من واجب المثقف الحريص على المقاومة واستهدافاتها نقدها، دون تردد، إذا ما ظن أن هناك أخطار تهددها، أو مزالق تواجهها. وحتى النقد الذي لا يصيب مواقع الخطأ يكون مفيداً، إذا ما أثار نقاشاً عقلانياً حول المقاومة.
ربما كان بعض النقد للمقاومة نتاج سوء فهم لبنيتها وفكرها واستهدافاتها. بعض المثقفين يقرأون في المقاومة ما يتمنون، فيلبسونها عباءة لا تتناسب مع حقيقتها. وهناك من يقرأ في المقاومة أكثر مما فيها، فيراها أداة التغيير الثوري الشامل للنظام اللبناني، والقادرة على انتشال النظام من مأزقه البنيوي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن مقاومة حزب الله، التي حققت الكثير من الإنجازات العسكرية والأمنية على الصعيد الوطني، غير مهيئة وغير قادرة على أن تكون أداة التغيير المطلوب. ولم يدّعِ حزب الله يوماً أنه حركة تحرير وطني شامل، تسعى إلى الإمساك بالسلطة وتحرير الإنسان، إقتصادياً واجتماعياً، مع تحرير الأرض من الاحتلال.
كما أن حزب الله لم يكن يوماً كيانياً لبنانياً، يحصر همه وطموحاته بأرض لبنان. لم يقل يوماً أن الكيان الصهيوني هو عدوه الأوحد. حزب الله ذو بنية “شيعية”، يستقي ثوريته من منابع عدة، أهمها تاريخ طائفته ونضالها عبر التاريخ الإسلامي. هو حزب لبناني عربي إسلامي، قاتل الاجتياح “الإسرائيلي” ــ الأميركي ــ “الأطلسي” للبنان، كما حلفاء هؤلاء وأتباعهم المحليين. يرى الحزب في دول “الإستكبار”، أي مراكز النظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة، عدواً وجب قتاله والتصدي لعدوانيته، ليس فوق الأرض اللبنانية فقط، بل أيضاً على صعيد محيطه العربي والإسلامي.
وليس حزب الله حزباً فلسطينياً، رغم كونه، بشكل ما، أكبر فصيل مقاوم للكيان الصهيوني، ويطمح للمشاركة في تحرير كامل التراب الفلسطيني. تبلورت رؤية حزب الله العملانية، عبر مقاومته للاجتياح “الإسرائيلي” ــ الأميركي ــ “الأطلسي” للبنان سنة 1982، وعبر بنيته كمقاومة “إسلامية”، وعبر ارتباطه بالثورة الخمينية الإيرانية، وتحالفه مع النظام السوري. ومن خلال ممارسته للمقاومة، تجذر وعيه لطبيعة العدو المركب الذي يقاتل، مما أعطى مقاومته أبعاداً محلية وإقليمية ودولية. من خلال هذا الفهم لحزب الله، يمكن نقده ومطالبته بتغيير أدائه وإعادة ترتيب أولوياته واستهدافاته المرحلية والعملانية.
في مقالته المنشورة في “الأخبار”، بعنوان “نصر تموز، هل له مدة صلاحية، أم أنه أبدي الأجل”، يضع أسعد أبو خليل قوانين “تاريخية” لا يهتم كثيراً في تبريرها وعقلنتها، وهي بحاجة إلى نقاش جاد. يقول أبو خليل، “الإنتصارات، مهما كبرت، مدى صلاحية، وآجالها ليست لانهائية، إلا في حالات تتحقق فيها كل أهداف الحركة الثورية أو التحررية”. ويضع الكاتب في خانة الانتصارات “النهائية” الثورتين الجزائرية والفيتنامية، كما انتصارات الإتحاد السوفياتي على النازية.
لا نستطيع تجاوز ركاكة لغة بعض الجمل، بما فيها العنوان، كما سوء استعمال بعض الكلمات، والذي يموّه المعاني المقصودة، مثل “صلاحية الانتصارات وآجالها”. فالانتصارات ليست مثل علب السردين، ذات صلاحية محددة لتناولها بعد مدة معينة من تاريخ إنتاجها. وأعتقد أن الكاتب يعني “وهج” الأحداث وإيحاءاتها ومعانيها بالنسبة للشعوب، واستمرار مفاعيلها وما حملته من تغييرات. وحتى حسب هذا التفسير، فقول الكاتب غير صحيح. كل شيء في هذا الكون إلى زوال، وكما يقول المعرّي،
“ولنار المريخ من هذيان الدهر مطفٍ، وإن علت في اتقاد”
فالثورة السوفياتية العظمى سقطت بعد سبعين عاماً على قيامها، وعلى يد سكّير روسي متأمرك. وروسيا الاتحادية اليوم لا تجسد طموحات لينين ورفاقه. والثورة الفيتنامية الموحية لشعوب العالم، تسير اليوم في ركب عدوها الأميركي، ونحو الليبرالية الجديدة المناقضة للشيوعية، وليس على طريق بناء الإشتراكية.
لكن الأحداث الكبيرة الموحية، انتصارات كانت أم هزائم، تحتفظ بالكثير من وهجها وقدرتها على الإيحاء بالنسبة للشعوب. فالصهاينة يحتفلون حتى اليوم بالـ”ماسادا”، بعد آلاف السنين من حدوثها المفترض، ولا زال الصهاينة يُذكّرون العالم يومياً بـ”المحرقة” النازية، ويستغلونها على كل الصعد، السياسية والاقتصادية والثقافية. وتتذكر الجماهير العربية، والسورية منها خاصة، معركة ميسلون، كما يتذكر العرب، والفلسطينيون خاصة، مجازر قبية ودير ياسين. وما زالت انتصارات صلاح الدين وخالد ابن الوليد وطارق بن زياد، كما نضالات عمر المختار وعبد القادر الجزائري وسلطان الأطرش، موحية ونابضة حتى اليوم.
فلماذا تكون “شرعية نصر تموز محدودة”؟ كلمة “شرعية” هنا في غير محلها، ولا معنى لها. مثّل نصر تموز أول هزيمة كاملة لعدوان الكيان الصهيوني على محيطه العربي، وليس على لبنان فقط. لم يستطع جيش الكيان الصهيوني تحقيق أي هدف تكتيكي ميداني له، وهُزم على يد مقاومة شعبية، لا تُقاس قدراتها بقدرات أي جيش عربي قاتل “إسرائيل”. واستطاعت مقاومة حزب الله، ونصر تموز صفحة من تاريخها، أن تُسقط أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”. بذلك، شكّلت حرب تموز منعطفاً تاريخياً في الصراع مع الكيان الصهيوني، وفي “الزمن العربي الرديء”، ودفعت بهذا الكيان نحو نهايته المحتومة، بالتزامن مع تسارع المتغيرات العالمية، وتبدّل موازين القوى، ونهاية الإمبراطوريات. فلماذا يجزم الكاتب أن شرعية نصر تموز محدودة، ويفترض أن المقاومة “تعيش” عبر “استهلاك” هذا الانتصار؟
يقول أبو خليل، “لم تعد استراتيجية حزب الله في مواجهة العدو الإسرائيلي واضحة. كان الحزب في موقف جلي في كل سنوات الصراع مع إسرائيل بعد اجتياح 1982 وبعد انطلاقته، يمارس المقاومة الشاملة ضد جميع أهداف العدو”. ثم يقول، “إن مهمة الحزب، لو أراد أن يستمر كحركة مقاومة، تتطلب منه إصدار موقف واضح في مهامه كحركة مقاومة في مواجهة العدو الإسرائيلي. لا يستطيع الحزب أن يستعين برصيده من الشرعية السياسة التي استقاها من المقاومة في تدخله العسكري في سورية (والذي بدأ بشعار حماية المزارات الدينية)… لكن حلفاء المقاومة، كحركة مقاومة ضد العدو الإسرائيلي، لا يوافقون على كل أفعال الحزب”.
إن الكاتب من بلدة “القليلة” في ضواحي صور، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، والتي ربما يحمل جنسيتها، ويوقّع مقالاته في موقعه على الإنترنت باسم “العربي الغاضب”، شاهد الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان سنة 1982، قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته. ولا شك في أنه تابع بدقة مسيرة الاجتياح ونمو المقاومة من هناك. وهو يدرك طبيعة الصراع في لبنان وعليه، إبان الاجتياح كما بعد اندحاره. هو يدرك أن اجتياح لبنان، عبر خطة “الصنوبرة المتوسطة”، بقيادة أرييل شارون للقوات “الإسرائيلية”، وقيادة فيليب حبيب للاجتياح ككل.
احتفلت الولايات المتحدة بسقوط بيروت، ناسبة الفضل في هذا “الإنجاز” لفيليب حبيب، وليس لشارون وبيغن. وشهدت شواطئ لبنان حشداً من البوارج وحاملات الطائرات “الأطلسية”، ما لم يشاهده شرقي البحر المتوسط منذ الحرب العالمية الثانية. وشاهد الكاتب، ولو عن بعد كبير، قصف البوارج الأميركية والطائرات الأميركية والفرنسية المنطلقة من حاملات الطائرات، لمواقع المقاومة في الجبال المطلة على بيروت. وشاهد سقوط مقاتلتين أميركيتين بصواريخ “سام 2″ السورية. وشاهد تفجير مبنى السفارة الأميركية في بيروت، بينما كانت قيادات المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط مجتمعة فيها، كما شاهد تفجير مقر الـ”مارينز” والمظليين الفرنسيين في بيروت، على يد رجال “المقاومة الإسلامية”.
يدرك الكاتب أن اجتياح لبنان كان ضمن استراتيجية أميركية، تشمل الشرق الأوسط كله، للتصدي للتمدد السوفياتي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، كما نتيجة “الثورة الإسلامية” الإيرانية، التي هددت المصالح الإمبريالية الأميركية في الخليج، وأصبحت تهدد وجود قاعدته الأساسية، الكيان الصهيوني.
كان اجتياح لبنان من قِبل عدو مركّب، له استهدافاته اللبنانية والإقليمية والدولية. ومهّدت الولايات المتحدة لهذا الاجتياح بإشعال تمردات بعض دول أوروبا الشرقية (بولندا وتشيكوسلوفاكيا خصوصاً)، كما تمردات الإخوان المسلمين في سورية، وبموجة عارمة من تدفق السلاح الأميركي والدعم المادي لـ”إسرائيل”، وبتمويل سعودي ــ أميركي لـ”القوات اللبنانية”، وربطها بالموساد “الإسرائيلي”، تدريباً وتسليحاً، وهجماتها على “قوات الردع” السورية في لبنان، بعد أن أنقذتها هذه القوات من هزيمة محققة على يد تحالف الجبهة الوطنية اللبنانية وفصائل الثورة الفلسطينية. كما أن ضباطاً أميركيين قد أمسكوا بقيادة الجيش اللبناني في اليرزة.
فكيف يدعي الكاتب أن مهمة مقاومة حزب الله انحصرت، ويجب أن تنحصر بقوات الإحتلال الصهيوني فقط، وفوق الأرض اللبنانية فقط، وهو “العربي الغاضب”، وليس اللبناني الإنعزالي المتقوقع؟
وكيف يقرر أن “مشروعية” مقاومة حزب الله مشروطة بتواصل قتاله “إسرائيل” فقط، حتى تحرير ما تبقى من أرض لبنانية محتلة؟ ألا تتناقض هذه “النصيحة” مع مسيرة حزب الله إبان العدوان الأميركي ــ “الإسرائيلي” وبعده؟
يعتقد الكاتب أن النظام السوري “أنفق شرعية حرب تشرين لتجنب خوض حرب أخرى لتحرير الجولان، لأن النظام، حسب زعمه، كان دائماً منهمكاً في التحضير لمعركة لم تأتِ”. وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الله، “لا تستطيع المقاومة في لبنان أن تدخل أو أن تبقى في حالة اللاسلم واللاحرب، التي طبعت سلوك النظام السوري بعد حرب تشرين”.
يظن الكاتب، حسب رؤيته الاستراتيجية الشاملة، أن على حزب الله، كما على النظام السوري، إعطاء الأولوية المطلقة والدائمة والوحيدة للعدو الصهيوني، لتحرير الأرض المحتلة من قبل هذا العدو، كي لا يفقد النظام، كما المقاومة، “شرعيتهما”، ويغيّب التهديد الاستراتيجي لداعش والنصرة وأخواتهما، من عشرات التنظيمات التكفيرية التي ربّتها الولايات المتحدة وموّلتها أشباه المستعمرات الأميركية في شبه الجزيرة العربية، واحتضنتها تركيا، لتكون حليفة موضوعية لـ”إسرائيل”، وأداة اجتياح وتدمير أميركية ــ “أطلسية” للوطن العربي بأكمله. ولا يرى الكاتب في جرائم هذه القوى التكفيرية وممارساتها ما يوجب قتالها، ربما لأنها تدمر “النظام السوري” الذي لا يحبه.
لست أدري كيف يحتسب الكاتب رصيد المقاومات أو الأنظمة من “الشرعية” التي تكتسبها بالقتال، إذا ما توقفت عن القتال لاستكمال استعادة أراضيها المحتلة. وإذا طبقنا مقاييسه لاستهلاك شرعية الثورات التحررية والأنظمة، يكون النظام الصيني قد فقد شرعيته منذ عقود طويلة، لأنه لم يحرر جزيرة تايوان، التي كانت وما زالت تحت الحماية الأميركية. وكذلك الثورة الكوبية، التي لم تقاتل لتحرير “غوانتانامو” من الاحتلال الأميركي. وكذلك إسبانيا، التي لم تحرر جبل طارق من الاحتلال البريطاني؛ واليابان التي لم تحرر جزر “كوريل” من الاحتلال الروسي.
يذكر الكاتب في مقالته كيف أقامت الولايات المتحدة الجسر الجوي لنجدة “إسرائيل” في حرب تشرين 1973، حيث دفعت بكميات هائلة من الأسلحة والطائرات، بطواقمها الأميركية، وتحت العلم “الإسرائيلي”، لمنع انهيار قاعدتها الأهم في الشرق الأوسط. ويدرك الكاتب أن الحرب على العدو الصهيوني المحتل كان مستحيلاً لولا تعاضد الجبهتين الشرقية والجنوبية، ولولا مظلة الإتحاد السوفياتي وأسلحته المتطورة. فكيف يسمح عاقل لنفسه بالتهجم على النظام السوري الذي لم يشن حرباً لتحرير الجولان بعد تفكك النظام العربي، وصلح نظام أنور السادات مع “إسرائيل”، وبعد تراجع قدرات الاتحاد السوفياتي بعد عهد بريجنيف، وانهياره أواخر الثمانينات؟ أية مزايدة هذه، وما المقصود منها؟
ليس صحيحاً أن النظام السوري، القابل للكثير من النقد القاسي، لم يخض حرباً بعد حرب تشرين؛ والكاتب يعرف ذلك. فقد تعرضت قوات الردع السورية في لبنان للاعتداءات “الإسرائيلية” المتكررة، ثم للاجتياح الأميركي ــ “الإسرائيلي”. وقاتلت هذه القوات دفاعاً عن لبنان، كما دفاعاً عن سورية. وكانت إحدى الخيارات الاستراتيجية الأميركية الثلاث للاجتياح، “الصنوبرة الكبرى”، التي تقضي باجتياح كامل الأراضي السورية بعد اجتياح لبنان. ثم كانت سورية الدولة الثانية في برنامج الاجتياحات الأميركية لست دول عربية وإسلامية عند بداية الألفية الثالثة، وبعد ن أن أفلتت الإمبريالية الأميركية من عقالها إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. والذي أنقذ سورية من الاجتياح الأميركي، بعد اجتياح العراق وتدميره، هو المقاومة العراقية التي غذتها سورية بالسلاح والمقاتلين. ثم كانت الحرب التي تعرضت لها سورية، وما زالت حتى اليوم، وهو في الواقع اجتياح أميركي بالواسطة. فلماذا يُسقط الكاتب واقع الحرب على سورية، ونضالات الجيش العربي السوري، منذ حرب تشرين وحتى اليوم؟
يدرك الكاتب أن حزب الله أصبح قوة إقليمية، تدافع عن لبنان ضد التهديد “الإسرائيلي”، كما التهديد الداعشي في سورية ولبنان. ويقاتل الحزب في سورية دفاعاً عن كل المهدَدين بالحركات التكفيرية، فوق الأرض العربية وخارجها. ويدرك الكاتب أنه إذا ما انتصر التكفيريون في سورية والعراق، أصبح الدفاع عن لبنان مستحيلاً. أما أسئلة الكاتب التسعة “الملحة” لحزب الله، فقد أجاب الحزب عليها ميدانياً وإعلامياً منذ أمد طويل؛ ومخاوفه على المقاومة في غير محلها. وليت “العربي الغاضب” (ولا نعلم مَن لم يغضب عليه بعد) أن يخفف من غضبه؛ فالغضب يعمي البصيرة، ويقود إلى التهور، وينتج رؤى ومخاوف بعيدة عن الواقع.
غالب أبو مصلح
الجمعة، 26 آب 2016