الآثار المترتبة على الانسحاب الأمريكي من منطقة الساحل الأفريقي

الآثار المترتبة على الانسحاب الأمريكي من منطقة الساحل الأفريقي

بعد “غروزني” : مؤتمر موسكو يبحث “من هم أهل السُنَّة والجماعة”؟
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وأصداؤها في يومها السادس
حديث الرئيس بشار الأسد أمام اجتماع السادة العلماء والعالمات في جامع العثمان بدمشق (النص كاملاً)

تُواجِه قدرة الولايات المتحدة على عرض القوة العسكرية وممارسة النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي في أفريقيا تحديات متزايدة في الوقت الذي يتصاعد تنافس واشنطن العالمي مع روسيا والصين. ويتضح التراجع الأمريكي المتزايد في منطقة الساحل الأفريقي بالتحديد (وهي حزام جغرافي يضم دولاً تقودها أنظمة عسكرية في أكثر المناطق المثقلة بالنزاعات في العالم). ويشهد هذا الشريط القاحِل صراعات جهادية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وتفشي عمليات قطع الطرق وإرهاب تنظيم “بوكو حرام” في شمال نيجيريا، وفروعاً لتنظيمات جهادية حول منطقة تشاد، وحرباً أهلية في السودان، وصراعاً عرقياً كامناً في شمال إثيوبيا، وأخيراً حركة “الشباب” الإرهابية في الصومال. وتمكنت المخططات الانقلابية المتعاقبة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر من إطاحة حكومات مدنية ضعيفة، والتحشيد ضد وجود القوة الاستعمارية السابقة (فرنسا)، والتوجه نحو روسيا والصين من أجل الدعم. وتُدار دول الساحل كافة الآن – من غينيا في غرب أفريقيا إلى السودان في شرق القارة – من قبل قادة عسكريين.

وتَعني الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر في خلال الفترة 2020-2023 أن الدبلوماسيين الأمريكيين يواجهون معضلة تَتَمَثَّل بمحاولة الحفاظ على علاقات أمنية مع الأنظمة العسكرية الجديدة، والالتزام بالقيود القانونية الأمريكية المتعلقة بتقديم المساعدات العسكرية للحكومات التي انتزعت السلطة بطريقة غير دستورية وتنتهك حقوق الإنسان. وتُعَدُّ هذه المعضلة أكثر حدة في النيجر بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا. وكان الدبلوماسيون الغربيون ينظرون إلى النيجر حتى فترة قريبة على أنها حصن للديمقراطية في منطقة تُحقق فيها الأنظمة العسكرية وحركات التمرد الإسلامية المتطرفة تقدماً. وتمكَّن النظام العسكري في نيامي حالياً من تحويل هذه الدولة الفقيرة بعيداً عن الغرب، حيث طُلِبَ من القوات الفرنسية مغادرة البلاد، وتبنَّى النظام العسكري مقاربة مماثلة لا هوادة فيها تجاه الوجود العسكري الأمريكي هناك، الأمر الذي أثار قلق وزارة الدفاع الأمريكية.

 

ويستخدم الجيش الأمريكي القاعدة العسكرية في أغاديز النيجر مركزاً لعمليات المسيرات في غرب الساحل منذ 2013. كما استثمرت واشنطن مئات ملايين الدولارات في تدريب جيش النيجر منذ أن بدأت بتسيير عمليات استطلاع جوي في المنطقة باستخدام الطائرات والمسيرات. وتبدو العلاقات الآن في أدنى مستوى لها بعد أن رفضت النيجر السماح لوفد أمريكي رفيع المستوى بدخول أراضيها مؤخراً بعد أن عبَّرت واشنطن عن قلقها إزاء محادثات مزعومة بين النيجر وإيران لتزويد الأخيرة باليورانيوم. كما أعلنت إدارة بايدن في 19 مايو 2024 عن موافقتها على مغادرة النيجر في موعد لا يتجاوز سبتمبر 2024.

وما زاد الأمر سوءًا أن هذا الإعلان جاء بعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلان “البنتاجون” سحب قواته من تشاد امتثالاً لمطالب الجيش هناك. وإلى جانب تنامي وجود المرتزقة الروس في مالي والنيجر، ظهرت تقارير موثوقة حول وصول عناصر روس إلى تشاد التي كانت في عهد زعيمها السابق إدريس ديبي حليفاً قوياً لفرنسا. وبدأت تشاد بالاقتراب من روسيا في عهد محمد ديبي نجل الرئيس السابق، والذي التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن في موسكو في يناير 2024، وعزَّز مؤخراً موقعه من خلال انتخابات رئاسية مَعيبَة. ويصعب على قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” الجنرال مايكل لانجلي استيعاب هذه التطورات؛ ففي الوقت الذي يبدو الخروج الأمريكي من النيجر دائماً، تأمُل “أفريكوم” بأن يكون انسحاب القوات الأمريكية من تشاد مؤقتاً بعد أن أبلغت القيادة المدنية في تلك الدولة واشنطن رغبتها بمواصلة الشراكة الأمنية بعد انتخابات الرئاسة في مايو 2024.

الفرنسيون أولاً، والآن الأمريكيون؟

إلى جانب الانسحاب الأمريكي الإجباري من المنطقة، تواجه قوة غربية أخرى مصممة على محاربة التنظيمات الجهادية في منطقة الساحل الإهانة؛ فقد اكتشفت السيدة الاستعمارية السابقة – فرنسا – حدود نفوذها وقدرتها على عرض القوة في خلال السنوات الخمس الأخيرة. وواصلت باريس على مدى عقود بعد انتهاء حقبة الاستعمار ممارسة النفوذ، وجني الفوائد الاقتصادية في أفريقيا. لكنَّ نفوذها القوي أحياناً أدّى إلى إثارة المعارضة، غير أن القادة الأفارقة المدعومين من فرنسا كانوا في العادة يعودون إلى السلطة بالرغم من تزايد حالة السخط المجتمعي. وكان من المفترض في أعقاب عام 2010، على ضوء تعزيز الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، أن تتمكن استراتيجية باريس من احتواء انتشار الجهادية في بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد، في الوقت الذي واصلت فيه فرنسا توفير المساعدات التنموية إلى دول المنطقة بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.

لكنَّ هذا التنسيق لم يتبلور على الإطلاق حتى بعد محاولة هيكلته في إطار مجموعة حقيقية من المانحين تتمثل في “تحالف الساحل” الذي أطلقته في يوليو 2017 فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وعشر دول أخرى إلى جانب المؤسسات المالية الدولية.

واليوم اكتسبت الديناميات الاجتماعية والسياسية في حزام الأنظمة العسكرية بمنطقة الساحل اتجاهاً استراتيجياً متزايداً مُناهِضاً لفرنسا. وتعيَّن على الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون سحب قواته كافة من مالي وبوركينا فاسو والنيجر عندما طلبت الأنظمة الجديدة التي يقودها العسكر من القوة الاستعمارية السابقة المغادرة. ولعل ما زاد الأمر سوءًا، ردة الفعل الثقافية المتجذرة والمتسعة بسرعة ضد فرنسا. ويتمثل جزء من المشكلة في السياسة المعادية للهجرة التي تبنتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة في خلال العقود الماضية. وأدَّت القيود المتزايدة على منح التأشيرات من جانب السفارات الفرنسية والهادفة إلى منع المهاجرين الأفارقة، والوجود الدبلوماسي التي يتخذ طابعاً عسكرياً، والغطرسة والتعالي المتجذّر في الاستعمار، إلى تراجع مكانة باريس ونفوذها في منطقة الساحل.

وهناك مؤشرات متزايدة على أن مشاعر الاستياء المناهضة لفرنسا والمتجذرة في الإرث الاستعماري في أفريقيا بدأت الآن بالتحوُّل إلى رَدّ فعل مناهض للغرب ينطوي على انعكاسات قوية بالنسبة لواشنطن. ويُساور بعض الأنظمة العسكرية الجديدة في منطقة الساحل شكوكاً بأن الوجود العسكري الأمريكي يشترك في الأجندة الاستعمارية والإمبريالية نفسها التي تضع في مُقَدِّمَة أولوياتها المصالح الأمنية والدبلوماسية للقوة العظمى على حساب المطالب الإقليمية المتمثلة بمزيد من العدالة في الشؤون الأمنية والاستراتيجية. ولعل الانطباع بأن اهتمام واشنطن الأخير في أفريقيا جاء نتاجاً للتنافس بين القوى العظمى لا يساعد في ذلك. لذلك فإن التصريحات المتكررة الصادرة عن إدارة بايدن بضرورة امتلاك الدول الأفريقية الخيار، بدلاً من إجبارها على الاختيار بين الصين والولايات المتحدة، لا تحمل الكثير من المصداقية في نظر معظم الأفارقة الذين يشعرون في الحقيقة بأن من الواضح أن واشنطن تدفعهم للاختيار.

 

فراغ تملؤه الصين وروسيا

يوفر الفراغ الجيوسياسي الناجم عن انسحاب فرنسا والولايات المتحدة من منطقة الساحل الكثير من الفرص لروسيا والصين لبسط نفوذهما من خلال عرض تقديم المساعدة السريعة للأنظمة الجديدة دون فرض شروط قاسية مثل تلك التي تفرضها القوى الغربية. وعلى عكس الولايات المتحدة وفرنسا – اللتين عادة ما تربطان مساعداتهما العسكرية بشروط سياسية وأخلاقية – فقد تبنت روسيا استراتيجية عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتوفير الغذاء والأمن والسلاح مقابل الحصول على النفوذ والموارد الطبيعية. كما تَعرِض الصين – التي تُعَدُّ أكبر مستثمر أجنبي في المنطقة – تقديم الأموال النقدية والوعود ببناء البُنْيَة التحتية مقابل الحصول على حقوق مستقبلية في مجال الموارد الطبيعية، وهو ما يُمَثِّلُ عرضاً مغرياً لأنظمة غير مستقرة تسعى لفرض سلطة مركزية. واستغلت موسكو وبيجين بشكل استراتيجي مهمات حفظ السلام الفاشلة، والانسحاب العسكري من جانب القوى الغربية، والتدخل لتوفير الدعم الدبلوماسي والمساعدات الاقتصادية والأمنية. ونتيجة لذلك بدأ كلٌّ من النيجر ومالي وبوركينا فاسو بتعميق علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع روسيا والصين بعد الانسحاب الفرنسي-الأمريكي.

ولعل من مصلحة بيجين وموسكو الحفاظ على بقاء الأنظمة العسكرية الجديدة في أفريقيا من خلال وقف الانقلابات والانقلابات المضادة. لذلك فإن حماية الأنظمة العسكرية من “الانقلابات” يُشَكِّل جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية روسيا. وعمل المستشارون الروس ومجموعة فاغنر – التي جرى تغيير اسمها إلى “الفيلق الأفريقي” – على نشر طائرات من طراز “إل-39″ و”سوخووي-25” المقاتلة ومروحيات “أم آي-24 بي” إلى جانب وحدة قوامها 400 مقاتل بهدف محاربة المتمردين الإسلاميين في المنطقة. ورحَّبت مالي وبوركينا فاسو والنيجر بروسيا بوصفها حليفها المفضل. وتتمركز القوات الروسية بالفعل في جمهورية أفريقيا الوسطى. وبحسب تقييم لوزارة الدفاع الأمريكية أصبحت جنوب السودان الآن – التي توسطت واشنطن لحصولها على الاستقلال عام 2011 – جزءًا من مجال النفوذ الروسي. ومن غير المستغرب في مثل هذه الظروف ما خلص إليه استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “جالوب” حول تراجُع الرضا في أفريقيا عن القيادة الأمريكية في الوقت الذي ارتفع فيه الرضا عن قيادة الصين وروسيا.

وما زال من غير المؤكد إذا ما كان هذا التحوُّل سيعمل على تخفيف عنف المتشددين الذي عمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة على مدى سنوات. ومع انسحاب الغرب وتبنّي دوراً أكثر سلبية، تَمُرُّ منطقة الساحل في تنافس جيوسياسي جديد بين الشرق والغرب، الأمر الذي قد يُنذر بمرحلة جديدة من الاضطراب وإعادة الاصطفاف الاستراتيجي. كما تثير عملية التحوُّل من التحالف مع الغرب إلى التحالف مع الشرق في منطقة الساحل أسئلة مهمة حول مستقبل الأمن الإقليمي وإدارة الموارد المحلية.

 

ومعرفة ما إذا كان التدخّل الروسي والصيني في منطقة الساحل سيجلب حلولاً دائمة لمشاكل الإرهاب الجهادي وقطع الطريق وانتشار الجماعات المُسلّحة والفساد الحكومي والفقر المستمر، مسألة وقت. وقد لا يؤدّي استبدال النفوذ الغربي بالشرقي إلى حل المشكلات الأساسية التي تُعانيها منطقة الساحل.

فعلى سبيل المثال، تُعاني بوركينا فاسو مشاكل أمنية مُتزايدة بالتزامن مع الدعم الروسي لها؛ فمنذ شهر يناير 2024، وصلت شحنة من الأسلحة الروسية وفريق مؤلّف من 100 مُقاتل شبه عسكري إلى البلاد، ومن المُتوقّع وصول 200 جندي إضافي قريباً. وعلى الرغم من هذه التعزيزات يستمر العنف في التصاعد بصورة كبيرة. وفي الوقت الحالي، نزح أكثر من 2.1 مليون شخص بسبب الصراع الدائر، إذ إن ما يقرب من ربُع مدارس البلاد مُتوقّفة عن العمل. ويتوقّع المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية أن تكون الجماعات الإسلامية المُتشدّدة مسؤولة عن مقتل حوالي 8600 شخص في بوركينا فاسو هذا العام، وهو ما يُمثّل زيادة مُذهلة بنسبة 137% عن العام السابق الذي شهد مقتل 3,627 شخصاً. ويؤكّد العنف المُستمر على الديناميات الجيوسياسية المُعقّدة والمُتغيّرة في منطقة الساحل، ما يُسلّط الضوء على النتائج المُتباينة للتدخّلات العسكرية الأجنبية في المنطقة.

المخاوف الأمريكية من الإرهاب

لا تبدو الصورة أكثر إشراقاً في بقية منطقة الساحل؛ فوفقاً لـمؤشّر الإرهاب العالمي، فإن 43% من الوفيات الناجمة عن الإرهاب في العالم الآن تقع في منطقة الساحل، أي أكثر من جنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مُجتمعةً، وهذه النسبة آخذة في الارتفاع؛ فقد قُتل 12,000 شخص في عام 2023، مُقارنةً بـ 9,000 شخص في عام 2022 و6,000 شخص في عام 2021 مُعظمهم من المدنيين، وهناك ما لا يقل عن ثلاثة ملايين نازح داخل البلاد. وهناك دولتان في منطقة الساحل – مالي وبوركينا فاسو – من بين أكثر خمس دول في العالم تأثراً بالوفيات الناجمة عن الإرهاب. ومع وقوع 1,135 حالة وفاة بسبب الإرهاب في عام 2023، فإن عدد الوفيات الناجمة عن الإرهاب سنوياً في بوركينا فاسو الآن تفوق هذه النسبة في أي بلد آخر في العالم.

وزاد تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الساحل الأفريقي من سلطته ونفوذه عبر فروعه في أفريقيا، في خلال عام 2024.  وتُظهر الأحداث الأخيرة في الصومال وموزمبيق ومالي تصميم التنظيم المستمر على السعي للسيطرة على الأراضي حيثما أمكنه ذلك. وليس من المُستغرب أن تظل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) والقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) قلقة للغاية من أن سيطرة التنظيم على هذه الجيوب الصغيرة  يُمكن أن يكون لها تأثير أكبر في تمكينه من استئناف عملياته الخارجية وتوسيع نشاطه المالي وتعطيل إمدادات الطاقة العالمية؛ ففي الصومال، لا يزال الفرع المحلّي لتنظيم الدولة الإسلامية يؤدي دوراً مُهماً في الشبكات المالية العالمية للتنظيم الأم على الرغم من وفاة زعيمه المالي المدعو  بلال السوداني في يناير 2023؛ ولذلك ضاعفت وزارة الخزانة الأمريكية مؤخراً جهودها لتحديد هوية القادة الجُدد للتنظيم في الصومال وشركائه في الخارج وتصنيفهم إرهابيين بهدف تعطيل نقل الأموال بين ولايات التنظيم التي تمتد في جنوب أفريقيا والقرن الأفريقي وجنوب آسيا.

وهذه الصور القاتمة تجعل مسألة انسحاب القوات الأمريكية من النيجر أكثر أهمية، إذ إن البنتاغون بذلك يخسر الآن إمكانية استخدام قاعدة عسكرية مُهمّة يعتمد عليها في مُحاربة جماعات مُسلّحة مثل تنظيم داعش؛ فقاعدة الطائرات الأمريكية من دون طيّار في النيجر تُستخدم لجمع المعلومات الاستخباراتية التي تُعد أساسية لاستهداف معاقل الإرهابيين في المنطقة. وبالنظر إلى تفشّي الإرهاب في منطقة الساحل، فمن الواضح أن واشنطن كانت تُفضّل الإبقاء على علاقاتها مع الأنظمة الجديدة في دول المنطقة، حتى لو كانت تخضع لقيادات عسكرية. ففي نهاية المطاف، لا تنفر واشنطن من الواقعية في السياسة الخارجية، لكن القانون الأمريكي يحظر على واشنطن تقديم الأموال للحكومات الانقلابية، بما في ذلك النيجر.

مع ذلك، حاولت إدارة بايدن الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع تلك الدول – التي يمتلك الكثير منها موارد طبيعية هائلة – في محاولة لاستئناف الدعم العسكري وغيره من أشكال الدعم المالي يوماً ما. وبعبارة أخرى، تمثّلت استراتيجية واشنطن في محاولة الانخراط مع حكومات النُظم الانقلابية والتفاوض على خرائط طريق وجداول زمنية لإجراء انتخابات داخلية تحفظ ماء الوجه. لكن القادة الأفارقة، في الوقت الذي أخبروا الدبلوماسيين وغيرهم من المسؤولين الأمريكيين أنهم يريدون الحفاظ على العلاقات مع واشنطن، رفضوا إلى حدٍ كبير الاقتراحات بأن على بلدانهم اتباع الإملاءات الغربية، بخاصة عندما لا يَطرح البديلان الروسي والصيني مثل هذه المطالب.

الاستنتاجات

توصّلت إدارة بايدن الآن إلى استنتاج مفاده أن استراتيجيتها في منطقة الساحل الأفريقي قد فشلت. فتشخيص المسألة هو أن تلاشي قوة أمريكا ينبع من أربعة عوامل رئيسة:

أولاً، حقيقة أن الأنظمة العسكرية الجديدة في منطقة الساحل ليست على استعداد للعمل مع القوى الخارجية التي تريد فرض تغيير سياسي أو “حوكمة أفضل” مُقابل المساعدة العسكرية والاقتصادية؛ بمعنى أن “المشروطية” أو أي نوع من الدعم المشروط يواجه مقاومة واستياء من دول المنطقة، على أساس أن القوى الاستعمارية الجديدة أو السابقة تفرض إرادتها مرة أخرى على منطقة عانت كثيراً تبعات الاستعمار الغربي.

ثانياً، استعداد الفاعلين الآخرين للتدخّل وملء الفراغ؛ فالدول الفاشلة أو تلك التي في طريقها للفشل أو الضعيفة توفّر فرصاً لروسيا والصين لاستغلالها. ولكن إلى جانب هؤلاء المُشتبه بهم المُعتادين، هناك الآن أيضاً فاعلون جُدد يُقيمون علاقات قويّة في منطقة الساحل؛ فالقوى المتوسّطة، مثل تركيا وبعض دول الخليج، تنشط بشكل مُتزايد في المنطقة وتتمتّع بسمعة إيجابية من دون أي إرث استعماري يُذكر. وبالنظر إلى هذه الديناميات، فإن أحد الخيارات التي تدرسها واشنطن بشكل جدّي هو العمل بشكل وثيق مع تركيا من أجل احتواء النفوذ الاقتصادي والعسكري المُتنامي للصين وروسيا في منطقة الساحل والقرن الأفريقي.

ويكمُن السبب الثالث لتراجُع النفوذ الأمريكي في حقيقة بسيطة، هي أن المناطق والأزمات [الدولية] الأخرى أكثر إلحاحاً بالنسبة لواشنطن؛ فقد قرّرت إدارة بايدن إعطاء الأولوية دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً لأوكرانيا والشرق الأوسط؛ لأن هذه الأزمات أكثر وضوحاً وأهمية للجماهير المحليّة في الولايات المتحدة. فحتى لو كان عدد المدنيين الذين يلقون حتفهم في أفريقيا أكبر بكثير من أولئك الذين يلقون حتفهم في غزة أو أوكرانيا، فإن منطقة الساحل أو السودان لا تزال تحظى باهتمام غربي أقل بكثير.

أما السبب الرابع لانحسار القوة الأمريكية في أفريقيا فيتعلّق بالنظرة إلى النفاق الأمريكي وازدواجية المعايير في طريقة تعامل واشنطن مع ما يجري في غزة؛ فالدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل على الرغم من اتهام الأخيرة بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي يُدمّر قضية القيادة الأمريكية العالمية في أماكن مثل الساحل الأفريقي؛ وبهذا المعنى، فإن دعم أمريكا لحرب إسرائيل على غزة منذ أكتوبر الماضي قد حوَّل الرأي العام الأفريقي بشدة ضد أمريكا. ولا يغيب النفاق الأمريكي أيضاً عندما أظهرت إدارة بايدن مُجدّداً استعدادها للتعامل مع بعض الأنظمة الأكثر قمعاً في أفريقيا، مثل النظام في غينيا الاستوائية، حيث يُقال إن الصين تُريد بناء قاعدة بحرية. كما بدت أمريكا سعيدة بتجاهل العيوب التي شابت الانتخابات الأخيرة في الكونغو، ولا تزال مُصمّمة على الحفاظ على نفوذها في بلد يمتلك أكبر احتياطي من الكوبالت في العالم.

في نهاية المطاف، وعلى الرغم من فشل مُقاربة إدارة بايدن تجاه منطقة الساحل بسبب مزيج من كل تلك العوامل، فإنه لا يزال هناك اعتقاد قوي في واشنطن بأن الصين وروسيا ستفشلان أيضاً في تحقيق الاستقرار في الديناميات الأمنية في المنطقة. ويعتقد الكثيرون في إدارة بايدن أنها مسألة وقت فقط قبل أن يُدرك السكان المدنيون في منطقة الساحل أن أياً من هاتين القوتين الخارجيتين غير مُهتمتين بالسلام والازدهار الدائمين. ويُشير المتفائلون في إدارة بايدن إلى أن الاندفاع الصيني في أفريقيا قد بلغ ذروته بالفعل، مع انخفاضه مؤخراً بشكل حاد منذ عام 2016. كما يعتقدون أيضاً أن مُرتزقة موسكو لن يقدّموا حلولاً دائمة لمشاكل الأمن والإرهاب المُتجذّرة في منطقة الساحل.

وترى الأصوات المُتفائلة نفسها أن إدارة بايدن حاولت على الأقل اتّباع نهج مُتماسك تجاه أفريقيا. وبالفعل، كانت هناك العديد من الزيارات رفيعة المستوى إلى أفريقيا، وعُقِدَت قمّة كُبرى في واشنطن في عام 2022، حيث وُضِعت رؤية واستراتيجية للدعم السياسي والاقتصادي لقادة 49 دولة أفريقية. كما تمكّنت إدارة بايدن أيضاً من إشراك الاتحاد الأفريقي في اجتماعات مجموعة العشرين، ويقال إنها تدعم ضم دولة أفريقية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومع ذلك، فقد تبيّن أن الكثير من الأموال التي وعدت واشنطن بها أفريقيا، والتي تقدّر بــــــ55 مليار دولار، هي مشاريع أعيدت تسميتها أو لا تزال قيد الإعداد، وهي موزّعة على عدة سنوات. وأخيراً، هناك تحذير واحد مهم؛ فعلى الرغم من إخفاقات إدارة بايدن بهذا الملف، وفي حال استعاد دونالد ترمب الرئاسة، فمن المؤكّد أن أفريقيا ستتراجع أكثر في قائمة الأولويات الأمريكية. ويُمكن لإدارة بايدن أن تدّعي على الأقل أنها وضعت أجندة طموحة لأفريقيا، حتى لو لم يتحقّق الكثير من أهدافها بعد.

 


عمر طاشبينار، باحث غير مقيم في مركز الإمارات للسياسات، وأستاذ الدراسات الأمنية في كلية الحرب الوطنية بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وزميل بحث أول في معهد بروكينجز.

المقال منشور على صفحة “مركز الإمارات للسياسات”، يوم 5 حزيران/يونيو 2024

Please follow and like us:

COMMENTS