في الثاني من شباط العام 2014، نشر «مجلس شورى المُجاهدين ـ أكناف بيت المقدس»، في شبه جزيرة سيناء المصريّة، بياناً أكّد فيه أنهم «مُلزمون بنصرة رجال الدولة الإسلاميّة وتثبيت أركانها». وبعد مرور تسعة أيّام، نشر تنظيم جهادي سلفي آخر مقطعاً مُسجّلاً يعلن فيه تأييده لـ «داعش». مُذّاك، أعلنت عدّة جماعات سلفيّة في قطاع غزّة ولاءها لـ «داعش»، ضاربةً عرض الحائط بالبيان الذي نشرته القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة»، في 22 كانون الثاني 2014، بقيادة أيمن الظواهري، وأعلنت فيه أنه ليس لـ «القاعدة» صلة بتنظيم «الدولة».
لم يمرّ وقت طويل حتّى انتشر مقطع مُسجّل، قيل إنَّه لعناصر سلفيّة جهاديّة في قطاع غزّة، تُعلن فيه مُناصرتها ومُبايعتها لـ «داعش». لكنّ القائد الروحي للمجموعة الفلسطينيّة التي أيّدت «داعش»، أبو الوليد (63 عاماً)، كشف لاحقاً، أنّ «الخليفة» أبو بكر البغدادي، رفض طلب الولاء والبيعة من مجموعته، ومن كل مجموعات السلفيّة الجهاديّة في قطاع غزّة. سبب ذلك، أنّ السلفيّة الجهاديّة في القطاع ما زالت «مُشتتة ومُنقسمة»، رغم أنَّ المجموعات اتفقت هذه المرّة على مُبايعة «داعش»، والتئامها تحت اسم واحد، بعد سنوات من التشتُّت التنظيمي!
أبو الوليد يوضح أنّ البغدادي يعرف بما يدور من خلافات بين المجموعات السلفيَّة في غزة، ويشير إلى أنَّ تنظيم «أنصار بيت المقدس» في شبه جزيرة سيناء قد حظي بموافقة البغدادي لأنَّه نجح في طيّ 19 تنظيماً سلفياً تحت لوائه، فضلاً عن تنفيذ عمليات في المنطقة. والخلاف بين «داعش» و «القاعدة»، بحسب أبو الوليد، قد أثَّر على المجموعات الجهاديَّة في غزة: «صارت التنظيمات السلفيَّة منقسمة، وشوّهت صورة تنظيم الدولة في قطاع غزة بسبب الخلاف بينه وبين القاعدة». مع ذلك، يؤكِّد أنَّ هناك مجموعة موالية لـ«داعش» في القطاع، وأنَّ «حماس» تعرف ذلك.
خلال السنة الأخيرة، غادر العشرات من مُناصري «الدولة الإسلاميّة» قطاع غزّة إلى سوريا والعراق؛ بهدف الانضمام للقتال في صفوف التنظيم، وقد قُتل العديد منهم أثناء المعارك، وفُتحت لهم بيوت عزاء في غزّة. وقد اعترف أبو الوليد بنفسه، بأنّه أرسل حوالي مئة فلسطيني من غزّة للقتال في صفوف التنظيم في سوريا والعراق، فيما نفّذ عناصر آخرون عديدون عمليّات ضدّ أهداف لـ «حماس» في القطاع.
التفجيرات التي قام بها مناصرو «داعش» في القطاع أحدثت قلاقل أمنيّة خطيرة، خصوصاً أنَّه منذ تولّي «حماس» حكم غزة صيف العام 2007، لم يشهد القطاع الساحلي مثل وتيرة التفجيرات التي يقف خلفها التنظيم، ما دفع بأمن «حماس» إلى اعتقال عددٍ كبير من عناصر السلفيّة الجهاديّة المشتبه فيهم للتحقيق معهم، فيما قُتل عنصران، ما أثار القلاقل حول هذه الفئة، وتعامل «حماس» معها، خصوصاً أنَّ عدداً كبيراً من هذه العناصر هم أعضاء سابقون في «كتائب القسّام»، الذراع المُسلّحة لحركة «حماس».
وعلى أثر اعتقال «حماس» لعناصر مُؤيّدة لـ «داعش» في غزّة، وجّه التنظيم في حلب، في 30 حزيران الماضي، رسالة تهديديّة إلى الحركة، أدان فيها قيامها باعتقال مناصريه في القطاع وقتلهم. ودعا التنظيم أنصاره في القطاع إلى الصبر، مهدداً «حماس» بأنَّه سيتم القضاء عليها. ووصفت الرسالة الحركة بأنَّها لا تسعى لنصرة الإسلام، بل تسعى لنصرة إيران والولايات المتحدة. الرسالة جاءت على لسان عدد من أفراد التنظيم الذين ظهروا في شريطٍ مسجل نُشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبيتهم كانوا قد غادروا قطاع غزّة للقتال في صفوف «داعش» في سوريا.
لكنّ مُبادرة المُصالحة بين «حماس» والسلفيين، التي أُعلن عنها في السابع من تموز الحالي، رفضت تلبية دعوة عناصر تنظيم «الدولة» بقتال «حماس» في غزّة. وطالب صاحب المبادرة، الشيخ عصام صالح، وهو إحدى الشخصيّات السلفيّة البارزة في غزّة، بألا تكون المواجهة بين الفلسطينيّين أنفسهم، إذ نصّت المُبادرة على منع التفجيرات الداخليّة في غزّة واستنكارها، ومنع التعذيب في سجون أجهزة الأمن في غزّة، إلا ضد المتورّطين بالتعاون مع إسرائيل، وعدم مهاجمة «حماس» بيوت السلفيّين، وإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة أموالهم وأسلحتهم، وإتاحة التدريب العسكري لهم في غزّة، وتوفير الإمكانات اللازمة لذلك.
لم يحظَ توجّه حركة «حماس» للمصالحة مع سلفيي غزّة على موافقة كل قيادات الحركة، على اعتبار أنَّ مدّ يد «حماس» سيمنح السلفيّة الجهاديّة في القطاع موطئ قدم، وسيدفعهم في ما بعد إلى إحداث اضطرابات أمنيّة في غزّة، أو إلى استقطاب عناصر جديدة إلى مجموعاتهم، وربّما تعطيهم بعض الوقت لتنظيم صفوفهم، والاستعداد لمواجهة «حماس».
يعتقد الكاتب والمحلل السياسي، عدنان أبو عامر، أنّ مخاوف بعض كوادر «حماس» من إجراء المصالحة مع السلفيين، ومطالبة بعضهم بضرورة ملاحقتهم أمنياً وعدم مصالحتهم، ثبتت مصداقيتها بعدما شهدت مدينة غزّة فجر 19 تمّوز تفجيرات متتالية استهدفت خمس مركبات تعود إلى كوادر كبيرة في «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ووضعت أمام التفجيرات شعارات تعود إلى تنظيم «الدولة».
إذاً، ما الذي دفع بحركة «حماس» إلى استبدال علاقة الملاحقة والاعتقال، بعد صراع في غزّة كان ـ ولا يزال ـ يُنذر بتدهور كبير، للمصالحة والوفاق؟
حركة «حماس»، في الوقت الراهن على الأقل، غير معنيّة بالاصطدام عسكرياً مع الجماعات السلفيّة في غزّة، خصوصاً في ظلّ الأحداث الدامية في سيناء. فهي لا ترغب بأن يتصدّر مشهد اصطدامها بالسلفيين شاشات التلفزة، خصوصاً المصريّة، كي لا يُشكّل هذا الأمر دافعاً لانقلاب بعض الإعلاميين المصريين ضدّ الحركة، على اعتبار أنَّ الجماعات السلفيّة، أو ما يُعرف بتنظيم «داعش»، موجود فعليّاً في غزّة، والدليل مُناكفاته العسكريّة والأمنيّة مع «حماس»، وهو مصدر القلق الأمني في سيناء، فيما تسعى الحركة للتودّد لمصر.
إضافة لما سبق، وخلافاً للمُفارقات الفكريّة والقناعات الأيديولوجيّة ما بين «حماس» والسلفيين، فإنَّ ما دفع الحركة إلى المسارعة لإبرام المصالحة مع تلك المجموعات في غزّة، هو تخوّفها من التحرّش الدائم بإسرائيل؛ لأنها انتقدت التهدئة عقب الحرب الأخيرة على غزّة، كما أنه باستطاعتها نسف الهدوء النسبي الحالي، وجر «حماس» إلى مواجهة جديدة لا ترغب فيها في الوقت الراهن.
بحسب خبراء في الجماعات الإسلاميّة تحدثوا لـ «السفير»، فإنَّه حتّى الآن، لا يُمكن إثبات أو نفي وجود امتدادات سلفيّة جهاديّة لتنظيم «الدولة الإسلاميّة» في غزّة، أو أن نقول إنَّ هناك أشخاصاً يتبعون للتنظيم مباشرة، ويجري تنسيق في ما بينهم، لكن هذا لا ينفي وجود عدّة تنظيمات جهاديّة في القطاع تميل بشكل أو بآخر لتبنّي أفكار «الدولة الإسلاميّة».
وتمثّل شبه جزيرة سيناء المصريّة، المُتاخمة للحدود الجنوبيّة لقطاع غزّة، منبع التنظيمات الجهاديّة في المنطقة، وهي المصدر الأم لهذه التيارات الجهاديّة في القطاع، وهي التي تموّل عناصرها في غزّة بالسلاح والمال عبر الأنفاق الحدوديّة المُتبقية بين غزّة ومصر، خاصة أنَّ تنظيم «مجلس شورى المُجاهدين ـ أكناف بيت المقدس» كان قد أعلن المُبايعة من سيناء، وفي اسمه ارتباط وثيق بالقدس وضواحيها.
برغم ذلك، تبقى الجماعات الجهاديّة في غزّة مُشتتة نوعاً ما، فغالبيتها تنظيمات صغيرة انشقّت عن تنظيم «القاعدة»، وتحاول الآن بشكل أو بآخر الانضمام لتنظيم «داعش»، لسبب بسيط، هو أنَّ تلك الجماعات ترى أنَّ التنظيم هو الأقرب إليها فكرياً وعقائدياً، بالمقارنة مع غيره من التنظيمات العاملة في الساحة الفلسطينيّة.
وهناك المئات من سكّان غزّة ممّن يتعاطفون مع «الدولة الإسلاميّة»، ويتبنون شيئاً من أفكاره، لكنهم غير مُستعدين للانضمام إليه، ولا يمكن أن نقول هنا إنَّ هؤلاء يتبعون التنظيم. وفي الوقت الذي أُعلنت فيه الحرب على «داعش»؛ خرج العشرات ممَّن يتبنّون أفكار التنظيم، ويُناصرونه في قطاع غزّة، خاصة في مدينة رفح، في مسيرة مُنددة بالحرب عليه، لكن سرعان ما قمعت حركة «حماس» هذه التظاهرة، وأخفتها عن الإعلام.
وإنْ كان هناك وجود لعناصر جهاديين يتبعون «داعش» في القطاع، فإنَّ ذلك لا يُشكّل خطورة، على الأقل في الوقت الراهن. لكن في حال قبول مُبايعة هؤلاء من خليفة الدولة، فإنهم سيتلقون المال والسلاح، والتوسّع والتنظيم، ليصبحوا قاعدة ثابتة للتنظيم في القطاع مُستقبلاً، وهذا ما تخشاه «حماس»: أن تُجر إلى مواجهة عسكريّة مُحتملة مع «داعش» في غزّة.
لم تُشارك التنظيمات الجهاديّة السلفيّة مُباشرة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، كباقي التنظيمات الفاعلة في الساحة الفلسطينيّة. لكنّ، تستخدم هذه التنظيمات ورقة مُقاومة الاحتلال كضغط على «حماس»، خاصة في الأوقات التي تشتدّ فيها المواجهة بينها وبين الحركة. وتشهد العلاقة توتراً، فيعمد «داعش» في هذا الوقت إلى إطلاق عدد من الصواريخ صوب البلدات الفلسطينيّة المحتلّة، لإحراج «حماس» التي اتفقت على تهدئة مع الاحتلال.
يزداد الوضع لدى «حماس» تعقيداً في علاقتها مع السلفيّين لأنّ معظمهم في الأساس من أبنائها، وقد خرجوا من كنفها بعد خلافهم معها حول قضايا فكريّة إيديولوجيّة مرتبطة بدخولها الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة في العام 2006، وعدم تطبيقها الشريعة، ويعتبرون أن «حماس»، حين قررت دخول الانتخابات التشريعية، ولم تطبق الشريعة بعد سيطرتها على غزة أواسط 2007، فقد ارتكبت مخالفات عقائديّة، قد تستحق أن يتم تكفيرها بناء على ذلك.
COMMENTS