه الثقة هي التي استعملتها مخابرات بومدين للوصول الى كريم بلقاسم، رغم الحماية التي كانت محكمة على جناحه في الفندق الذي كان يقيم فيه بفرنكفورت. استغل زوار الفجر وثوق العلاقة بينها وبين بلقاسم، فطلبوا منها المبيت عنده. وبعدما نام حرسه ومساعدوه، قامت بفتح الباب خفية، فتسلل القتلة وقاموا باغتياله خنقاً».
ويضيف بوجدرة: «لم أعرف حقيقة الدور الذي لعبته ابنة عمتي في مؤامرة اغتيال كريم بلقاسم، إلا قبل سنوات قليلة. لم ترو لي وقائع ما حدث، إلا على فراش الموت، بعد إصابتها بالسرطان. وكانت تبكي بحرقة، ندماً على ما فعلته».
عثمان تزغارت، الجزائر
الأخبار، 30 آب / أغسطس 2017