بعد ست سنوات من العمل «الدؤوب»، خرجت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أخيراً بالصيغة الجديدة والمنقحة لكتاب المدنيات: «أن نكون مواطنين في إسرائيل». الكتاب الجدليّ لم يكن أقل جدلاً لدى علمانيّي «الدولة»، إلى حد تصلح تسميته بـ«أن نكون مواطنين لدى نفتالي بِينيت»
هناك بين طيات الكتاب، حيث اطمأن اليمين الإسرائيلي الحاكم إلى ما تضمنته فصوله من ترجمةٍ لنظرتهم السياسية الصهيونية والدينية.
المدنيات، الذي تناولته صحيفة «هآرتس» العبرية في ثلاثة تقارير مفصّلة، حمل إحداها عنوان «أن نكون مواطنين لبِيِنت»، في إشارة إلى وزير التربية والتعليم الإسرائيلي المتطرف والمجاهر بكرهه للعرب والفلسطينيين، نفتالي بينيت. ولا يخفى أنه أُعدّ في طور عملية منهجية تهدف إلى غسل أدمغة طلاب المدارس الثانوية من أبناء المناطق المحتلة عام 1948، والطلاب الإسرائيليين من أبناء اليهود، الحاملين أكثر من 90 جنسية مختلفة.
بدأت رحلة «كرة الثلج المتدحرجة» قبل شهور، بعدما سرّب أحد المدققين اللغويين العاملين في طاقم إعداد الكتاب بعض العبارات المسيئة إلى الفلسطينيين والعرب، التي تشوه في مجملها تاريخهم وحاضرهم، فضلاً عن اقتباس معظم العبارات من التوراة، خصوصاً في موضوع حقوق الإنسان، وليس من القوانين والمواثيق الدولية، الأمر الذي أثار حفيظة العلمانيين الإسرائيليين.
في الصفحات نفسها، ورد اتهام كاذب يلصق واقعاً مغايراً، فهو يفيد بأن غالبية عمليات الطعن نفذها فلسطينيو الـ48، ليكون الاتهام «إبرة تحت الجلد» تَلُمُّ شتات المجتمع الإسرائيلي اليهودي في قبيلة واحدة. المُسَرّب كان يهودا يعاري، الذي وصفه بينيت بـ«اليساري الكريه»، لانتمائه إلى منظمة «كسر الصمت». لكن لم تكلف الوزارة نفسها عناء الرّد «الموضوعي» على ما تناوله الإعلام الإسرائيلي، بل اكتفت بشتم يعاري، وبالقول إن «لجنة الشفافية ستحقق بالموضوع».
وفي أعقاب التقارير الصحافية، انطلقت اللجنة المذكورة للتحقيق، أمّا النتيجة فهي… صيغة منقّحة تتضمن عبارات دينية يهودية إضافية، وعنصرية ضد الفلسطينيين ومضامين أسرلة أكثر، علماً بأن الصيغة الجديدة أشرف عليها مستشار أكاديمي واحد، أفيعاد بكشي، كذلك فإن طاقم الإعداد والكتابة لم يشرك باحثين عرباً.
والكتاب، وفق «هآرتس»، يعطي مكانةً مركزيةً للنظرة الدينية التي تجلت في عدد من الاقتباسات المأخوذة من مصادر مختلفة، وفي الفصل الأول الذي حمل عنوان «إعلان الاستقلال»، اقتبست عبارات من التوراة غير موجودة في «وثيقة الاستقلال»، تعطي «الحق المطلق للشعب اليهودي في إقامة دولته الخاصة في أرض إسرائيل»، على قاعدة «الوعد الإلهي». وقد أتت بهذه الصيغة: «أعطيتكم الأرض، هذه الأرض التي أقسم الله أن يعطيها لآبائكم إسحق وإبراهيم»، وهي جملة مقتبسة من التوراة.
وظهر أن الجزء الأول من الكتاب أُعدّ للدفاع عن وجود إسرائيل «دولةً قوميةً يهوديةً»، فهو يُعرّف نوع القومية في إسرائيل على أنها إثنية ــ ثقافية، متماهية مع الأمة اليهودية، أو مرتبطة مع الشعب اليهودي. وعلى طول صفحات الفصل الأول، يعود هؤلاء مرة تلو أخرى إلى الادعاء أن هذا التعريف لا يلحق ضرراً أو مسّاً بالديموقراطية، مقزمين أي صيغة نقدية لهذا الطرح.
أمّا عن المستوطنات في الضفة المحتلة، فيتجاهل المدنيّات تماماً ذكر كلمة مستوطنة حتى لمرّة واحدة، كما أن المستوطنات ظهرت على أنها غير معروفة إن كانت أراضي احتلت عام 1967 أو «أراضي محرّرة».
تضيف الصحيفة أن الصّيغة الجديدة للكتاب تصف إسرائيل بأنها «دولة مثاليّة»، وتبرز المعطيات «الإيجابيّة» بشأن تخصيص الموارد الاقتصادية وغيرها لفلسطينيي الـ48، من دون التطرق إلى حقيقة أن هذه السياسات لا تُطبق فعلياً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يذكر الكتاب أن وزارة التربية تخصص ميزانيات للتيارات الدينية اليهودية أكثر من غيرها، أو أن تطوير الأراضي والمناطق المهمشة ينفذ بصورة غير منصفة، في حين أن الأولوية للمناطق التي يعيش فيها اليهود لا العرب.
ويتضح أن الواقف وراء الحملة الهادفة إلى إعادة صياغة الكتاب وفق المعايير السياسية الصهيونية، هو وزير التربية والتعليم السابق جدعون ساعر، فيما تابعها وأنهاها أخيراً خلفه بينيت. أمّا عرّابها فهو الرئيس السابق لسكرتارية البيداغوجيا في وزارة التعليم (السكرتارية التربوية)، تسيفي تسميرت. والأخير عُرف بأنه من منظري اليمينية الإسرائيلية، وكان واحداً من الذين نادوا بـ«ضرورة تفكيك الأقلية العربية إلى فئات أو مجموعات مختلفة».
تقول «هآرتس» إن ساعر وبينيت هما «شريكان في الموقف الأساسي بشأن الحق في إخضاع منظومة التربية الرسمية إلى الأجندات الحزبية»، مشيرة إلى الإملاءات في المضامين التي دخلت قسراً على الكتاب بناءً على تدخل وزارة التربية.
بالعودة إلى الموضوعات الأساسية التي يتناولها الكتاب، فإنه يروج أنّ «دولة قومية يهودية هي النموذج المفضل»، في حين أن السكان الأصليين، أي فلسطينيي الـ48، هم «الأقلية العربية التي تملك مكاناً محدوداً في الإطار العام». أما الإمكانية العلمانية، فتشغل مكانة مخففة وقصيرة، خصوصاً إذا ما قورنت مع التّفصيل بشأن التيار الحريدي المتدين، ثم يستطرد الكتاب بالإطراء الموجه إلى الصهيونية الدينية.
أيضاً، في فصول الكتاب قُسِّم فلسطينيو الداخل إلى مجموعات المعيار الأساسي في تعريفها يقوم على الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي أو الخدمة الوطنية (المسماة بالمدنية)، فقد برزت مصطلحات مثل «الدروز الصهاينة» و«الهوية الآرامية»، حاظيةً بمساحة كبيرة. أمّا المسلمون، برغم كونهم الأغلبية من الناحية العددية، فكان التطرق إليهم في فقرتين فقط، تحدثتا عن التمييز العنصري ضد النساء في هذه المجموعة. كذلك لم يتطرق الكتاب إلى تهميش المرأة في المجتمع الحريدي الصهيوني.
في الوقت نفسه، منح المدنيّات الدروز مكانة كبيرة مشدداً على أن «غالبيّة الدّروز لا يعرّفون عن أنفسهم بأنهم عرب»، مضيفًا: «خلافاً لما هو متبع في غالبية دول الشرق الأوسط، فإن مكانة المرأة الدرزية مساوية لمكانة الرجل». أمّا الفصل، الذي يحمل عنوان «الشروخات القومية بين اليهود والعرب»، فصوّر بداية الصراع كأنها عائدة إلى نهايات القرن الـ19، وأن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، هي الدول العربية وليس إسرائيل، لأنهم «لم يهجروا من أرضهم بل فرّوا عام 1948 خوفاً على حياتهم، أو استجابة لنداءات قيادات محلية أو قيادات الدول العربية المجاورة».
ويحمّل الكتاب، كذلك، الدول العربية المسؤولية الكاملة عن أحوال اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل، قائلاً إن الأخيرة «استوعبت مليون (لاجئ) من الدول العربية خلال سنوات إقامتها الأولى». من ثمّ يتناول أحداث انتفاضة القدس والأقصى عام 2000، التي استشهد فيها 13 شاباً من المناطق المحتلة عام 1948 على أنها «أعمال شغب»، وليست سياقاً طبيعاً جاء كرد فعل على الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
في السياق، عقّب نائب رئيس «المعهد الإسرائيلي للديموقراطية»، مردخاي كريمنتسير، على الصيغة المنقحة للكتاب، قائلاً إنه «من الناحية الفكرية والأيديولوجية. الكتاب يحمل توجهاً معادياً للمواطنة، خصوصاً القضايا المرتبطة بالمواطنين العرب».
بيروت حمود
الأخبار اللبنانية، الاربعاء ١١ أيار ٢٠١٦