نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" مقابلة دسمة صباح أمس، مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وقد حملت الكثير من "الرسائل" الداخلية والخارجية، كما أوضحت جانباً أساسياً من التفكير الإستراتيجي السعودي بشأن الإقليم والعالم. وهذا ما يهم، الآن، حيث يسعّر القوميون الإمبرياليون من قوى الفاشية الجديدة الحاكمة في الولايات المتحدة، شرر المواجهة العسكرية مع جمهورية إيران الإسلامية المستقلة.
عرض بن سلمان مقاربة إقليمية لمعادلة الأمن الإقليمي في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، مركبة من بعدين متقابلين ومتناقضين :
في البعد الأول، ينطلق من أن الرياض "تنظر بأهمية كبيرة للعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة"، لأنها "أسهمت في دحر العديد من التحديات"، وهي "محورية، وعامل أساسي في تحقيق أمن المنطقة واستقرارها".
في البعد الثاني، يشدد على أن "المشكلة في طهران وليست في أي مكان آخر". ويتهم إيران بأنها "هي الطرف الذي يصعّد دائماً في المنطقة، ويقوم بالهجمات الإرهابية بشكل مباشر أو عبر الميليشيات التابعة" له، مثلما حدث للناقلتين، أو ما جرى في مطار أبها. وأن إيران "تستهدف أمن المنطقة واستقرارها".
تنم هذه المقاربة عن سطحية الحسابات الإستراتيجية السعودية بشأن الإقليم والعالم، وخاصة فيما يتصل بإيران. وتبين أن بن سلمان يرى إلى دولة الولايات المتحدة من خارج الواقع الإقليمي ـ العالمي. يحسب أميركا، وكأن ميزان القوى الإقليمي ـ العالمي لا زال خارجاً لتوه من آتون الحرب العالمية الأولى والثانية. بينما واقع السياسة العالمية المتحرك، المتقلب، بفعل ديناميات موازين القوى الإقليمية والدولية، يختلف عن هذه الصورة الذهنية ـ الأيديولوجية.
موازين القوى هي التي تحكم الحسابات الإستراتيجية المختلفة، وتحدد المعايير الوطنية لتكوين الإستراتيجية الشاملة للدولة في الدول المستقلة. نقف على هذه المعايير الفاصلة لأمور الحرب والسلم، حتى لدى دول عربية، مثل سوريا ومصر والجزائر، ناهيك عن لبنان الذي يعد دولة إقليمية فاعلة، رغم تصنيفه في قائمة "الدول المجهرية" / Microscopique. بينما تفتقر السعودية، كما يتبين من مقابلة بن سلمان أمس، إلى هذه المعايير الدولتية ـ السياسية الحيوية.
إذا عرضنا مقاربة الأمير بن سلمان على الواقع الإقليمي ـ العالمي، لسوف نجد أنه تصور ذاتي نوعاً ما. لتأكيد رأينا التحليلي، نشير إلى أربع متغيرات رئيسية، يجهلها أو تجاهلها ولي العهد السعودي، تؤثر في مصير النظام الدولي الراهن :
1. "موت الغرب". يتخذ هذا الموت هيئة الإنحطاط الإجتماعي ـ المادي أساسأ. أنه موت القوة الرأسمالية الغربية. موت "النموذج الغربي". نستطيع أن نذكر عوامل أخلاقية أو ثقافية أو دينية تسببت به. لكنها، على أهميتها، تبقى دون العوامل المادية النابعة من طبيعة النظام الرأسمالي نفسه. تماهي الحكم السعودي مع الولايات المتحدة، والآن، مع "الترامبية"، وقوى الفاشية الجديدة، كما يفعل بن سلمان، يكرس مظاهر هذا الإنحطاط الإجتماعي ـ المادي ويفشيه في السعودية ذاتها. يمكننا أن نعرض الأدلة الموثقة على هول التهتك الإجتماعي والمعنوي، ومبلغ الضرر العقلي والنفسي، الذي أحدثه هذا التماهي "التاريخي" في الشعب العربي السعودي. للأسف.
2. إن النظام الدولي إنتقالي. نزلت الولايات المتحدة عن رأس هرم القوة العالمية. ليس مهماً كم درجة. لكنها نازلة، وتنزل في كل يوم. هذه الأزمة الوجودية للقوة الأميركية هي التي جلبت "الترامبية" إلى رئاسة أميركا. لا تعرض هذه الفاشية الجديدة على شعوب أوراسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، سوى خيار الإستسلام الطبقي ـ القومي أو الحرب. من حق بن سلمان أن يطمح للإنضمام إلى هذه الموجة الظلامية، لكن هل بمقدوره تحمل ما هو أهم من التبعات المالية لذلك؟.
3. استشرف منظرو الحرب والمؤرخين العسكريين، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، نهاية مرحلة الحروب النظامية التي عرفها تاريخ الدول الحديثة. خصوصاً بين الدول العظمى والكبرى والإقليمية الكبرى. لكن خيمة السلم لن تفيء على دول العالم. فالقوى الهابطة في سلم القوة العالمية، الولايات المتحدة وحلفائها "الإنغلوساكسون"، يوسعون نطاق "الحرب الهجينة الإستنزافية" لتشمل دولاً عدوة ودولاً، كانت حتى الأمس القريب، صديقة لواشنطن. فهل يكفي المال لحماية السعودية من نيران هذه الحرب، طالما أنها اختارت أن تكون في جانب "الحلف الأنغلوساكسوني". فالسؤال الصائب، هو : متى يأكل هذا "الحلف" السعودية؟.
4. قطعت أوراسيا أشواطاً متقدمة في فك الطوق الغربي عنها. أولاً، من خلال تصدير روسيا السوفياتية وروسيا البوتينية التكنولوجيا المدنية والعسكرية إلى الدول ـ الكولوني/ colonies السابقة لدعم رغبة شعوبها بالتحرر من السيطرة الإمبريالية وتمكينها من اكتساب القدرة على الحياة. ثانياً، من خلال بناء الصين "مبادرة الطريق والحزام" عبر أوراسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد دخلت في اركان هذا المشروع العالمي كثير من الدول المستقلة، التي ترغب في التنمية الإجتماعية ـ الإقتصادية ـ التقنية لدولها وابنائها، من بين هذه الدول إيران. فهل ترغب السعودية بإيذاء إيران تماهياً مع رغبة أو استجابة لشروط أميركية بقطع أو عرقلة السعودية "مبادرة الطريق والحزام"؟. وهل تحتمل السعودية نتائج هذا الإيذاء؟.
تنقض المقاربة "الحربية" التي قدمها الأمير السعودي في مقابلة الأمس، قوله، بأن بلاده "لا تريد حرباً في المنطقة". أبداً. رغبة بن سلمان بالحل العسكري لأمن الخليج العربي واضحة. "النفس الحربي" في المقابلة كان طاغياً. لكنه ليس مفاجئاً. لأن صحف الرياض باتت تنسخ، بابتهاج تفاؤلي غبي، مواقف الفاشيين الجدد في واشنطن من أمثال الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو السناتور الأميركي ليندسي غراهام. كما تمتلئ صفحاتها بالدعوات إلى "الحل العسكري" و"المواجهة المباشرة" مع إيران. فـ"الإيرانيون لو تمت مواجهتهم في الخليج مثل ما تواجههم إسرائيل في سوريا، فلن يتجرؤوا على التصعيد والمواجهة".
لا يلتزم هذا التحليل كلياً بالرأي القائل بأن السياسة "السعودية مسيَّرة وليست مخيَّرة". لأن السياسة موازين قوى، كما أشرنا. فإدارة ترامب في واشنطن ترسل وفوداً ورسائل إلى طهران. وهناك إمكانية حدوث تغير دراماتيكي في موقف السعودية تجاه إيران، يشبه ما جرى يوم أدار أوباما ظهره لـ"العرب" ووقع على "النووي" مع "الفُرس".
هيئة تحرير موقع الحقول
الإثنين، 14 شوال، 1440، الموافق 17 حزيران، 2019