لقد وقعت دورة ركودية عميقة للاقتصاد المصرى فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011، وما يزال يعانى من آثارها حتى الآن، وخاصة بفعل التداعيات الأمنية والسياسية خلال فترة (المجلس العسكرى) ثم فترة حكم (الإخوان المسلمين): يونيو 2012-يونيو2013 و بفعل اندلاع و اتساع موجة العنف (الإسلاموى) المضاد بعد الثلاثين من يونيو 2013 وأعباء المواجهة الأمنية والعسكرية الشاملة للموجة المذكورة .
تكفلت المورد المالية القادمة من بعض دول الخليج، بإطلاق حزم تحفيزية للاقتصاد على دفعتين خلال عامىْ 2014 و 2015، بالإضافة إلى التصرف فى بعض الإيداعات المحتجزة لدى البنك المركزى منذ ما قبل 2011 .
سمحت الحزمة التحفيزية بإطلاق حركة انتعاشية حتى أواسط 2015، صاحبتها عملية جريئة جداً للتوسع العمْدى فى حركة المتغيرات الاقتصادية الإجمالية، من خلال روافع عديدة متمثلة بصفة خاصة فى أعمال قطاع التشييد والإنشاءات لاسيّما مشروع “قناة السويس الجديدة”، وشرق تفريعة بورسعيد، والعمل على استصلاح واستزراع الأراضى ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان، وتشييد المساكن الاقتصادية والمتوسطة في إطار مشروع “الإسكان الاجتماعى”، والبدء فى اقامة عدد من المدن الجديدة مثل العاصمة الإدارية و “العلمين الجديدة” ، وعلى تخوم مدينتىْ الاسماعيلية والسويس. وكذا البدء فى مشروع “الضبعة” النووى ، وفى ثمانى مناطق تكنولوجية بدءا من أسيوط وبرج العرب .
ولا ننسى تجديد بنية الطاقة من خلال توسيع وصيانة المحطات القائمة ، وإنشاء المحطات الثلاثة الكبيرة للغاز بالمشاركة مع (سيمنس) في كل من “البرلس” و “بنى سويف” و “العاصمة الإدارية” ، وافتتاح “قناطر أسيوط” .. بالإضافة إلى تنمية اكتشافات الغاز الطبيعى فى البحر المتوسط وخاصة بواسطة شركتىْ (إينى) الإيطالية ، و (بى بى) البريطانية .
من أجل توفير الغلاف المالي الهائل للإنفاق الإنشائى على المشروعات الجديدة- و بالإضافة إلى الاقتراض الأجنبي من الشركاء في المشروعات الجديدة- فقد تمّ إحداث عجز فى الموازنة العامة للدولة ، يتم سدّه بنوع من (التمويل التضخمى) عبر إصدارات أذون الخزانة، مما يرفع من مستوى الدين العام المحلي انطلاقا من مستوى مرتفع أصلا خلال العقدين الأخيرين. بالإضافة إلى “الإصدار النقدى الجديد”، وبالتالي رفع مستوى البنكنوت المتداول خارج الجهاز المصرفي، مما يعني تغذية التضخم بالسيولة (طبع الجنيه الورقى مؤخرا..إلخ) . ومن جهة ثانية فقد تم العمل على اجتذاب الجهاز المصرفى لمدخرات القطاع العائلي بواسطة الودائع الجارية والآجلة والودائع الثابتة والشهادات الإدخارية، بهدف الحد من حركة المعاملات النقدية للسيطرة على الطلب المتوقع، مما رفع حجم السيولة المتاحة لدى الجهاز المصرفي بأكثر من طاقة الإقراض الانتاجى بما فيه الإقراض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة وفق “مبادرة البنك المركزى”.
ومن تضخم السيولة “المحتبسة”، ثم التشدّد فى الإقراض بفعل الزيادة المتوالية لأسعار الفائدة، لعبت السياسة النقدية دورها-فيما يبدو- كآلية مضادة للتوسع الاقتصادى ومنحازة للانكماش بطبيعتها، ولو مؤقتا. فإذا أضفنا إلى ذلك، تواضع سعر الفائدة الحقيقي الممنوح كعائد لمدخرات العائلات من الفئات المتوسطة ومحدودة الدخل، بفعل ارتفاع معدل التضخم، و اتجاه تركيز السياسة المالية-من خلال المنظومة الضريبية – على صغار الممولين من العمال والموظفين في القطاعين الحكومي والخاص، فإنه يمكن أن نستنتج حدوث ضغط شديد على مستويات الدخل المتاح للتصرف الإنفاقي للأسر، وخاصة مع ارتفاع قيمة بنود الإنفاق سواء على السلع الغذائية أو على خدمات التعليم والصحة. ويتم ذلك في إطار عدم توفر فرص بديلة للتوظيف الآمن للمدخرات، سوى ما يتوجه لاقتناء المساكن أو التعاملات المحدودة في البورصة.
فى نفس الوقت ، حدث انهيار مفاجىء شبه كلى لقطاع السياحة ، بما تدره من عملات أجنبية، وما تولده من فرص هائلة للتشغيل وكسب الدخول، عبر التشابكات الأمامية والخلفية للقطاع السياحى .
ولابد من الإشارة هنا إلى نوع من نقص الرقابة على سوق الصرف الأجنبى فى الداخل عبر سوق الصيرفة الخاص الموازى للسوق الرسمية، والذى استفحل تأثيره مع نقص العملة الأجنبية المتاحة لدى الجهاز المصرفى مما أدى إلى رفع تكلفة الاقتراض وتحميلها على أسعار المنتج النهائي، في ظل بحث المستوردين الخواص عن الدولار بأيّ ثمن، ولو لتمويل الاستيراد غير الضرورى وتحقيق ربح احتكاري مرتفع.
هذا، و إن الجمود النسبي لقطاع التصدير، وتدهور حالة الأسواق العربية المجاورة لبعض المنتجات التصديرية مثل (السيراميك والمفروشات والسجاد) وخاصة في ظل صعوبات الحصول على العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد مستلزمات الإنتاج، و كذا توقف أو تدهور صادرات الغزل والمنسوجات وشطر من الملابس الجاهزة، كل ذلك قد لفت الأنظار إلى مصاعب العمل فى “اقتصاد حساس للواردات” مثل الاقتصاد المصرى منذ زمن طويل وخاصة خلال الثلاثين عاما الأخيرة، والمعتمد على استيراد السلع الغذائية كالقمح والزيوت، والسلع الوسيطة كمستلزمات الإنتاج المعدنى والكيماوى والنسيجي وغيره ، وسلع الطاقة ، ودع عنك الآلات والمعدات الإنتاجية .
إن ذلك يستدعي ضرورة إحداث تغيير فى بعض السياسات الاقتصادية ، بالتوازى مع الأعمال الإنشائية الكبرى للمشروعات الوطنية العملاقة، ، ونعنى بذلك إحداث توسع مبرمج فى الصناعات المنتجة لبدائل الواردات، وسرعة العمل على إنهاض مصانع القطاع العام العاملة بأقل من طاقتها (وخاصة فى الغزل والنسيج ، والحديد والصلب وغيرها) وسرعة العمل على تشغيل المصانع المتعثرة منذ 25 يناير 2011 ، وهو ما يعني إمكان تحقيق زيادة هائلة في الإنتاج والتصدير الصناعى وتشغيل العمالة بأقل تكلفة ممكنة . ولا ننسى ضرورة تعديل المنظومة التشريعية والتطبيقية للضرائب على دخول الأفراد ودخل الشركات لاستخلاص حق المجتمع والحد من التفاوت فى توزيع الدخول والثروات.
كل ذلك يمكن أن يوجد روافع للنمو إلى جانب المؤسسة الوطنية الكبرى للقوات المسلحة وهيئتها الهندسية، وذلك من باطن القطاعين العام والخاص الصغير والمتوسط والكبير، ومن ثم يمكن أن يحدث تجاوز تدريجى لمزيج الركود والتضخم.
محمد عبد الشفيع عيسى
2 يوليو/تموز 2015