كثر الحديث فى الآونة الأخيرة عن انتهاء صلاحية اتفاقية «سايكس- بيكو» بعد مرور مائة عام على إبرامها فى عام ١٩١٦، حيث تم بواسطتها تقسيم مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا فى منطقة المشرق العربى. واليوم بعد مرور مائة عام على هذه الاتفاقية الاستعمارية، بدأت تلوح فى الأفق معالم تقسيم جديد لمنطقة المشرق العربى، وقد بدأت عملية الاختراق لخريطة منطقة المشرق العربى، بقيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، واغتصاب أرض فلسطين، ولكن العملية الكبرى للفك وإعادة التركيب، بدأت مع بداية الألفية الجديدة.
كانت الحلقة الأولى فى هذه العملية، احتلال بغداد عاصمة الدولة العراقية فى ٩ أبريل عام ٢٠٠٣، وحل الجيش العراقى النظامى والتمهيد لتقسيم العراق، ثم جاءت الحلقة الثانية باغتيال رفيق الحريرى، رئيس وزراء لبنان، فى فبراير عام ٢٠٠٥، الأمر الذى فتح الطريق أمام إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والطائفية فى لبنان، وخروج الجيش السورى من لبنان، وتعزيز النفوذ السعودى فى ظل الأوضاع السياسية الجديدة، ونشوء «تيار المستقبل» بأذرعه المالية والسياسية والإعلامية فى لبنان.
ولكن الحلقة الأهم فى عملية إعادة ترتيب الأوضاع فى منطقة المشرق العربى، كان تطور الأوضاع فى سوريا، التى تعتبر بحق مفتاح الصراع على مستقبل المشرق العربى منذ حقبة الخمسينيات من القرن الماضى. وساعدت أحداث مارس ٢٠١١ فى درعا على بداية حراك داخلى كبير فى سوريا، يهدف إلى إجراء تغييرات جذرية فى بنية النظام الحاكم. ولكن فى ظل عدم استجابة النظام لمطالب الإصلاح والتغيير التى نادت بها قوى المعارضة السورية، بدأت عملية «الاستعانة بالخارج» من جانب بعض الفصائل المعارضة «ولاسيما داعش والنصرة». وقد بدأت هذه العملية تأخذ شكلا عنيفا بدءا من خريف عام ٢٠١١، وتدخلت قوى خارجية دولية وإقليمية: الولايات المتحدة، تركيا، قطر، السعودية فى مجرى الأزمة السورية. وهكذا تشكل الحلف الأمريكى التركى الخليجى لتأجيج الصراع والاقتتال الداخلى فى سوريا، وهذا استدعى بدوره تدخلا مضادا من روسيا وإيران، وتحولت الحرب الأهلية السورية إلى «حرب إقليمية» بامتياز، وبدأ طرح مشروعات للتقسيم الطائفى والعرقى فى سوريا، بما لذلك من انعكاسات خطيرة على الأوضاع فى لبنان والأردن.
***
وكانت عملية استيلاء تنظيم داعش على مدينة الموصل فى العراق، فى يونيو ٢٠١٤، بداية لتقسيم العراق، «بمباركة غربية»، حيث الأغلبية السنية فى وسط العراق، يتم فصلها عن الأغلبية الشيعية فى جنوب العراق، وبالتالى تشكل الأغلبية الكردية فى شمال العراق دولة كردستان التى تمثل حلما كرديا قديما. كذلك بدأت محاولات فك ارتباط الشمال السورى بالدولة السورية وخاصة سيطرة الجماعات المسلحة «النصرة وداعش بصفة خاصة» على مساحات واسعة من محافظات حلب ودير الزُور والرقة وإدلب لتشكل جزء هاما من خلال هذا المخطط. كذلك سعت العناصر الكردية فى الشمال السورى، لتحقيق مشروعها الخاص «بوصل الشريط الممتد من المالكية إلى عفرين، إما من أجل كيان منفصل أو من أجل جعل القامشلى مقابل دمشق بمثل وضعية أربيل مقابل بغداد ما بعد أبريل ٢٠٠٣» «جريدة الأخبار اللبنانية، عدد ٣٠ أغسطس ٢٠١٦».
وفى إطار سيناريوهات الفك وإعادة التركيب هذه، يدور الحديث فى بعض الدوائر عن كيان جديد يسمى «الأردن الكبير». وينشأ هذا الكيان عن طريق ضم مناطق من غرب العراق إلى الأردن، وكذلك اقتطاع جزء من جنوب سوريا لينضم إلى الأردن. ومن الواضح أن هذا الكيان الجديد، يهدف إلى تقويض وحدة الأراضى السورية والأراضى العراقية.
***
ولا يقتصر المخطط الجديد على تقسيم وتفتيت الوحدة الجغرافية لكل من العراق وسوريا على أسس طائفية وعرقية، بل يمتد ــ بالأساس ــ إلى تمزيق تلك المجتمعات وتدمير اقتصادها. وقد أدى هذا بدوره إلى تنامى شعور «الفيدرالية» فى كل من سوريا والعراق ولبنان. حيث يكثر الحديث فى لبنان فى الآونة الأخيرة عن قرب انتهاء صلاحية «اتفاق الطائف» الذى يعتبر أساس إنهاء الحرب الأهلية فى لبنان.
وفى تقديرى أن هناك درجة كبيرة من التقاطع بين مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذى بشر به وروج له شيمون بيريز فى إسرائيل وهنرى كسينجر فى الولايات المتحدة، وبين مشروع «دولة الخلافة الإسلامية» التى يجاهد فى سبيلها تنظيم داعش ومناصريه، حيث إن الهدف واحد، وهو تفكيك وإعادة تركيب خريطة جديدة لمنطقة المشرق العربى. وقد عبر عن ذلك رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية فى إسرائيل «هرتس هلفيه» صراحة بقوله، إن «القتال ضد تنظيم داعش فى العراق وسوريا ليس من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية».
وقد سبق أن أشار الأستاذ عماد الدين حسين فى مقال له فى جريدة الشروق «عدد ٣١ يوليو ٢٠١٦» إلى التحقيقات التى أجرتها صحيفة اللوموند الفرنسية فى صفوف المعارضين السوريين المقيمين فى تركيا، وكان السؤال الرئيسى: «لماذا استمرت داعش كما هى، وكيف يمكن تفسير سلوك الولايات المتحدة فى مجمل الأزمة السورية؟» وفى ضوء الوثائق والشهادات التى جمعتها جريدة لوموند، تبين أن عناصر من الجيش «السورى الحر» كانوا يرسلون لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، العديد من الخرائط والصور لمواقع تجمعات داعش بل وأرقام هواتف معظم قادتهم. وكانت تلك المعلومات متوافرة منذ اللحظة التى كان فيها تعداد عناصر داعش فى سوريا نحو ٢٠ شخصا إلى اللحظة التى سار فيها تعدادهم ٢٠ ألف مقاتل.
* * *
وهذا يدل على مدى التواطؤ الضمنى للقوى الغربية وتركيا التى سمحت لتنظيم «الدولة الإسلامية» بالتمدد فى أراضى سوريا والعراق والمساهمة فى تمزيق الوحدة الجغرافية والبنية الاقتصادية والاجتماعية لتلك البلدان خلال السنوات ٢٠١٤ــ٢٠١٥ قبل أن تقرر التصدى لها عام ٢٠١٦، بعد استفحال خطرها على ذات البلدان الراعية لها. وبعبارة أخرى، بعد انتهاء صلاحية الدور المرسوم لها، بعد أن عاثت فى الأرض فسادا، وترتب على ذلك نزوح نحو 3.4 مليون عراقى، وفقا لتقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين.
إذ أنه فى حالة عدم الحسم لهذه النزاعات عسكريا أو الوصول إلى تسوية سياسية لها، يصبح «شبح التقسيم» أمرا واقعا لا محالة. ففى خلال قتالهم أمام تنظيم الدولة الإسلامية، أعاد الأكراد رسم خريطة جديدة لشمال العراق، ووسعوا نطاق المنطقة الخاضعة لسيطرتهم بواقع ٥٠٪ «وفقا لتقرير بثته الـ BBC»، ونفس الوضع تحقق فى شمال شرق سوريا بعد التدخل التركى فى جرابلس، حيث هناك منطقة حدودية تمتد حتى مدينة الباب يتنازع عليها الأتراك والأكراد. وتشير الأنباء إلى وجود ثلاث مقاطعات «للإدارة الذاتية» فى كل من الحسكة وعفرين وعين العرب «كوبانى» فى الشمال السورى، وذلك فى أعقاب أحداث الحسكة فى شهر أغسطس ٢٠١٦.
* * *
ومن ناحية أخرى، يشير جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكى ليكس، إلى أن الاستراتيجية الأمريكية كانت تهدف إلى إخلاء سوريا من سكانها ورأسمالها البشرى من خلال موجات النزوح الجماعى التى أدت إلى نزوح ١.٤ مليون شخص إلى الأردن، ونحو ٤٠٠ ألف إلى مصر، بخلاف لبنان وتركيا. ويضيف أسانج أن هجرة المهنيين كالأطباء والمهندسين والأكاديميين والمحامين والكوادر الإدارية يؤدى إلى انهيار الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى سوريا. «مقابلة مع وكالة «برس بوجيكت» ٧/١٠/٢٠١٦». وهذا مقصود فى حد ذاته.
كل هذه التطورات لها تداعيات بالغة الخطورة على خرائط النفوذ ومعادلات القوة فى منطقة الشرق العربى وعلى النظام الإقليمى العربى عموما، وكما كتب أحد الكتاب أخيرا ساخرا: «بدلا من شعار تحرير فلسطين أصبح شعار المعركة الآن هو «تحرير الموصل». وهذا يشير بوضوح إلى تحريف التناقض الرئيسى بين العرب وإسرائيل وتحويله إلى محاربة تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش).
كما يتضح أيضا من خلال سير الأحداث أن تحرير شمال سوريا والموصل فى شمال العراق من تنظيم داعش، يفتح الباب لإحلال النفوذ الأمريكى والتركى على حساب سيادة ووحدة الأراضى السورية والأراضى العراقية. وكأن تنظيم داعش بالنسبة للذين مولوه وسلحوه ودربوه بمثابة «حصان طروادة» لاختراق وتفكيك منطقة المشرق العربى وتعرية الأمن القومى المصرى فى جبهته المشرقية، إذ تشكل كل من سوريا والعراق العمق الاستراتيجى لمصر على مر العصور.
محمود عبد الفضيل، مفكر ومناضل سياسي عربي من مصر
1 نوفمبر/تشرين الثاني 2016