مع شيء من المجازفة يمكن القول إنّ المجال الجيوسياسي الإيراني المفتوح على أوراسيا، يُمثّل العُمق الاستراتيجي لعمليّة “طوفان الأقصى”، وقد تجلّت أولى خطواتها بإعادة بناء إستراتيجيّة التحرير الفلسطينيّة في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وكشف الضعف القاتل للنظام الأمني الإسرائيلي. ولنا الدليل في العلاقات الوثيقة لإيران مع حركات المقاومة الفلسطينيّة، وما تقدّمه طهران لهذه المقاومة من إسناد بالسلاح والمال والعتاد، فضلاً عن حلول لتوسيع هامش الحركة وتجاوز الحصار والموانع الإسرائيليّة والأميركيّة.
إلّا أنّ الفشل الإسرائيلي الخطير في ردع الاختراق الأمني الفلسطيني في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يُسفر عن تبدّل نظرة إيران الاستراتيجيّة إلى الكيان الإسرائيلي على رغم ما يتوفّر عليه من طاقة للتغيير وسط ديناميّات القوّة وتوازناتها الإقليميّة. ولذلك يجدر التساؤل عما تخبّئه طهران ولماذا اختارت تفويت فرصة تاريخيّة لترجمة التموضع في القضيّة الفلسطينيّة إلى منازلة كبرى مع “الشيطان الأصغر” تُكمل ما شرعت فيه حركة “حماس” عندما وجّهت ضربة عسكريّة واستراتيجيّة استثنائية لإسرائيل ودمّرت سياسة الردع الصهيونيّة؟
المُرشد والتوازن
كان يمكن لإيران أن تندفع نحو الانخراط في الحرب في فلسطين لولا الدور الذي يمارسه المرشد الأعلى السيّد علي خامنئي باسم المؤسسة الدينيّة في ترجيح التوازن بين الاتجاهات ومراكز القرار داخل حاضنة السلطة. ويتردّد في هذا الإطار أنّ المعتدلين في النخبة الإيرانيّة نبّهوا المُرشد إلى ضرورة تلافي العواقب المدمّرة للنظام جرّاء التورّط في حرب شاملة مع الولايات المتحدة الأميركيّة بعدما أخذت الأخيرة على عاتقها حماية إسرائيل، في حين أنّ المتشدّدين حاولوا إقناع المُرشد بدخول المعركة إلى جانب حركة “حماس”، وحجّتهم في هذا الشأن أنّ نجاح الجيش الإسرائيلي في كسر المقاومة الفلسطينيّة ينطوي على احتمال إضعاف محور المقاومة وبالتالي تهديد مكانة حزب الله وإيران.
ويتعيّن في مقاربة عمليّة صنع القرار الإيراني، عدم فصل مكتب المرشد عن اتجاهٍ في التفكير الاستراتيجي الإيراني يرى السياسات والأزمات وصراع المحاور الإقليمية، عبر عدسة واقعيّة وحسابات دقيقة لموازين القوى بعيداً عن الرؤية الأيديولوجيّة. وهذا يُفسّر القبول الإيراني حتى إشعار آخر بنوع من الإدارة المشتركة مع الأميركيين في العراق، وهو توجّه لا يمنع القوى الشيعيّة المسلّحة القريبة من إيران من اللجوء إلى ممارسة الضغوط العسكريّة على القواعد الأميركيّة عندما يطغى وجه الصراع والتنافس على التوافق والتعاون في العلاقة الأميركيّة – الايرانيّة التي قامت على أنقاض نظام صدام حسين. كما يُفسّر سياسة القبض والبسط مع روسيا في إدارة الأزمة السوريّة، خصوصاً أن المطلوب في بناء الجدار الدفاعي الإيراني في بلاد الشام تأمين خطّ الإمداد إلى قوات “حزب الله” في لبنان، والحفاظ على خطّ التماس مع فلسطين المحتلة للضغط وإبقاء المشاغلة قائمة مع الغرب. وحدِّث ولا حرج عن “الصبر الاستراتيجي” إزاء التواطؤ الروسي الإسرائيلي الذي يترك المجال الجوي السوري مفتوحاً أمام الاعتداءات الجويّة التي تُنفّذها إسرائيل تحت عنوان “الحدّ من توسّع النفوذ الإيراني”.
وما يسري على العراق وسوريا ينسحب على لبنان، من خلال ما نشهده من حسابات دقيقة في تعامل كل من واشنطن و”حزب الله” مع ملف ترسيم الحدود البحرية ومن ثم إدارة العديد من الملفات الداخلية، وآخرها تمديد ولاية قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون، فضلاً عن استثمار المساحات المشتركة بين الجانبين كالحفاظ على الإستقرار اللبناني وإعادة تثبيت المعادلات التي كانت تحكم الجنوب اللبناني منذ العام 2006 حتى يومنا هذا، ولا سيما القرار 1701.
الاستراتيجيّة الدفاعيّة
ليس سرّاً أن الجمهوريّة الإسلاميّة تلتزم إجمالاً إستراتيجيّة دفاعيّة على مستوى إقليم الشرق الأوسط، وهي إستراتيجيّة تتضمن بناء شبكة من البنى السياسيّة العسكريّة تُجنّب إيران الانخراط في الحرب مباشرة مع إسرائيل أو أميركا. ويمكن هذه الشبكة الواسعة أن تتحوّل إلى الهجوم الدفاعي كما يجري حالياً مع جبهة المساندة للمقاومة الفلسطينيّة في جنوب لبنان والعراق واليمن، أو تُقدِم على مبادرات ذات أبعاد إستراتيجيّة خطيرة مثل قرار حركة “أنصار الله” اليمنيّة إغلاق باب المندب والبحر الأحمر أمام إسرائيل.
إنّ مبدأ توازن القوى حسب المدرسة الجيوسياسيّة المصريّة، كان ولا يزال يحكم نظرة إيران إلى علاقتها بالإقليم باعتبار أنّ لا مصلحة جيوسياسيّة إيرانيّة في رؤية غلَبَة مُطلقة لأيّ من الطرفين في الصراع العربي – الإسرائيلي على الطرف الآخر. وتُفضّل إيران أن تقوم حالة تتّسم بتعادل القوى بين النظام الرسمي العربي وإسرائيل، إذ أنّ الحالة المفارقة وهي انتصار العرب على إسرائيل من طريق تحرير فلسطين، من شأنها أن تُفضي إلى قيام منظومة عربيّة موازنة أو منافسة للقوّة الايرانيّة الإقليميّة وطموحاتها المتشعّبة عبر العراق والمشرق العربي ومنطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية. في المقابل، إنّ انتصاراً ساحقاً لإسرائيل على العرب، قد يؤدي إلى إنشاء منظومة إقليميّة مرجعيتها إسرائيل وتعمل لعرقلة طموحات إيران الإقليميّة.
واستناداً إلى هذا المفهوم الإشكالي بسبب طابعه الإختزالي، يجري تفسير مصلحة إيران في تقويض “عمليّة التسوية” الفلسطينيّة – الإسرائيليّة عقب اتفاقيّة أوسلو 1993، وهو الأمر الذي أتاح لطهران استعادة المبادرة الإقليميّة وتولّي إدارة الصراع مع إسرائيل في المنطقة. وفي هذا السياق الذي شهد تحولات كبرى عام 1978 مع توقيع إتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من معادلة الصراع ثم اندلاع الثورة الإسلامية في إيران (1979)، تحوّلت بلاد الرافدين مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إلى محور ارتكاز المشروع الإقليمي الإيراني، وراحت كفّة الميزان تميل لمصلحة إيران، فيما صارت القضيّة الفلسطينيّة في ظلّ انهيار النظام الإقليمي العربي جزءاً من نظام للصراع يتفاعل فيه تشكيلان نزاعيّان رئيسيّان هما النزاع العربي – الاسرائيلي الكلاسيكي والنزاع الإيراني ـ الغربي، يُضاف إليهما في بيئة صراعيّة كثيفة مجموعة من التشكيلات الإقليمية الثانويّة.
على أنه من الصعب أن يكتمل البحث في العوامل التي تحول دون انخراط إيران في الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، من دون تناول آلية صنع القرار وارتباطها بأولويّة الأولويات وهي الحفاظ على النظام الديني ـ القومي في إيران. هنا تبرز صعوبة التعبئة القوميّة الشاملة مقارنة بحملة الدفاع المقدّس خلال الحرب مع العراق. فالظروف السياسيّة مختلفة الآن ولا سيما عدم مبالاة الرأي العام الإيراني إزاء فلسطين في ظل الأزمة الاقتصاديّة الناتجة جزئياً من سياسة العقوبات الشديدة التي تفرضها الولايات المتحدة بحيث أنّ الحماسة للأجندة الفلسطينيّة تبقى لعبة حصريّة داخل المؤسسة الحاكمة.
السياق الدولي
أمّا العامل الأخير الذي يتعيّن أن يؤخذ في الاعتبار لفهم الموقف الإيراني العام من الحرب الإسرائيليّة على غزّة، فهو السياق الخارجي المتعلّق بالشركاء الاستراتيجيين لإيران في موسكو وبيكين. فقد تحفّظت روسيا والصين عن إعلان دعمهما الكامل لمطالب حركة “حماس”، وكان الانتظار والترقّب من جانبهما مناسباً للمزاج الإيراني، علماً أن طهران شجّعت “حماس” على التوجّه نحو موسكو في خضمّ عاصفة التهديدات الإسرائيليّة والأميركية التي أعقبت هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ونظراً إلى أجواء التعثّر التي سيطرت على المفاوضات الإيرانيّة مع مجموعة 5+1 عقب انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، فإنّ العلاقة الإيرانية – الروسيّة كما العلاقة الإيرانيّة – الصينيّة اتخذت طابعاً مصيريّاً بالنسبة إلى طهران التي ترى أن مصالحها الاستراتيجيّة تقضي بالدفع قُدماً بالروابط مع القوى الصاعدة في العالم مثل الصين والهند والبرازيل وغيرها.. وهو توجّه يجعل السياسة الايرانيّة الخارجيّة أكثر توازناً وأكثر استقلاليّة تجاه الغرب. وفي الوقت الذي تمضي إيران في هذه السياسة وتتموضع في “الجنوب العالمي” الذي يؤطر حيويّة القوى الصاعدة بعيداً عن سياسة العداوة المطلقة مع الولايات المتحدة، فإنّ طهران قد تجد أن التصرّف الذكي لتجاوز السور الأميركي الذي يحول دون وصول القوى النامية إلى مكانة مرموقة في اقتصادات العالم، يفرض تصوّرات واقعيّة في السياسة الخارجيّة تقود على سبيل المثال إلى المصالحة مع المملكة العربيّة السعوديّة برعاية صينيّة، أو الانضواء ضمن ترتيب إقليمي مثل ذلك الذي أنتج قمة عربيّة إسلاميّة إلتأمت بشكل طارىء في السعودية لتحديد الموقف المناسب من حرب الإبادة الإسرائيليّة التي تستهدف الشعب الفلسطيني.
في الخلاصة، يُعتبر حدث السابع من تشرين الأول/أكتوبر بمثابة حدث تأسيسي، فلسطينياً وعربياً وإقليمياً، وبالتالي نحن أمام واقع إقليمي جديد، فكل المعادلات التي حكمت إيقاع النضال الفلسطيني طوال عقود مضت كسرها “طوفان الأقصى”، عندما أعادت حركة “حماس” وضع نفسها، ومعها مشروع التحرير، على سكة الكفاح الوطني المسلح. إن سؤال “اليوم التالي” هل أن “حرب الإستنزاف” التي ترعاها إيران في كل من اليمن ولبنان والعراق وسوريا، هي الإجابة المطلوبة أم لا بد من مقاربة جديدة تفضي إلى رسم إستراتيجية إيرانية تكون على مستوى التغيير الحاصل في معادلات المنطقة غداة 7 تشرين الأول/أكتوبر؟
ميشال نوفل، كاتب وصحافي لبناني
المقال منشور على موقع 180post، يوم 11 كانون الثاني، 2024
COMMENTS