“أميركا أكبر الآن”، كان عنوان مقال ليز روسكين، الذي حمل تفاصيل وتعليقات بشأن التغيير الجيوبوليتيكي المفاجئ الذي أجرته واشنطن في خريطة العالم. لقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية يوم 19 كانون الأول الماضي، بياناً عما وصفته بـ”الإحداثيات الجغرافية التي تعين الحدود الخارجية للجرف القاري الأميركي في المناطق التي تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، والمعروفة باسم الجرف القاري الممتد/ECS”. وذكّر البيان: بأن هذا “الجرف هو امتداد للأراضي البرية لدولة ما تحت سطح البحر”.
والمناطق التي اعتبرتها واشنطن جرفًا قاريًا ممتدًا خاصاً بها، وباتت ضمن الحدود الدولية للولايات المتحدة الأميركية، بحسب البيان المذكور، موزعة في المحيط الأطلسي بما فيه خليج المكسيك، وفي المحيط الهادئ حول سواحل جزر ماريانا التي تأوي قاعدة “غوام”، وهي تمتد ما بين جنوب اليابان وشرق الفلبين. كما اقتطع الأميركيون في بحر بيرينغ رقعة صغرى مقابل سواحل شبه جزيرة ألاسكا ورقعة كبرى شمال ألاسكا أتاحت لهم التسلل إلى داخل دائرة القطب الشمالي.
وقال بيان الناطق باسم الوزارة : أنه “بموجب القانون الدولي للحفاظ على وإدارة الموارد والموائل الحيوية، فإن الولايات المتحدة كسائر الدول، تملك حقوقاً في هذا الجرف”. وأكد أن المساحات البحرية الممتدة على هذا الجرف “تبلغ مساحتها حوالي مليون كلم²”، وهي باتت جزءاً من السيادة الأميركية، “وفقاً للقانون الدولي العرفي المبين في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982”.
وقد لفت البيان إلى عمل “الوكالات الأميركية” المختصة مدة عشرين عاماً، حتى استطاعت وضع هذه الإحداثيات. سوى أن هكذا تفاصيل لن تحرر الولايات المتحدة من تبعات قرار إدارة الرئيس جو بايدن (“جو النعسان”) بضم هذه المسطحات المائية الشاسعة. فالقرار “الجريء” ظاهراً، لا بد من قراءته في سياق زَلْزَلَةِ الجيوبوليتيك التي تموج بدول العالم منذ نيف وثلاثة عقود، وحتى اليوم.
إن “نهر المهاجرين” الذي يتدفق عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك ومنها مع دول ومجتمعات اميركا اللاتينية، هو مشهد يومي. فالعالم يرى كيف أن الكتل السكانية التي تكون هذا “النهر الديموغرافي ـ الثقافي”، تُعرِّض جيوبوليتيك الولايات المتحدة القارية إلى زلزلة بطيئة مزمنة. ما تسبب بانقسامات عنصرية ـ طبقية وبتحولات ديموغرافية ـ ثقافية داخلية، تزعزع بنية المجتمع الأميركي بالأزمات الحادة.
ينبع “نهر المهاجرين” الذي يتدفق من المكسيك ومن بقية دول القارة الأميركية المترامية جنوب نهر ريو برافو Río Bravo del Norte كما يسميه المكسيكيون، أو ريو غراندى كما يسميه الأميركيون، قبل أن يتجه شمالاً ليصب في أراضي الولايات المتحدة. وإذا كان احتمال أن يجلب هذا “النهر” تهديداً ما لسلامة ووحدة هذه الأراضي، فإنه يبقى ضئيلاً ومحدوداً بما لا يقاس، مع التهديد الداخلي الناشىء عن جسامة التفسخ الإجتماعي ـ الإقتصادي والقومي والعرقي والديني في المجتمع الأميركي. كما عن تضخم النزعات الإنفصالية لدى حكومات ولايات معينة.
أما قرار ضم “الجرف القاري الممتد/ECS” الذي أعلنته واشنطن، فأمره مختلف تماماً. لأنه يرد البحث إلى دور أميركا في زَلْزَلَةِ الجيوبوليتيك العالمي والإقليمي، على الأقل طيلة العقود التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. ولا ريب أن الولايات المتحدة دولة نووية، ويتوفر لها دفاع (شبه) مطلق عن أراضيها. سوى أن هذه السلامة الإقليمية لا تمنع من القول أن هذا القرار، وإن طوى منفعة للدولة الأميركية تمثلت بزيادة مساحتها الإجمالية، فإنه لا يعني استثناءها من زَلْزَلَةِ الجيوبوليتيك الجارية في العالم.
إن تخوم الحدود الجديدة التي تظهر على الخريطة الخاصة بالقرار المذكور، لتوضح أن الدولة الأميركية قد مطت مساحتها الجغرافية في ثلاث اتجاهات استراتيجية، هي :
ـ اتجاه المحيط الأطلسي، تقدم الحد البحري على امتداد الساحل الشرقي للولايات المتحدة من نقطة الحدود الشمالية مع كندا في ولاية مين / Maine ثم جنوباً إلى (شبه جزيرة) فلوريدا. عندها تجنب القرار الأميركي دفع خط الحدود صوب جزر بهاما، لئلا يغضب حليفته بريطانيا. لكنه انعطف غرباً داخل خليج المكسيك حتى مصب نهر برافو، ما قلص المساحة البحرية المشتركة مع المكسيك لصالح الأميركيين. وقد جرى هذا التوسع من دون مشورة السلطات المكسيكية لم تعلن موقفاً حتى الآن.
ـ اتجاه المحيط الهادىء، وقد حدث فيه أربع تغييرات :
الأول : على السواحل الشرقية لهذا المحيط، تقدم الحد البحري نحو الغرب على طول الواجهة البحرية الأميركية جنوباً مع حدود المكسيك وشمالاً مع حدود كندا. لكن لوحظ بحسب الخريطة المرفقة، أن المستطيل الحدودي البري ـ البحري الجديد، “يأكل” من الجنوب جزءاً من مياه المكسيك، ويتراجع في الشمال مع مياه كندا. وهذا الوضع يبرر التساؤل عن موقف المكسيك من هذا التغيير الجيوبوليتيكي عند حدودها في المحيط الهادئ.
الثاني : تم دفع الحد البحري حول كامل محيط جزر ماريانا، التي تضم جزيرة غوام، وفيها أكبر قاعدة حربية أميركية في وسط غرب المحيط الهادىء. وهذا التغيير يقوي سيطرة الولايات المتحدة على الطرف الشرقي لبحر الفلبين. وفي هذه المنطقة لا توجد قوى بحرية وازنة لمنافسة الولايات المتحدة. ومن غير المعروف تأثير هذا التغيير على حقوق الفلبين البحرية.
الثالث : تقدمت الحدود البحرية على عرض الواجهة لجنوب شبه جزيرة ألاسكا، في المحيط الهادئ، ما بين حدود كندا من الجنوب الشرقي مع البر الأميركي، وحدودها مع ألاسكا من الشمال الغربي. هذا التوسع البحري في خليج ألاسكا، قد ينعش الخلافات الحدودية القائمة فعلاً، بين أميركا وكندا، أو يضيف صفحة إلى سجل “آخر الأراضي الحدودية المتنازع عليها” بينهما.
ـ الرابع : في جنوب غرب بحر بيرينغ، رسم الأميركيون خطاً جديداً للحدود البحرية، يقترب كما تشير الخريطة الأميركية، من الجروف القارية لسواحل أرخبيل كامتشاتكا على بحر بيرينغ، الذي يشكل جزءاً من خط حدود روسيا في الشرق الأقصى. وهو يمتد إلى خليج ألاسكا جنوباً، ويخرج من مضيق بيرينغ إلى الدائرة القطبية الشمالية. وقد نشرت مصادر إعلامية روسية تعليقات تبين أن هذا التوسع، هو جزء مسار أطلسة Atlantisation دول شمال أوروبا، وتحديداً فنلندا والسويد.
ـ اتجاه محيط القطب الشمالي، حيث عينت الولايات المتحدة خطاً بحرياً يمد حدودها الشمالية إلى داخل دائرة القطب الشمالي ما بين حدودها مع كندا وحدودها مع روسيا عبر مضيق بيرينغ. حيث ادعى الأميركيون حقوقاً في الجروف القارية شمال خطوط العرض 66 ـ 68، التي تعود إلى كندا القطبية مقابل جزيرة بانكس، مع دفع خط الحدود القطبية مع روسيا إلى نقاط أعمق في داخل الدائرة القطبية.
ومن المؤكد أن الولايات المتحدة بتوسيع حدودها البحرية في المحيطات الثلاث المذكورة قد حصلت على موارد اقتصادية واستراتيجية هائلة، وقد “قررت ذلك من جانب واحد”، كما أكدت تقارير أميركية. وقد ذكرت مارغوت بوهان من مكتب استكشاف وبحوث المحيطات الأميركي، مبررات علمية وبيئية لقرار واشنطن تغيير خطوط الجيوبوليتيك من حولها، لكنها اعترفت بأن هذا التغيير يرمي إلى “تعزيز اتساع وفعالية قيادة” الولايات المتحدة في العالم، كما تتوقع أن “يؤدي في النهاية، إلى تغذية الرخاء الاقتصادي [في الولايات المتحدة] والتأثير على قوة أمن أمتنا” الأميركية.
ومن المنطقي أن يفسر البعض لجوء الولايات المتحدة إلى هذا السلوك التوسعي في جوارها الإقليمي، وإن بالإستيلاء على حقوق الدول الأخرى، في ظروف النظام الدولي الإنتقالي، بأنه خطوة استباقية لحجز العالم الغربي في القبضة الأميركية بعيداً عن أوراسيا. فلقد أدى التغير المناخي إلى فتح طريق الشمال البحري أمام الدول الأوراسية، التي صارت مترابطة بخطوط تجارة ونقل وإمداد مدني وعسكري مستقلة عن الخطوط الأميركية والغربية، من بينها خط “طريق الحرير” الصيني و”ممر شمال جنوب” الإيراني ـ الروسي، ما وسع فرص التجارة الصينية والإيرانية، وحرر روسيا نسبياً، من إشكالية “الوصول إلى المياه الدافئة”، وقضى على آمال بريطانيا وأميركا بالإستمرار في أحابيل “اللعبة الكبرى”.
وتهدد هذه الدينامية الجديدة في قطاع المواصلات والنقل الأوراسي، نفوذ الولايات المتحدة على “العالم الغربي” في أوروبا وكندا وأوستراليا واليابان. ولذلك، بادرت الولايات المتحدة إلى “زلزلة الجيوبوليتيك” المجاور لحدودها، طلباً لأهداف جيواستراتيجية، من بينها قطع الطريق على حلفائها للإستفادة من مزايا التجارة الأوراسية ودينامياتها، ومحاصرتهم تحت سقف نظام الهيمنة الأميركي الذي يتراجع في كل زوايا العالم.
مركز الحقول للدراسات والنشر
الأربعاء، 07 رجب، 1445 الموافق 17 كانون الثاني، 2024
COMMENTS