كنت أفترض عند قراءة الردّ الذي كتبته الدكتورة غانية ملحيس على مقالتي “هزال شعار دولة لمواطنيها في فلسطين” أن تردّ على النقاط الأساسية التي نُقِدَ فيها مشروع “دولة لمواطنيها في فلسطين”. وكانت خلاصته:
أولاً: إن دعاة مشروع دولة لمواطنيها في فلسطين يكررّون الخطأ نفسه الذي وقعت فيه فتح وم.ت.ف حين طرحتا مشروع “إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية يتساوى فيها المسيحيون والمسلمون واليهود”. وذلك بتقديم تنازل مجاني من خلال التبرّع مسبقاً بمساواة اليهود المستوطنين الإستعماريين العنصريين بالمسلمين والمسيحيين العرب الفلسطينيين. لأنك هنا أعطيت حقاً من دون أن تقابَل في الأقل من المعني باعتراف أنك مساوٍ له في الحق في فلسطين. فتنقله عملياً، أو نظرياً ومنذ الآن من ظالمٍ مغتصب لا حقّ له في فلسطين إلى صاحب حقّ مشارك في الحلّ النهائي لقضية فلسطين.
ثانياً: إذا كان ما قام في فلسطين هو كيان استعماري واستيطاني إحلالي فهذا هو الجوهر. أما وصفه بنظام، فليس أصلاً. لأن النظام قام تابعاً للكيان، وأما الصهيونية فهي البناء الفكري الأيديولوجي الذي قام عليه المشروع ومحتواه هو الهجرة إلى فلسطين واستيطانها والحلول مكان شعبها وطرده من بلاده. هذا إذا اعترفت، أصلاً، بوجود شعب فلسطيني في فلسطين. فلا وجود للمستوطن في فلسطين بلا صهيونية، ولا صهيونية بلا مشروع الهجرة إلى فلسطين. ومن يحتل بيت الفلسطيني أو أرضه صهيوني ولو نقد الأيديولوجية الصهيونية.
أما كونه كياناً استعمارياً واستيطانياً إحلالياً فهذا ما جعل الصراع صراع وجود وليس صراعاً حول نوع النظام. هل هو أبارتهايد أم ديمقراطي. ومن ثم، إذا كان استعمارياً فعلى الاستعمار أن يرحل من المستعمرات، وإذا كان استيطانياً فالإستيطان غير شرعي ويجب أن يُفكك ويُزال، وإذا كان إحلالياً فعليه أن يخلي البيت والأرض والمدينة والقرية التي حلّ فيها وشرّد أهلها وسيطر على إملاكهم العامّة والفردية الخاصة: فهذه كلها يجب أن تُعاد لأصحابها قبل تخلي المستوطن عن “عقيدته الصهيونية. ومن ثم لا مجال ليبقى في البيت ويكون يسارياً أو ليبرالياً أو يشارك في دولة لمواطنيها. وهذا هو حكم القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم.
ثالثاً: كان من المهم أن نقرأ ردّاً يوضح أيضاً: ما الذي حدا بأصحاب مشروع دولة لمواطنيها، إلى طرح المشروع من الآن وقبل التحرير؟ فهل لجذب من يقتنع بهذا الحل من المستوطنين لدفع عملية التحرير إلى أمام؟ ولكن هذه الحجّة مجرّبة لمدى أربع سنوات ما بين 1969-1973 كما جرّبت تنازلات أكبر بكثير، ولم تُحدِث إختراقاً إلاّ لدى عدد قليل من الأفراد، كما لم تفعل فعلها بالنسبة إلى الرأي العام العالمي. ولعل أقصى ما أنجزته كان إسقاط تهمة “رمي اليهود في البحر”، وهو أمرٌ لم يكن وارداً في الماضي وليس وراداً في الحاضر أو المستقبل. لأنهم هم من رموا ملايين الفلسطينيين في المنافي. وعندما يجيء يوم في المستقبل وتُحرّر فيه فلسطين أو توشك أن تُحرّر فسيختار المستوطنون الرحيل إلى جنان أوروبا وأمريكا وغيرهما من البلدان التي يُرحِّب بهم قادتها ويحبونهم ويميّزونهم عن أنفسهم.
فالفلسطيني المظلوم المطرود من وطنه والمحروم من كل حقوقه، لماذا عليه أن يُظهر حُسن نيّته ويُثبت أنه أخلاقي فهو ليس المتهم وليس الذي في قفص الاتهام حتى يُبّرئ نفسه ويُقسِم اليمين أنه أخلاقي وأنه يؤمن بالمساواة بالمواطنية والديمقراطية. باختصار للفلسطيني الحق في المقاومة وتحرير فلسطين والعودة. ولا حاجة إلى المزيد.
ومع ذلك لا بدّ من انتظار التقدّم بالأسباب التي دعت إلى طرح “مشروع دولة لكل مواطنيها في فلسطين” غير سبب وصفه “بالحل الخلاق”.
رابعاً: لماذ يجب ألاّ نتقدم بمشروع حل نهائي للقضية الفلسطينية. ولماذا يجب أن نبقيها قضية تحرير وطني من الوجود الإستيطاني الاستعماري الإحلالي الصهيوني: قضية شعب شرّد من وطنه وحُرِمَ منه ويجب أن يعود إليه ويسترجع أملاكه كشعب وكأفراد، ويمارس حقه الحصري في تقرير المصير؟ الجواب:
لأن هذه كلها يجب أن تبقى حقوقاً ثابتة يَدعمها القانون الدولي والمواثيق الدولية وهي غير قابلة للتفاوُض أو النقاش.
وفي المقابِل يجب أن يبقى الكيان الصهيوني ومستوطنوه الاستعماريون الإحلاليون الصهيونيون في حالة عدوان سافر ومرفوض من القانون الدولي والمواثيق الدولية. ويجب أن يبقى كذلك مهما طال الزمن. ومن ثم لا يجوز أن يُكافَأ من خلال الاعتراف له بأيّ حق في فلسطين أو في ما سبَّبه من ويلات وكوارث للشعب الفلسطيني.
هذان الشرطان يعزّزان المواجهة والعملية التاريخية لتحرير فلسطين. ويجب ألاّ تمسّهما أيّة ترتيبات مرحلية.
من هنا نقد “مشروع دولة لمواطنيها في فلسطين” تركيزاً على النقاط الأربع أعلاه. فضلاً عن اعتباره تجريباً لمجرَّب من حيث الأساس والجوهر والمحتوى. ودعك من محاولة تمييزه باللفظ والشكل واعتباره طرحاً جديداً.
على أن ردّ الدكتورة غانية ملحيس ركز على موضوعات جانبية مما يستوجب التوقف عند بعضها كنموذج لشبيهات لها، مع تجاوُز كل تعريض شخصي، قدر الإمكان، كان تضمّنه ردّها المشار إليه.
ثم هنالك نقطتان أطالبها بتوضيحهما أو الردّ عليهما تتعلقان بالجهد المهم الذي بذلته في توضيح حالة المجتمع الإستيطاني الصهيوني وما يتخلله من مغايرات وتناقضات ولكن من دون الخروج بنتيجة كيف سيتمّ اختراقه أو كيف يمكن أن يتفجّر من داخله، أو ما هو الدرس المطلوب الخروج به؟ أما النقطة الثانية هي اعتبارها جزءاً مقدّراً أو أكثر من هجرة اليهود إلى فلسطين كان بفعل ما نزل بهم من اضطهاد بما يوحي أننا بقدر معيّن أمام هجرة إضطرارية إلى فلسطين ولسنا أمام غزوة استيطانية إحلالية بالكامل ونقطة على السطر.
تهمة اكتشاف النار
العبارة التي أثارت احتجاجاً أشدّ كانت اعتبار تعامل أصحاب “مشروع دولة لكل مواطنيها” مع هذا المشروع بما يشبه تعامل مكتشف النار، أو نزيد الآن: مثل نيوتن حين صرخ “وجدتها”. فمرجع ما اعتبروه تهمة، مع الإصرار عليه، والحكم للقارئ، ما ورد من نصوص نقلها الأستاذ ماجد كيالي في مقالته، مثلاً ورد النص التالي: إننا أمام مشروع “يتجاوز الشرذمة ويعرّف مشروعاً وطنياً جامعاً”، مشروع “يبني الكينونة الفلسطينية الجماعية” وقد أجاب على: “من نحن؟ ماذا نريد؟ وما العلاقة بين الجزء والكل؟ كيف نريدها أن تكون؟” وأنه: “المشروع التحرّري الفلسطيني النقيض للمشروع الصهيوني وما يعنيه ذلك من تحديد هدف وطني مركزي واضح يُجمِع عليه الشعب في كل أماكن تواجده” وهذا المشروع يشكّل: “دعوة لتبصّر طريق الخلاص ببلورة مشروع نهضوي إنساني تحرّري عصري”.
ولنقرأ النص التالي أيضاً في وصف مشروع دولة لمواطنيها “يقدّم الفكرة التحرّرية التي تحرّر كل فلسطيني من القمع والاستلاب، ويوفر له الحرية والكرامة والاستقلال، ويحرّر الجميع من الصهيونية ولا يتعايش معها… فكرة فلسطين الجديدة إلى العالم ترتكز على اعتمادها القِيَم الإنسانية والتحررية، والمجاهرة بهدفها المعلن وهو تفكيك النظام الكولونيالي الاستيطاني، واستبدال النظام الصهيوني بنظام يضمن الحريّة والمساواة والديموقراطية للجميع”.
ومن هذا الوزن ثمة الكثير في رؤية جماعة “دولة لكل مواطنيها” لمشروعهم وإبراز ما تميّز به عن كل ما طرحته الفصائل الفلسطينية، والفكر السائد. ويستحق فقط أن يُضاف ما أكدت عليه الدكتورة غانية ملحيس في ردّها على مقالة “هزال شعار دولة لمواطنيها في فلسطين” إذ تقول من بين ما تقوله عن دعاة تلك الدولة: “وَسَعَوْا إلى تبيّن طرق الخلاص عبر محاولة تعريف المشروع الوطني التحرري الفلسطيني الجامع والمؤهل لاستعادة وحدة الوطن والشعب والقضية، (التي أسهمت السياسات والسلوكيات الفلسطينيّة الرسميّة والمعارضة على السواء، وما تزال، في تفتيتها)، والقادر، أيضاً، على التّعامل الإنساني الخلاق مع الوقائع الدّيموغرافيّة الناجمة عن إقامة الكيان الاستعماري الاستيطاني الصّهيوني في فلسطين واستمراره لنحو سبعة عقود..”.
انظروا أي تواضع يقدّم به هذا المشروع!
من يقرأ هذه الأوصاف أو الأطروحات التي تُخلَع على مشروع دولة لمواطنيها أفلا يخرج بنتيجة، أو يَفهم منه، وبلا أي افتراء، أو تجنٍ بأنهم يرونه المشروع المخلّص للقضية الفلسطينية، والانتصار الكامل على المشروع الصهيوني. وهذا كله أهّم من اكتشاف النار وأهّم من صرخة نيوتن، “وجدتها”. فأين الافتراء حين يُتهم أصحاب “مشروع دولة لمواطنيها في فلسطين” بأنهم يتصرفون ويصفون مشروعهم هم أنفسهم وإنجازهم كأنهم اكتشفوا النار؟
حول التفاوض
وثمة نقطة أخرى وردت في ردّ الدكتورة ملحيس تنصّ: “سابعاً: الإدّعاء المضلل المشروع النهضوي التحرري الفلسطيني النقيض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري، هو مشروع تفاوضيّ”.
هنا إذا كانت الدكتورة ملحيس ترفض التفاوض مع الكيان الصهيوني (وهذا موقف نلنتقي عليه) فماذا ورد في نصّها التالي ( وكان سبب الإدّعاء المذكور) نقلاً عن الكاتب ماجد كيالي إذ تقول أن البرنامج السياسي المرحلي للسلطة “أسّس عملياً لنهج سياسي فلسطيني جديد، يستعيض عن هدف تحرير الوطن، وهزيمة الكيان الاستعماري الإستيطاني الصهيوني بالتسوية السياسية والاستعداد لتقاسم الوطن… ما أخرج عملياً الأراضي الفلسطينية التي أُنشِئ فوقها الكيان الصهيوني من دائرة التفاوض الضروري لإتمام المقايضة بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967”.
الرجاء التوضيح ماذا تعني عبارة إخراج الأراضي الفلسطينية التي أُنشِئَ فوقها الكيان الصهيوني من دائرة التفاوض الضروري لحساب أراضي 1967. فأين الإدّعاء المضلل هنا؟ ربما كان تركيب الجملة يقود إلى “الإدّعاء المضلل”، فيما هي ضدّ التفاوض بإطلاق.
ولعل ما يعزّز الظنّ من جهة أخرى بأن جماعة “دولة لكل مواطنيها” يقولون بالتفاوض الضروري هو اتخاذهم من تجربة مانديلا في جنوبي أفريقيا نموذجاً في دعم مشروعهم، إن لم يقل البعض بأن مشروعهم مُستوحى من تلك التجربة. وذلك لأن هذه التجربة خاضت في التفاوض وقامت نتيجتها على التفاوض. طبعاً هذا لا يمنع الأخت غانية من أن تعتبر التفاوض مرفوض في الخصوصية الفلسطينية. الأمر الذي يفترض التفريق بين التجربتين من هذه الزاوية أيضاً.
إسقاط الهويّة الفلسطينية والعربية
ونقطة أخرى أثيرت في ردّ د. ملحيس جاء فيها “سادساً: الادّعاء على دعاة بلورة المشروع التحرّري الفلسطيني النقيض للمشروع الصهيوني بـ”إسقاط الهوية العربية والفلسطينية”. وجاء جوابها بالاستناد إلى “التاريخ الذي حافظت فيه “المنطقة” على مرّ العصور على هويتها العربية وحضارتها وثقافتها، إذ حافظت على تنوّعها العرقي والإثني”.
هذا جواب يقول لا حاجة لتأكيد الهوية العربية والفلسطينية بالنسبة إلى هذه الدولة لأن التاريخ أثبت برغم كل الغزاة أن “المنطقة” (لاحظ لا تسمّى “الوطن العربي” وإنما “المنطقة”) ظلت هوّيتها عربية. ومن ثم لا حاجة إلى الإشارة بأن هوية الدولة هي العربية الفلسطينية. ولكن يبقى السؤال هل سيكون اسم الدولة على جواز السفر “دولة لكل مواطنيها”. وهو ما لم تفعله أيّة دولة في العالم لأن أغلبية الدول تلصق هويّتها بالدولة: الدولة الألمانية، الدولة الفرنسية!؟ فما المانع الذي حال دون أن تحمل الدولة المعنية هوّيتها ليصبح اسمها “الدولة الفلسطينية العربية”. أما “دولة لكل مواطنيها في فلسطين” فلا يعبّر عن هويّة.
التشكيك والتخوين أو الأبوية والبطريركية
أما كل ما فُهِمَ من مقالة “هزال شعار دولة لكل مواطنيها” من أنه يُشكك في وطنية أو نيّات دعاتها، أو يريد أن يحرمهم حقهم في النقد أو “جعل التفكير المغاير من المحرّمات” فلا علاقة بالمقالة المذكورة ولا صاحبها به. وما هي إلاّ انطباعات بلا دليل من النص.
بل يجب أن أُشيرَ بعد قراءة نقد الدكتورة غانية ملحيس للمقالة المذكورة، متجاوزاً كل تعريض شخصي أن ثمة كثيراً من اللقاء معها لا سيما في موقفها من اتفاق أوسلو ونهجه السياسي أو قراءتها للمشروع الصهيوني وطبيعته الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية العنصرية أو مناداتها بتحرير كل فلسطين وحق العودة ليبقى الخلاف الجوهري حول “مشروع دولة لمواطنيها” يتمثل في ما تضمنه من تنازلات مجانية مسبقة، ومن وهم إمكان تحويل أي حجم مقدّر من المستوطنين الذين حلوا في بيوت الفلسطينيين واستولوا على أراضيهم ووطنهم إلى متخلين عن الصهيونية ومشاركين للشعب الفلسطيني في حقوق المواطنة، كما ثمة اختلاف حول وصفه الكيان الصهيوني بالنظام كما مرّ.
في منهجية نقد التجربة الفلسطينية
تقول د.غانية ملحيس انه “لم يعد بالإمكان مواصلة التواري خلف العدّو والاستمرار بالتذرّع في تفسير كل خيباتنا بمؤامراته تارة، وأخرى باختلال موازين القوى العالمية والإقليمية العربية كما فعل كاتبنا الكبير سعياً وراء نفي مسؤوليتنا التشاركيّة عن واقعنا الفلسطيني المأزوم إلى درجة توحي لجيل الشباب الفلسطيني الفتي بأننا كنا ملائكة. وأنه لم يكن بالإمكان أحسن مما هو كائن”. هنا نحن أمام منهجية في قراءة التاريخ.
إن السقوف التي كانت تتيحها موازين القوى الدولية والإقليمية والعربية والصهيونية –الفلسطينية وفي مختلف تقلبّاتها منذ 1948، في الأقل، لم تسمح قط بإنزال هزيمة كاسحة في المشروع الإستعماري الإستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين. ومَنْ عندَهُ غير هذا التقدير فليتفضل وليقل لنا ماذا كان على الحركة الوطنية الفلسطينية في ظل موازين القوى والظروف السياسية التي سادت عالمياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً ما بين 1918-1948 أن تفعل؟ أو لو قالت وفعلت، بمعنى أيّة برامج وسياسات وممارسات كان يمكن لها أن تمنع الهجرة في فلسطين أو تكسب حرب 1948. علماً أنها جربّت كل ما هو متاح وما يمكن أن يخطر على بال. وهنا لا بدّ من أن تُجمَع تجارب المجلسين والمعارضين وعز الدين القسّام ومختلف الأحزاب، كما يجب أن تُجمع في الممارسة الإضرابات والثورات والتظاهرات وقبول عدد مما فرضته بريطانيا من حلول.
أما الاختباء مثلاً وراء الحديث عن القيادات العائلية، أو المتخلفة أو الصراعات والإنقسامات الداخلية، أو الإشارة إلى أخطاء ارتُكِبَت هنا وهناك كما فعل البعض من اليسار الفلسطيني ما بعد 1968 في تقويم تجربة 1918-1948. فلا يجيب عن السؤال ماذا كان يجب أن يعمل في ظل موازين القوى والظروف التي سادت في حينه.
أظن لو اجتمع في فلسطين كل قادة النضال التحرّري من لينين إلى غاندي، إلى ماو تسي تونغ ومانديلا، أو صلاح الدين، أو الظاهر بيبرس، ما كانوا ليغيّروا من النتيجة النهائية للصراع، ربما قد يؤخرونها لبعض الوقت أو يغيّرون بمستوى حدود الدولة التي قامت 1948. ولكنهم ما كانوا ليستطيعوا مواجهة مائة ألف جندي بريطاني في فلسطين وعدد سكانها سبعماية وخمسين ألف عام 1917 وصولاً إلى مليون ونصف 1948، وفيما حالة البلاد العربية مجزأة ومكبلة بالسيطرة الاستعمارية وصولاً إلى توافق كل الدول الكبرى بما فيها الاتحاد السوفياتي على إقامة “دولة إسرائيل” وإمدادها بالسلاح وأسباب القوّة في 1947-1948.
هنا نحن أمام منهج في قراءة التاريخ الفلسطيني يضع في اعتباره، بصورة أساسية قراءة موازين القوى عالمياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً، ولا يقرأها ضمن المفاهيم والبرامج وصراع الإرادات بالمعنى المجرّد عن موازين القوى. وعندما يوجّه نقد فهنالك المستوى النظري والسياسي والشخصي والفصائلي على مستوى عام. ولكن هنالك النقد الذي يجيب عن السؤال ماذا كان يجب أن يعمل، ويُثبت أن فرضيته كانت ستنتصر، أو توصل إلى نتائج مختلفة. فالنقد النظري والمتعلق بالجوانب الذاتية ونقد سياساتها شيء والنقد الذي يستند إلى بديل سياسي- عملي يثبت بأنه الناجح ليكون معياراً لأخطاء البديل الذي فشل شيء آخر. لأن الأسباب التي يمكن أن يُعزى لها الإخفاق كثيرة. ولكن ليس بالضرورة أن تكون هي السبب الحقيقي للفشل.
هنا يُستحسن لكل ناقد أن يختار منهجه النقدي. ولكن في كل الأحوال المنهج الأدّق والأصح هو الذي يراعي موازين القوى والظروف ويستنتج كيف كان من الممكن العمل ضمن معادلاتها والخروج بأفضل النتائج المتاحة. وليس تغيير المجرى الأساسي الذي اتخذته الأحداث.
هذه النقطة الأخيرة لا تعني أننا كنا ملائكة، أو أن ثمة منعاً لنقد الذات، وأخطاء الذات، أو عدم تحميلها أيّة مسؤولية في ما وصلنا إليه. وإنما تطالب بأن يُربَط النقد بقراءة موازين القوى، وما كان دور الخارج والداخل. والموضوعي والذاتي، وما كان مُتاحاً، وما لم يكن مُتاحاً في كل مرحلة. وليس النقد الذي يعطي للذاتي دوراً يتجاوز حدود موازين القوى فيطن أننا لو تلافينا الخطأ الفلاني أو العلاني أو تبنينا البرنامج الفلاني لحُلّت المشكلة، فيما كان الحلّ أو عدمه يتعدّى إطار المشاريع والبرامج والمفاهيم. وهذا لا يقود إلى القول كما قالت د.غانية ملحيس “سعياً وراء نفي مسؤوليتنا التشاركيّة عن واقعنا الفلسطيني المأزوم”. بلى وألف بلى الشعب الفلسطيني وقياداته الوطنية لا يتحملان مسؤولية تشاركيّة في ما حصل من نكبة وقيام دولة الكيان الصهيوني فيما المسؤولية كل المسؤولية على عاتق بريطانيا والدول الكبرى وموازين القوى والحركة الصهيونية والهاغاناه. ثم هل يجوز تحميلنا المسؤولية التشاركيّة في تجزئة سايكس بيكو وتكبيل الدول العربية بالاحتلال والمعاهدات لتتمّ النكبة وإقامة الكيان الصهيوني. فالمسؤولية التشاركيّة هنا ظلم كبير ومخالفة لحقائق الصراع وموازين القوى.
من التجربة الفلسطينية
وضرورة التمسك بالمنطلقات
لقد أثبتت التجربة خطأ البدء بطرح حلٍّ ما لهذه المشكلة: القضية الفلسطينية، تحت حجج شتى كان منها بأن موازين القوى الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية لا تسمح بالتحرير، ليُصار إلى التجاهل بأن التحرير عملية تاريخية طويلة الأمد تتضمن تغييراً لموازين القوى (وهذا التغيير يأتي من خلال عوامل كثيرة). وكان بينها أيضاً ضرورة البحث عن حلٍّ مرحليٍّ واقعيٍّ وعمليٍّ ردّاً على طرحِ مشروع “حلّ الدولة الواحدة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية التي يتساوى فيها المسلمون والمسيحيون واليهود”. وذلك بعد أن اعتبر خطوة متقدّمة. لأنه أقرّ بحقوق متساوية للمستوطنين بالفلسطينيين. ولكنه اعتُبِر غير عملي وغير واقعي بسبب موازين القوى من جهة وبسبب رفض المجتمع الصهيوني له من جهة ثانية. الأمر الذي أوصل إلى طرح مشروع “النقاط العشر”، والذي اعتُبِر خطوة متقدّمة جديدة. ولكنه أيضاً غير عملي وغير واقعي بصيغته “الرفضوية” التي قُدّمت لتمرير فكرة “الحلّ المرحلي”.
وهنا انتقلت الضغوط لإعلان برنامج إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة 1988، فالإعتراف بالقرارات الدولية خصوصاً قرار رقم 242. وهكذا استمرّ التدحرج وصولاً إلى اتفاق أوسلو فالوضع الراهن الذي سُدّت فيه الأبواب حتى عن حلِّ الدولتين التصفوي للقضية الفلسطينية وتنازله عن الحقوق الفلسطينية الثابتة، كما عن العودة الشاملة. ناهيك عن التنازل عن 80% من فلسطين للكيان الصهيوني. وناهيك من الخضوع لكل شروطه الأمنية.
كان الموقف الصهيوني منذ نشأته ثم تشكيل دولته وإلى الآن هو تجنّب التقدّم من جهته بأيّ حلٍ للقضية الفلسطينية، أو لحل الصراع في فلسطين. وكان يمتنع عن تأييد القرارات التي تصدرها هيئة الأمم المتحدة، كما يمتنع عن تأييد أيّ مشروع حلّ يتقدّم به الفلسطينيون أو العرب أو أطراف دولية. ولكنه كان يحث من خلال مؤيّديه على إصدار القرارات الدولية عموماً أو التقدّم بحلول للقضية الفلسطينية طالما حملت في طيّاتها تنازلات ما لتثبيت وجوده وشرعنته في فلسطين فيأخذ منها ذلك ثم يتحفظ عنها. أو يرفضها أو يطالب بتعديلها. مثلاً أخذ من قرار التقسيم الشطر الذي يخص إقامة دولة لهم ولم يعترفوا به (أنظر إعلان الدولة).
أما من الجهة الأخرى فلا تسل عن الضغوط التي مورِسَت على الفلسطينيين منذ 1930 (في الأقل) إلى اليوم ليتقدموا بحلٍّ للقضية غير رفض الهجرة الإستيطانية، وغير حلّ التحرير أو ليوافقوا، أو يفاوضوا، حول قرار أو مشروع حلّ طرح من قبل طرف ثالث.
وكان يخرج رأي في كل مرة يتجه تحت تلك الضغوط أو بسبب النكسات أو موازين القوى، إما للقبول بقرار ما من قرارات هيئة الأمم أو بمشروع حلّ ما. وكانت النتيجة في كل مرّة تقديم تنازل ما يتضمن شرعنة للوجود الصهيوني الإحلالي. ولكن من دون النتيجة المتوخاة من قبل ذلك القرار أو الحل.
حدث هذا مع قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن الماضي حيث كانت تقبل الهجرة السابقة وتطالب بوقفها وباستقلال فلسطين من الانتداب البريطاني وبإقامة دولة ديمقراطية يصبح فيها أولئك المهاجرون مواطنين كالفلسطينيين. وكانت هذه التنازلات تذهب لحساب المشروع الصهيوني وشرعنته بلا مقابل. وعندما جاء قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 الظالم بكل المعايير وبصورة صارخة، رُفِضَ من قِبَل الحركة الوطنية الفلسطينية ولم يكن القرار قابلاً للتنفيذ وإنما لإعطاء شرعية دولية لإعلان قيام “دولة إسرائيل”. ولكن خرجت أصوات عربية رسمية فضلاً عن الشيوعيين الفلسطينيين (على قلتهم) تطالب بالموافقة على القرار. ولكن بعد حرب 1948 ووقوع النكبة بدأت تتعالى الأصوات الرسمية العربية والقرارات الدولية المطالِبة بتنفيذ قرار التقسيم أو قرارات الأمم المتحدة أساساً قرار التقسيم وقرار 194 حق العودة.
وكان في ذلك تنازلات جديدة من جهة شرعنة وجود الاستيطان الإحلالي الصهيوني ولكن بلا الجدوى، المتوخاة من قِبَل مؤيّدي التنازلات.
وهكذا القصة تكرّرت إلى يومنا هذا حتى اتفاق اوسلو الكارثي وتداعياته ثم إلى ما وصل إليه حلّ الدولتين التصفوي من طريق مسدود.
هذه التجربة كلها لم يتعلم منها أصحاب مشروع دولة لمواطنيها ليكرّروا الخطأ نفسه بتقديم التنازل المجاني.
تحرير فلسطين والانتفاضة الراهنة
وختاماً لا بدّ من الإجابة عن سؤال د.غانية ملحيس في قولها: “فإنني أتساءل عن الجدول الزمني الذي ترونه ضرورياً لتحقيق مشروعكم بتحرير فلسطين، بشقيه المرحلي لتحرير الأراضي المحتلة عام 1967، والنهائي لتحرير كامل فلسطين ودحر كافة مستوطنيها اليهود”.
أعترف أني لا أملك مشروعاً محدّداً لتحرير فلسطين، ولا أتقدّم بحلٍّ نهائي لقضية فلسطين ولا أظن أن أحداً عنده مشروع ناجز لتحرير فلسطين، أو يمكن أن يكون عنده، وإن ادّعى أحدهم أن يملك مثل هذا المشروع، فأقول له أنت لا تعرف ما هي القضية الفلسطينية وما هي التعقيدات لحلّ إذا قام على أساس تحريرها بالكامل وتحقيق عودة اللاجئين، ولا تعرف إشكالية موازين القوى التي تتعلق بها وباستراتيجية حلّها ولا تعرف أنك أمام عملية تاريخية طويلة الأمد وسيمرّ عليها أجيال وعدّة أنظمة دولية وإقليمية وعربية. ولو عرفت كل ذلك لما تجرّأت على القول: إني أملك مشروعاً للتحرير.
أما الذي نملكه فهو المقاومة والإسهام في العملية التاريخية لتحرير فلسطين كل فلسطين. وليس مشروعاً راهناً محدّداً لتحرير فلسطين ونحن نملك اليقين بصحّة سرديتنا للقضية الفلسطينية وبطلان المشروع الصهيوني، وإن أقام دولة وجيشاً واستشرى. فتحرير فلسطين عبر عملية تاريخية طويلة الأمد. ولا أرى فلسطين جزيرة معزولة في المحيط، ولا أرى الصراع مع الكيان الصهيوني صراعاً محلياً لا في نشأته ولا في مساره ولا في نهاياته، ولا أراه صراعاً فلسطينياً – صهيونياً نقطة على السطر بل هو صراع فلسطيني – عربي- إسلامي- عالمي ضدّ الكيان الصهيوني والقوى الدولية التي تنصره وتتحالف معه أو تعتبره ربيبها أو جزءاً منها، وقد أثبتت التجربة حتى الآن مرور أجيال عليه.
ولهذا فالمطلوب من كل جيل مرّ ويمرّ وسيمرّ في خضم هذا الصراع أن يقوم بقسطٍ مقدّرٍ في مقاومة المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني وفي مواجهة القوى التي تدعمه وتعتبره قضية أولى من قضاياها، ابتداءً من مقاومته وعرقلته وإعاقته، واستنزافه، مروراً بمواجهته وتسجيل انتصارات جزئية عليه وصولاً إلى الدخول في حرب التحرير الأخيرة معه.
هدفا دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات والوضع الراهن
على أن ثمة علائم للشيخوخة وتفاقم نقاط الضعف أخذت تظهر على الكيان الصهيوني منذ نهاية القرن العشرين أو بدايات القرن الواحد والعشرين. وأن من أولى علاماتها هزيمة جيشه في أربع حروب واضطراره الانسحاب من جنوبي لبنان وقطاع غزة بلا قيدٍ أو شرط. الأمر الذي يجعل الزمن المستقبلي لتحرير فلسطين قد أصبح أقصر مما كان متوقعاً طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
وبالمناسبة إن سقوط الدول والأمبراطوريات لا يتوقف على مدى قوّة الذين يطيحون بها، بقدر ما يتوقف على شيخوختها وخرابها الذاتي، وما يلحق بها، مع الزمن، من مظاهر الضعف الناجم عن القوّة الزائدة والرفاه والتفسّخ الأخلاقي والغرور وفقدان مزايا الفتوّة والشباب والنهوض. أو قل لا بدّ من أن ينخر الخراب من الرأس إلى القاعدة.
وبكلمة، على مستوى التحرير الكامل وهزيمة المستوطنين الإستعماريين الإحلاليين العنصريين فالزمن مفتوح وطويل. ولكن المهم تحقيق هدف التحرير والعودة في نهاية المطاف. وبعد ذلك لكل حادث حديث. فلماذا من الآن يُراد لنا أن نقرّر للشعب الفلسطيني المصير الذي سيختاره.
أما الآن وعلى المستوى النضالي المرحلي، والأفضل استخدام في الوقت الراهن أو الوضع الراهن، فإن اتفاق أوسلو قد فشل ومشروع حلّ الدولتين التصفوي سقط أرضاً مغشياً عليه، وسياسة التسوية والمفاوضات دخلت نفقاً مسدوداً. واندلعت انتفاضة القدس والتي أخذت تتجاوز سنتها الأولى، فيما راحت حكومة نتنياهو تصعّد الانتهاكات للمسجد الأقصى، وتسرّع في استيطان الضفة الغربية، وتهويد القدس.
أما الردّ فقد جاء من خلال الانتفاضة في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2015، وقد اتخذت شكل مقاومة شبابية عفوية باستخدام الطعن بالسكين والدهس بالسيارات وبعضها الأقل استخدم السلاح إلى جانب توسّع كبير بالمواجهات مع الحواجز والدوريات الصهيونية أسفر عن الأولى حتى الآن أكثر من 235 شهيداً، وعن المواجهات أكثر من عشرين ألف جريح وآلاف الأسرى.
ولعل أهم ما يلحظ في هذه الانتفاضة مواقف أمهات الشهداء وآبائهم، ومشاركة عشرات الآلاف في جنائزهم حتى شبّهت جنازة الشهيد مهند بجنازة الشهيد ياسر عرفات. وهو الذي يفسّر اعتقال الجيش الصهيوني لجثامين الشهداء خوفاً من الشعب إذا سُلّموا ليُدفنوا في قراهم ومدنهم ومخيماتهم. مما يدلّ على أن ثمة جهوزية، أو استعداداً، لدى الشعب للانتفاض.
هذه الانتفاضة كان من الممكن منذ أشهر، ولم يزل من الممكن- أن تتحوّل إلى انتفاضة شعبية تتمثل بنزول عشرات الألوف ومئات الألوف لإغلاق المدن والقرى والمخيمات في وجه الاحتلال، والاعتصام عبر عصيان مدني سلمي، حتى فرض الانسحاب وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية، بلا قيدٍ أو شرط، فضلاً عن إطلاق كل الأسرى وفك الحصار من قطاع غزة.
ولكن للأسف كان ثمة، ولم يزل عائقان يحولان دون ذلك، أولهما السلطة والتنسيق الأمني وسياسة محمود عباس ومن يناصرها من جهة، علماً أنها فاشلة ولا مشروع لديها ومن ثم يمكن لَيّ ذراعها.
أما العائق الثاني فيرجع إلى عدم قناعة الفصائل حتى الآن بجدوى، أو بإمكان نزول الجماهير إلى الشوارع وقدرتها على فرض الانتصار. فضلاً عن عدم قناعتها بضعف حكومة نتنياهو وجيشه إلى حد إمكان إنزال الهزيمة بهما وفرض الانسحاب وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية، بلا قيدٍ أو شرط كما فعل شارون في قطاع غزة عام 2005. ولكن يجب أن يُلاحَظ هنا أن الفصائل جميعها أيّدت الانتفاضة وتتمنى تصعيدها (على تفاوت) إلاّ أنها لم تنتقل إلى الخطوة الأخرى، وذلك للسّببين المذكورين أعلاه فضلاً عن عوائق داخلية تشكلت عبر السنوات الماضية بالنسبة إلى علاقات الفصائل ببعضها بعضاً.
ومع ذلك، وبالرغم من صعوبته، يجب الإلحاح على ضرورة إزالة هذه العقبات من أجل الانتقال بالإنتفاضة إلى مرحلة الانتفاضة الشعبية الشاملة وصولاً إلى إعلان العصيان المدني السلمي من جانب الفصائل، ومن دون أن يتعارض ذلك مع أيّة أشكال مقاومة فردية وعفوية، فما ينبغي لأحد أن يمنع أحداً من المبادرة في مقاومة الاحتلال. فهذا حق جماعي وفردي.
صحيح أن ثمة رأياً وجيهاً يقول بعدم واقعية تحرّك أو تحريك الفصائل بهذا الاتجاه. ولكن يجب أن يبقى هذا التحدّي مطروحاً أمامها من جهة، كما يجب أن نتوقع من جهة أخرى ارتكاب العدّو جريمة كبيرة مثل اعتداء صارخ على المسجد الأقصى، أو جريمة قتل مستَفِزَّة. قد يؤدي إلى نزول الجماهير إلى الشوارع بلا حاجة إلى قرارات فصائلية.
تبقى نقطة هامة بهذا الصدد، وهو التحليل الدقيق لضعف العدّو في هذه المرحلة وإمكان فرض الانسحاب وتفكيك المستوطنات عليه. وهذا التحليل يُلاحِظ أولاً هزيمة العدّو في أربع حروب 2006 في لبنان و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة، كما تحَوّله إلى قوات شرطة عملياً منذ 25 سنة مما أفقده الكثير من قدراته الميدانية والمعنوية، وأنهكه. ثم هنالك، ثانياً، تخلّف القيادة السياسية الصهيونية الحالية من حيث تناقضاتها الداخلية وشللها وعزلتها وعدم قدرتها على إدارة الصراع دون ارتكاب أخطاء فادحة. وثالثاً ما ظهر من حالات فزع غير معهودة في مجتمع المستوطنين، ولا سيما في حالة العملية التي نفذها الشهيد نشأت ملحم في تل ابيب وأدّت إلى ما يشبه حالة منع التجوّل لمدّة سبعة أيام أي إلى حين القبض عليه وقتله. ثم هنالك رابعاً توتّر العلاقات بين حكومة نتنياهو والإدارة الأمريكية وعدد من الحكومات الأوروبية والأهم، خامساً، ما بدأ يظهر من انحياز في الرأي العام العالمي ضدّ حكومة نتنياهو، أو في مصلحة الشعب الفلسطيني كذلك.
في تقويم تقدير الموقف يجب إعطاء أهمية أكبر لحالة العدّو إذا كنا نتحدث عن انتصار جزئي، أكثر من الحديث عن الوضع الذاتي الفلسطيني أو العربي. ولعل الدليل على ذلك الحروب الأربع التي هُزِمَ فيها الجيش الصهيوني: بل أن أغلب الحالات التي انتصرت فيها ثورات على أنظمة ودول كان بعد أن شاخت وبدأ الترّهل يفعل فعله فيها. بل حتى في قراءة تجارب الامبراطوريات التي انهارت. فكل هذه التجارب تدّل على أن الأولوية يجب أن تُعطى لحالة القوّة المسيطرة. وهل تهيّأت للسقوط أم لا؟
طبعاً يظلُّ ما تقدّم حول الوضع الراهن، مفتوحاً على أكثر من احتمال. ولكن ما يجب أن نعمل من أجله هو الاحتمال الأقوى والأصحّ المتعلق بتبني هدفَيْ دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة، بلا قيدٍ أو شرط، وإطلاق كل الأسرى، وفك حصار قطاع غزة، وتحقيق ذلك من خلال استراتيجية الانتفاضة وما ولّدَته من أشكال مقاومة ومناخ شعبي عام. ومن ثم الانتقال إلى الانتفاضة الشعبية الشاملة والعصيان المدني السلمي.
طبعاً هذا مع الحفاظ والتأكيد على دعم ما وصلته المقاومة المسلحة من تطوّر في قطاع غزة، وإنجازاتها في حروب ثلاث. كما جاهزية قطاع غزة للمشاركة في إنزال الجماهير إلى الشوارع مشاركة في الانتفاضة الشاملة.
وبهذا يكون عندنا راهناً استراتيجيتان تتكاملان: استراتيجية الانتفاضة في الضفة والقدس واستراتيجية القاعدة العسكرية المقاوِمة في قطاع غزة. أما بقية مناطق التوزّع الفلسطيني فتبني استراتيجياتها وفقاً لأوضاع كل منها مع تركيزها على دعم الاستراتيجيتين الأساسيتين في كلٍ من قطاع غزة، ومن الضفة والقدس في المرحلة الراهنة.
إذا تكلّل هذا التوجّه بالنجاح، أي تحرير القدس والضفة الغربية بلا قيدٍ أو شرط، والحفاظ على قطاع غزة المحرّر والمقاوِم بالسلاح وفك الحصار عنه وإطلاق الأسرى فسوف يصبح الوضع الفلسطيني في حالة أفضل من أجل إنهاء الإنقسام. والأهم من أجل مواصلة عملية التحرير الكامل والعودة.
منير شفيق، مناضل، ومفكر، وكاتب عربي من فلسطين المحتلة
الأحد، 25 أيلول (سبتمبر)، 2016