أنطون سعاده لم يكن طوباوياً، فقد نجح في تحديد الأمة وقدم لها درع الوقاية من الأخطار والتفتت والاقتتال، نجح بجعل الأمة السورية أمة مستقلة
كتب الأستاذ نجا حمادة / بيروت :
طفلٌ يحملُ همّ أمةٍ:
وُلد أنطون سعادة في الأول من آذار من العام 1904 في قرية الشوير جبل لبنان الشمالي، وسط عائلة مثقفة عاصرت الكثير من التحولات الكبيرة في المنطقة من سقوط الدولة العثمانية، إلى الانتداب الفرنسي.
كان ميلاده بمثابة الشرارة الأولى لمشروع فكري وثوري، تخللته رحلات منفى طويلة، وسجون مظلمة، انتهاءً بإعدامه في الثامن من تموز عام 1949، بعد محاكمة صورية أُتهم فيها ب «تقويض كيان الدولة اللبنانية».
لكن إرثه بقي كالنار تحت الرماد، تشتعل كلما تعرضت سورية لأزمة وجودية.[1]
الأسرة:
والده خليل سعاده، طبيب وفيلسوف لبناني، ناضل ضد العثمانيين عبر مقالاته في جريدة «السلطنة» المصرية، ودعا إلى فصل الدين عن الدولة، ألف كتاب «سرُ تقدم الإنكليز السكسونيين»[2] سنة 1912 الذي حلل فيه أسباب تفوق الغرب، مركزاً على التعليم والعلم. علماً ان سعاده قد تأثر بهذا الكتاب حيث أصبح مرجعاً في صياغة نظريته عن تقدم الأمة بالعلم والانضباط. نفي خليل سعاده إلى الأرجنتين سنة 1921، حيث انضم إليه أنطون لاحقاً، ليكتشف من والده أن الهجرة ليست هروباً، بل مختبراً لفهم العالم.
والدته نايفة نصر خنيصر، امرأة من عائلة مثقفة، فهمت الأيمان بحب الوطن ونقلته إلى ولدها أنطون رغم الغربة. [3]
الإخوة والأخوات، شارل، الأكبر والذي عمل مهندساً في مصر، وكان داعماً مالياً لأنطون خلال سنوات الضيق.
إدوار، الأقرب روحياً إليه، انضم لاحقاً للحزب وسجن معه عام 1936.
إستير، وألين وإليزابيث، كنّ ناقلات سريّة لرسائله من السجن، عبر حياكة الرموز في قطع قماش.
تأثر سعاده بكل من هيجل ونتشه:
كان سعاده وهو في السابعة من عمره يتقن العربية والفرنسية، وفي العاشرة تمكن من التركية والإنكليزية، وعندما وصل إلى الثانية عشر، قرأ «فلسفة التاريخ» لهيجل وكتب ملاحظاته عليه.[4]
والجدير ذكره أن الحرب الكونية (1914-1918) كان لها وقع كبير عليه من هول ما رأى خاصة موضوع المجاعة وكيف نجح المستعمر من تحويل الطوائف إلى قبائل تصارع بل تأكل بعضها.[5]
أنطون سعاده الصحفّي:
بين الأعوام 1921 و1930 عمل أنطون سعادة محرراً في كل من البرازيل والأرجنتين، «الجريدة» و «المناظر» ليلحظ سعاده كيف نجح المهاجرون اللبنانيون بتحويل انتماءهم من «القبيلة» إلى «الهوية الجديدة» وقال: «لو اجتمع هؤلاء تحت علم واحد لصنعوا أمة لا تقهر». في العام 1910 درس الثورة المكسيكية وتأثر بفكرة الهوية المختلطة (المزيج بين الأصالة والحداثة) ويبدو أنها ترجمت لاحقاً خلال دعوته «سورية جامعة لكل الأعراق والأديان».[6]
التأليف من داخل السجن:
عاد سعاده من مغتربة سنة 1930، وأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1932، معلناً أن الثورة تبدأ من العقل قبل البندقية. وخلال الأعوام 1936-1937 نجح سعاده في كتابة الكتاب الفلسفي الأهم ألا وهو «نشوء الأمم» ومن خلال هذا الكتاب نجح سعادة في تحليل عوامل تكوين الأمة، حيث ركز على البيئة المشتركة، المصير التاريخي، والإرادة الحية.[7]
نشوء الأمم هو ليس مجرد كتاب، بل هو بيان فلسفي يجيب بكيفه نهوض الأمم. كما وأعلن عن رفضه نظرية العقد الاجتماعي «لروسو» حيث اعتبر سعاده أن الامة وجدت قبل الدولة، كما هاجم القومية العربية ل « ساطع الحصري» معتبراُ أن الهوية السورية أقدم من العربية بل وأشمل.
في العام 1948 يكتب سعاده العديد من المقالات (الصحائف السوداء) يهاجم بها الفساد السياسي والإداري والقضاء ومن مقالاته المعروفة والمهمة: حكامنا والوطن المسلوب.[8]
ومن آثاره الفكرية أيضاً «المحاضرات العشر» حيث يشرح سعاده فكر الحزب عبر محاضرات عشر كانت قد ألقيت في الجامعة الأمريكية على عدد من الطلبة، إضافة إلى الكتاب الأدبي المهم حول الصراع الفكري في الأدب السوري، وكتاب الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية مع العلم أن سعاده وخلال وجوده في السجن عمل على مخطوط لم يبصر النور للأسف ولم نستطع العثور على (قصقوصة) منه والذي كان تحت عنوان: نشوء الأمة السورية، وغيرها الكثير من الإنتاجات الفكرية، والرسائل. [9]
تأثر سعاده الفكري:
نعم لقد تأثر سعاده بفكر هيجل، وأستوحى منه فكرة الجدل التاريخي، لكنه رفض قطعاً حتمية الصراع الطبقي الماركسية.[10]
ومع نتشه تأثر سعاده ب «إرادة القوة» لكنه حولّها إلى «إرادة الأمة»
وعن أب فلسفة التاريخ ومقدمته المشهورة ابن خلدون، فقد أخذ منه مفهوم «العصبية» لكنه جعلها «ولاء للوطن لا للقبيلة».[11]
يمكن القول في النهاية أن أنطون سعاده لم يكن طوباوياً، فقد نجح في تحديد الأمة وقدم لها درع الوقاية من الأخطار والتفتت والاقتتال، نجح بجعل الأمة السورية أمة مستقلة كل الاستقلال عن أي قضية أخرى، وأكد على انها جزء من العالم العربي، كما ونجح بتقديم مشروع اقتصادي متكامل لسورية يجعلها من أقوى الأمم على مستوى الاكتفاء الذاتي حيث أنها تعتمد على خيراتها ومواردها الكبيرة.
كما آمن سعاده بإن الشباب هم نقطة التحول الكبرى، في تقرير مصير الأمة، ومما لا شك فيه أن سعاده يعتبر اليوم أيقونة للمقاومة الفكرية الثقافية بوجه جميع الخطط ومشاريع الهيمنة والتقسيم.
وإن كان هناك لبعض التوصيات المهمة بهدف إحياء فكر أنطون سعاده نقترح:
-العمل على إقامة متحف رقمي، يوثق كل آثاره ورسائله ومخطوطاته بعد التجديد، وبناء مراجعات علمية حول صياغات كتبه.
منهاج تعليمي في المدارس والجامعات لتدريس نظرياته العلمية والتاريخية والثقافية.
مسابقة سنوية خاص للشباب حول موضوع الأمة وسبل حمايتها.
ختاماً نقول: أن أنطون سعاده لم يكن مجرد «زعيم حزب»، بل كان عقلاً استثنائياً نجح بأن يحول المأساة إلى مشروع، والمنفى إلى مختبر، والموت إلى حياة وبداية، قصة حياة أنطون سعاده تعلمنّا أن الأفكار العظيمة لا تحتاج إلى عمر طويل، بل تحتاج إلى قلب كبير، وقلم لا يخشى السلطة.
نجا حمادة، كاتب ومناضل سوري قومي اجتماعي من لبنان
منشور في موقع مجلة صباح الخير، العدد 123، 4 آذار 2025، ويعاد نشره في موقع الحقول بالإتفاق مع إدارة الموقع.
[1] تويني، غسان – أنطون سعادة: حياته وعصره- بيروت دار النهار 1958 ص: 12-15
[2] سعادة، خليل – سرّ تقدم الإنكليز السكسونيين – الإسكندرية- المطبعة العصرية 1912- ص: 33-40
[3] سعادة، أنطون – الرسائل الشخصية إلى العائلة – أرشيف الحزب السوري القومي الاجتماعي- 1933
[4] الخوري، سامي – أنطون سعادة: العبقري المبكر – دمشق – دار المدى، 2005- ص: 58-60
[5] تقرير الصليب الحمر الدولي – المجاعة في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى – جنيف – 1919 – ص: 7-9
[6] شيحا، ميشال – الهجرة اللبنانية إلى الاميركيتين – بيروت دار العلم للملايين – 1960 – ص: 112-115
[7] سعادة، أمطون – نشوء الأمم – بيروت مطيعة الحزب – 1938 ص: 45-70
[8] سعادة، أنطون – الصحائف السوداء – بيروت دار الفكر الجديد – 1948 – ص: 22
[9] سعادة، أنطون – المحاضرات العشر – بيروت دار ومطبعة الحزب – 1944 – المحاضرة الثالثة – ص: 15
[10] سعادة، أنطون – نشوء الأمم – ص: 50
[11] قبرصي، عبد الله – أنطون سعادة والتراث العربي – القاهرة – دار المعارف – 2001 – ص: 78-80
COMMENTS